شتات الذاكرة و أوجاع غائرة .
ليلة شتوية بامتياز تلك التي تحرك فينا آهات الذات و أنين الذاكرة …لا يمكن لتلك اللحظات الثائرة و تلك الأحلام المنهمرة في صمت لاينبئ مطلقا بعاصفة قادمة ….مثل ذلك الغيث الذي ينزل في سكينة ينساب على جروحنا العميقة و ينشر فيها العافية .
لا يمكن لتلك اللحظات أن تبارح مكانها و ركنها المألوف في تفكيرنا ..تتسلط ،تتمرد أحيانا و تجبرنا أن نبتلع عبراتنا الحارة ،فتشتعل بأرواحنا نيران الاشتياق الحارقة
وسط تلك العتمة أشعلت شمعة سبق لها وأن اشتعلت …تقلص حجمها ولكن ضوءها انبعث خافتا و كان كفيلا أن يعكس ظلي على تلك الجدران القديمة الواهنة ..كانت تجاعيد الزمن ترهقها و زادها ظلي بكل ما يحمله من آلام غائرة إرهاقا.
تسربت بعض النسمات الباردة عبر ذلك الزجاج المنكسر قليلا ..و أطفأت الشمعة و انصرف ظلي مسرعا إلى مكان لا أعرفه …بقيت لوهلة في ذلك الظلام الدامس ألملم شتات ذاكرتي و أعيد كل لحظة و كل حكاية إلى رفها إلا أن الأمر كان صعبا …
كان لابد من إشعال الشمعة من جديد ليعود ظلي من جديد فهو الوحيد الذي يمهلني وقتا طويلا لينصت إلى خواطري و إلى حماقاتي أيضا …
ولازالت الليلة بسحرها العجيب تهز كياني و تحرك مشاعري و تنقلني عبر أمواجها العاتية لتلك الجزيرة الآسرة ..و ليالي الشتاء طويلة سيكون هناك متسع من الوقت لأستلقي على رملها و تحت تلك الشجرة الباسقة سأدفن جزءا من تلك الذكريات الغابرة التي تأبى الرحيل .وسأعود إلى مكاني لأرسم لي أحلاما جديدة أبطالها أشخاص جدد أكثر صدقا و نبلا و وفاء …..
كان ذلك ظني و اعتقادي …عجزت تماما عن رميها و تصلبت أطرافي …و توقفت بي آلة الزمن و تشبثت تلك الذكريات بي كطفل رضيع يأبى فراق أمه…تصرخ قائلة : أنا جزء منك و فيك …كيف يمكنك التخلي عني ….حينها أدركت أنها لم تكن جزءا مني فحسب بل كانت كلي ….. عدت عبر قاربي و لكن الجو كان صحوا و لم تكن أمواج البحر عالية …عدت دون هلع و كأنها إشارة على أن عدم مفارقتي لذكرياتي كان الخيار الأمثل ….
عدت إلى ذلك الركن من غرفتي ووجدت الظلام الذي كان يسكنه قد رحل وعاد إليه الضياء من جديد …كان لابد أن أستجمع قوايا و أقف على أعتاب ذاكرتي لأطل على عالم جديد …هذا ما أيقنته …
لازال المطر ينزل في رتابة أخذت قلمي لأدون ما يجول بخاطري …كان قلم الحبر قد جف تماما كما جفت الكلمات في فمي …كان يراودني شعور مبهم ….و ينقصني أمر ما …
أجل إنه فنجان قهوة ساخن مركز مع نصف ملعقة سكر ..لاتستهويني ولا أستصيغها مطلقا حلوة …و يبقى ليلي يقظا و تلك القهوة بإمكانها أن تخرج الكلمات الحبيسة في حنجرتي عنوة و أن تقضي على ذلك الركود الذهني الذي أصبحت أعاني منه أحيانا …
و تنطلق تلك الكلمات كمفعول السحر تتناثر بين أسطر تلك الورقات البيضاء ….بعبارات حزينة أليمة و أخرى متفائلة تنقضي أسطر الصفحة الأولى لأنتقل إلى أخرى ..لم تكن مطلقا هذه اللغة تستهويني …عمق معانيها و كثرة دلالاتها كانت تربكني و لكنني أضحيت لا أتقن إلا هذه اللغة فلعلها وليدة الظروف و المحن.
و يسري الليل رويدا ينشر خيوط النعاس على أهدابي و يعيد لملمتها من جديد …و يبقيني بجسد متعب و عقل فطن أصارع النسيان …فجأة ينقطع المطر و يتسلل خيط رفيع من الضياء ينساب عبر تلك الشقوق في زجاج نافذني….لقد طلع النهار و غفا الليل بين أحضاني و أنا لم أغفو بعد .
نال مني التعب و استسلمت أخيرا ….استلقيت على سريري و تناولت كوب ماء أخمد نيران إلهامي .
غصت في نوم عميق و استفقت على طرق خفيف على الباب …تخيل إلي لوهلة أنه جزء من حلمي المبتور …سرت متثاقلة نحو الباب فالتعب لازالت يسري في كل أرجاء روحي و بصوت مبحوح سألت :من الطارق …كررت ذلك مرتين ولم أجد لسؤالي ردا ،فقررت أن أفتح الباب …
وجدت باقة ورد أحمر على الأرض حملتها و كأنني أحمل قطعا مكسورة من قلبي ،وجدت بداخلها علبة شوكولاطة ..نوعي المفضل …وورقة مطوية ..استجمعت كل قوايا لأفتحها و أقرأ ما فيها …كانت شكوكي تضمحل شيئا فشيئا …..
إليك نجمتي ،إليك يا أميرة تربعت على عرش مملكتي …إليك يا وطنا احتواني بدفئه فهجرته وأضحيت غريبا بين الأوطان …إلى أحن نساء الدنيا ….لقد بحثت عنك طويلا ..هجرك لي كسرني ..كان درسا قاسيا ….أعلم أن قلبك رحب و سيفتح لي بابه مجددا …و أعلم أنك ستتناولين قطعة من تلك الشكولاطة التي كنا نتقاسمها بكل حب …..سأعود مجددا طارقا بابك …فامنحيني فرصة لأكفر عما فات…
لم يعد بإمكاني الوقوف ..تسرب الوهن أكثر إلى بدني
و ارتجفت يدايا و أوقعت الورقة …حملتها و جلست على كرسي أسترد أنفاسي الضائعة بين تلك الكلمات … و أصبحت على يقين من صاحب الكلمات .إنها لغته و ثقته العمياء أنا من تعرفها جيدا …..الحبيب الخائن …ذلك الجزء من ذاكرتي الذي قررت رميه خلف البحر فأبى و ظل متشبثا بي ……إلى لقاء قريب عزيزتي كانت تلك آخر عبارة في الورقة …و نقطة نهاية كتلك التي أنهيت بها وجوده في حياتي لأكثر من ثلاث سنوات …لقد غيرت مقر سكني و اعتزلت كل العوالم التي كانت تجمعنا …أدمنت السمر و الكتابة و كان لي في كل ليلة موعد مع ظلي و ذكراه …
لقد تعب حتما ليجدني …..تشابكت الأفكار في ذهني ككبة صوف لا يمكن العثو ر على بدايتها ..ذلك الشتات الرهيب و تلك الفوضى العارمة التي خلفتها كلماته في ذاتي ….أخذت تلك اللحظات الجميلة التي عشناها تزاحم أوجاعي …هل انتشر سحر كلماته و استفحل في روحي ..أسامحه …نعود لعالمنا الوردي ….نشعل نيران الحب الخامدة مجددا و نحلق سويا كعصفوري كناريا مغرومين…كانت تلك الهمهمات الدفينة تنطلق من أعماقي و تمتزج بزفرات وجع و آهات ألم و تنهيدات حارة ….عن أي عالم وردي تتحدثين و هو الذي حوله بجرمه إلى عالم حالك قضيت فيه أياما مريرة ….ليس بإمكانه احتواء ذلك الوجع الذي سببه لك …رمى بسهم الغدر و مضى غير مبال لكبريائك الطاغي ……
دام ذلك الصراع بداخلي ثلاث ليال كاملة ..بحجم و ثقل ثلاث سنوات الهجر و الاشتياق ..لم يطرق الباب خلال هذه الأيام …لقد أمهلني وقتا كافيا لأتخذ القرار الذي كان يثق أنه سيكون لصالحه فهو يعهدني حنونة لأبعد الحدود .
وفي الأخير هدأت تلك الزوبعة الثائرة و أخذت أستفرغ سم خيانته على ورقة بيضاء دونت فيها مايلي ..
إليك يا رجلا أهديته العمر و أسميته عمري…إليك يامن علمتني الحب على أصوله و كيف يمكن لحبك أن يحييني و و غدرك بسهامه يقتلني…إليك يا من أنرت ظلمتي و خيانتك كسوف ما بعده ضياء يا قمري..
لا يمكن أن يجتمع الضدان ..و لا يمكن للزجاج المكسور أن يعود لأول حاله … فقط غادر و ارحل و اتركني فقد اعتدت طيفك وكتاباتي و فنجان قهوتي و السهر. اتركني في عالمي فجرحك غا ئر و لن تشفى ندوبه على مر الزمن …جرم الخيانة شنيع ..فلا تنتظر عفوا ..أما أنا فمؤمنة كل الايمان بما يخبئه لي قدري ..
طويت تلك الورقة وطويت بداخلها كما رهيبا من الحزن و دخلت أحزم حقائبي وأجمع أغراضي و كل ذكرياتي التي عشتها معه و أحكم ربطها حتى آخذها إلى مكان آخر من هذا العالم ..مكان جديد يكون فيه غائبا حاضرا …قررت أنا الرحيل لأني على يقين أنه لن يرحل بعد رحلته الطويلة في البحث عني ….أعلم أن رحيلي هذه المرة سيتجرعه أكثر مرارة من رحيلي في المرة السابقة ..و سيؤلمه يقدر ما آلمتني خيانته بل و أقسى …
في الصباح الباكر خرجت و حدسي و كل جوارحي تمليني أنه سيعود اليوم ….تركت الورقة أسفل الباب …و التجأت إلى مكان قريب أترقب عودته دون أن يلمحني و بالفعل جاء …لم أره منذ زمن…
فقد الكثير من وسامته و أناقته و ارتسم أثر الندم على وجهه و بدا أكبر من طيفه الذي لم يفارقني و أكثر نضجا منه . طرق الباب فلم يجد ردا ثم لمح الورقة .أخذها و بدأ بقراءتها …..كنت أراه ينحني و يميل تدريجيا إلى أن هوى على ركبتيه و بكى …و انسكبت دموعه تصهرني …لم أرى دموعه قط من قبل فقد أدخلته عالمي السعيد ولا أدرك لحد الساعة لماذا طعنني ..
قام بصعوبة و سار كشيخ طاعن في السن زهد الدنيا و يود الرحيل…كلماتي كانت قاتلة بالنسبة إليه …لأنه لم يعهدني مطلقا جافة وقاسية ……لم يكن يدرك أن امراة من نوع خاص تعشق حد الحنون و لكن كبرياءها سيف قاطع لمن يعبث بمشاعرها ….و الخيانة في نظرها قاتلة للحب و هل الأموات يا سيدي إلى عالمنا يعودون ………….كانت آخر مرة رأيتها فيه و مضى و مضى طيفه معه أيضا هذه المرة .