زكريات ايامى معه
تجلس على الرمال بإسترخاء تراقبه بعينان مرهقتان, يسبح بمهارة لا تتناسب مع سنواته الثمانية, يشير لها بيده كل حين ببهجه لا تفارقه عندما يكون بين الأمواج, تشير له ثم تعود لتعبث بعود من الخوص في الرمال, ترسم وجوه و قلوب و تكتب حروف و أسماء يضيعوا جميعاً مع الأمواج الزاحفة على الشاطئ, لا تكترث تعاود الرسم من جديد, يناديها بصوته الرفيع (تعالي البحر جميل) تبتسم, تهز رأسها بالنفي و ترفع كتفيها, يضطر للخروج من البحر بجسده النحيل الأسمر اللامع و يجرها من يدها بإصرار (تعالي عشان خاطري يا ماما)...لا تقاومه.
البحر يثيرها بأمواجه و كأنه نداهه, تخشى الإستجابة لمداعبته لها, تشعر و كأنها ستذوب بين زرقته في يوم ما, أو قد يبتلعها برقته و غدره, لذلك تفضل المكوث على الأرض, أأمن, الشاطئ دافئ و سعيد و آمن, يضحك عليها و هي لا تجيد السباحة, فقط تستلقي على سطح الماء بإستسلام (إزاي إنتِ كبيرة و مش بتعرفي تعومي؟) (عشان أنا شجعتك لكن أنا مالقيتش حد يشجعني)
لوح خشب يسبح على السطح يقترب منهما, يسألها الصغير بحماس كبير,
-إيه ده يا ماما؟
-ده لوح خشب..تفتكر بتاع إيه؟
-مش عارف.
-فكّر.
-ممممم مش عارف قولي بأه.
-ممكن يكون لوح من سفينه قديمه غرقانه في قاع البحر, و طلعلنا دلوقتي كعلامه عشان نحاول نلاقي السفينه...أكيد فيها حاجه مهمه.
بعيون مملؤه بالدهشه يسأل: حاجه مهمه زي إيه؟
-زي خريطه مثلاً.
يخرجا من البحر ليستكملا حوارهما على الشاطئ في تمشية تغطي الأقدام بالزبد الأبيض الذي يدغدغ بإغواء لنزول البحر, كجزء من النداهه, تظل أسئلته المتحمسه و تظل إجاباتها المُحيره التي تستدعي أسئله أكثر, حتى يتعثرا في حبل ناتئ من الأرض, مربوط بشئ مدفون على الشاطئ, تتظاهر بالذعر, تزداد دهشته و هو في حاله لتصديق أي شئ, يستمر في الأسئله:
-خوفتي ليه يا ماما ده حبل..
-أيوه حبل مربوط في إيه يا ترى؟
-مش عارف يمكن حجر.
-لأ طبعاً ده أكيد مربوط في صندوق الكنز.
-صندوق الكنز؟!
-أيوه اللي كانت بتدوّر عليه العصابة اللي في السفينه الغرقانه.
-طب يالله نشدّه.
-لأ يا حبيبي بلاش..لحسن يكون فيه جماجم و أنا بخاف من الجماجم.
يحاول شدّه دون إكتراث بكلامها و لا يفلح, بضجر يسألها:
-ماما جبتي القصه دي كلها منين؟
-حبيبي في حاجه إسمها...خيال...يعني تقدر تشوف حاجات و إنت مشوفتهاش و تعيش حاجات عمرك ما عيشتها.
-عارف يا ماما عارف..الخيال ده اللي كل ما بابا بيسمع إسمه بيشتم فيه.
**************
-تحب تاكل فين؟
- هناكل برّه..yesssss.
تخفي عنه كرهها لتناول الطعام في المنزل وحدهما, يمضغا الوحده, يبتلعا الملل, يشربا الصمت, تتجلى لها حقيقة كم هي وحيده في هذه الدنيا فصغيرها له مستقبله و حاضره معها أما هي فلا تملك إلا ماضيها البائس, تضيع كل هذه الهواجس بين صخب المطاعم و همس البشر حولهما.
-ماكدونالدز يا ماما طبعاً.
-مبحبوش..أنا عايزه المطعم الإيطالي.
-يا ماما عشان خاطري..ده عامل هدايا ألعاب مدغشقر 3 .
-خلاص نشتريلك وجبه و نروح المطعم الإيطالي تاكلها هناك.
-بس تيجي معايا دلوقتي نجيب حاجات حلوه.
يسحبها من يدها لأقرب سوبر ماركت, يدخل كخبير ينتقي شوكولاتاته المفضله, أما هي فتختار جيلي كولا و مارشيملّو, يسألها و هما يقطعان الطريق,
-إنتِ ليه بتحبي الحاجات الحلوه الطريّه؟
إنتبهت لأول مره على حقيقة أنها لا تحب الطعام الذي يقضم, تفضل الطعام الذي يذوب في الفم ببطئ, يجعلها تتلذذ أكثر, ربما لأنها لا تستمع في حياتها إلا بهذه الأشياء البسيطه.
-مفيش شوكولاته إلا بعد الغدا.
في المطعم الإيطالي تطلب حساء كريمة الدجاج, و السبرينج رولز بالخضروات, تحتسي طعامها في هدوء, يقطعه هو بطلباته و أسئلته المستمره, تتساءل في نفسها (يا إلهي لماذا خلقتنا أمهات..نعيش بنصف عقل و نصف تركيز و لا ننعم بالراحة أبداً)
-ماما إفتحيلي الكاتشب.
-حاضر..
-ماما إنتِ هتشبعي من الشوربه بس؟
-أيوه أنا عايزه أخس.
ينظر لها بتعجب و يرد: ماما إنتِ رفيعه..ده إنت شكلك أصغر و أجمل بكتير من مامة كريم و مامة عمر.
تبتسم بإمتنان و هي تتذكر كيف كان يقول لها زوجها دائماً (إنت فاكرة نفسك حلوه بجد..إنت مبتبصيش في المرايا)(إنتِ بقيتي تشبهي خالتي) (خلي بالك أنا مباطيقش التخن) و ما ذنبها و قد كانت رشيقه ممشوقه عندما عرفته, و لم يتغير جسدها إلا بفعل إحتضان طفلهما بين ثناياه,
إنتهى من طعامه قبلها و راح يعبث بمحتوايات حقيبتها, كعادته يلعب بألعاب الهاتف المحمول, يشاهد صورة للمره المائة دون ضجر, ثم يتفقد حافظتها و الصور القليله التي تحتويها له و لأجداده و أخواله, وجد كارت قديم مخبأ بالمحفظة عليه صور ورود كانت زاهية يوماً ما,
-ماما إيه الكارت القديم ده؟
تناولته منه و راحت تطالع الكلمات المكتوبه خلفه بخط رفيع متناسق "أهلاً بك ملكة هذا البيت" يا الله إنه الكارت الذي كان يزين الزهور التي قدمها لها أول مره تزور بيتهما و هو مكتمل الفرش, إبتسمت بمراره و هي تتذكر كلماته في آخر حديث جمعهما (ده مش بيتك..أنتِ هنا ضيفه..و ضيفة تقيله كمان)..كانت ملكه للبيت عندما كانت صبية صغيرة لا تعرف عنه شيئاً, أما الآن و هي إمرأة مكتملة و أم عمّرت البيت و نثرت فيه روائح العطور و الطهي و اللبن و تعرقت بكل ركن فيه, فهي مجرد..ضيفة.
-أنا هاكل الشوكولاته و هسيبلك المارشيملّو..ذوقك وحش في الحاجات الحلوه على فكرة.
***************
قبل أن ينام في السرير يقف متذمراً في الغرفة,
-أنا عايز أعرف إحنا ليه كل عيشتنا في الأوضه دي؟
-عايز تعيش فين؟
-إحنا ليه مش بنقعد برّه في الريسبشن؟
-عشان هنا أجمل كل حاجه قريبه.
الغرفة مكدسة بالأغراض, كنبة صغيرة, سرير, تليفزيون, دولاب, مائدة صغيره للطعام, و الكثير من الألعاب أو بقاياها, كانت تحاول إقناعة بالغرفة دون أن تشعره أنها تخاف الخارج, حتى لو كان في نفس المنزل, تتمنى أحياناً ألا تغادر الغرفة أبداً, و لكن بعض من طاقتها الإيجابية تجبرها على الخروج و الإنتصار على الخوف...الذي يتجلى في المساء.
ينزلق في السرير بحجمه الصغير و يطالبها بحدوتة قبل النوم, تراوغه و تحاول أن تقنعه بأنها تعبه و لا تستطيع أن تضع جمله واحده مفيده, يفاجئها:
-ماما إنتِ ليه بقيتي على طول زعلانه؟..أنا عايزك تضحكي و تحكيلي حواديت زي زمان.
-أنا مش زعلانه عايز تزعلني بالعافيه..طب نشوف مين فينا يقدر يضحك التاني أكتر.
بدأت تباغتته بزغزغات في البطن و تحت الإبط و راح هو الآخر يبادلها الزغزغه و الضحك الهيستيري, المصحوب بشجن الحقيقة.
-تعالي فـ حضني.
-أنا ماما أجي فحضنك إنت يا زئرد.
-أيوه..مش إنت بتحبيني؟ تعالي و إحكيلي حدوتة.
-طيب هحكيلك يا لمض.
-بس قبل ما تحكيلي..قوليلي هنرجع بيتنا إمتى..لعبي وحشتني و سريري وحشني و كمان...بابا وحشني.
إهتز قلبها بعنف من كلماته, نظرت لملامحه التي تشبهها حد التطابق, عيناه الفرحتان, شفتاه البارزتان, لا يحمل شئ من أباه كأنه كان وليدها وحدها, إشتياقه له يمزقها و يقودها لحقيقة أنها أيضاً تشتاقه, تشتاق شخصه القديم الذي أحبته,
-هحكيلك حدوتة الشاطر فُلان اللي حبّ الأميره فُلانه.
-يووووه أنا عايز حاجه جديده..زي بن تن, مغامرات, وحوش..و أكون أنا البطل.
-خلاص يبقى مش هحكي..أنا ماليش في بن تن..سبونج بوب ألطف.
-طيب أحكي أي حاجه..كل حواديتك منتوته.
-ملتوته.
-منتوته و ملتوته.
راحت تحكي له عن الصعاب التي واجهها الشاطر فُلان و السحر الذي قابله, و التنين الذي حاربه, و البحور التي عبرها من أجل أن يصل لأميرته الجميله..نام الصغير, خلعت من يده ساعة بن تن, و راحت تكمل الحدوته, (بعد سنوات من زواج الشاطر بالأميره..إكتشف أنه فعل الكثير و جاب المخاطر من أجلها, بينما هي كانت منعمه بين الحرير و الذهب في قصرها و حديقتها الغناء, هي لم تعاني مثله, هي لم تفعل شيئاً أبداً, هي لا تستحقه..و لا تستحق أن تكون أميرة)
لم تُحكم النهايه كعادتها, غريب برد يوليو, كل شئ غريب, البيت غريب, المدينه غريبه, الناس غرباء, و الصغير مطمئن بها لا يعرف أنها هي المطمئنة به, نهضت من السرير, إرتدت عدة أرواب, و راحت تجوب الشقة في توتر, فبالرغم من الطبقات التي تغطيها, إلا أنها تشعر أنها عُريانه لا شئ يغطيها على الإطلاق و بردانه كأنها لم تذق شيئاً من الدفئ.
ثم راحت تنام ملتصقة به كطفلة في حُضن أبيها.