قصة الرجل الشبح الذي لا يظهر على كاميرات المراقبة
بعد يوم طويل وشاق دخل مجيد إلى الغرفة الخلفية للمحل واستلق على الكرسي الذي يقابل شاشة الثلاث كاميرات المراقبة، أخذ من جيبه قطعة شكولاطة والتهمها وطرق في ذهنه أن يتفقد سجل مشتريات التي وصلته اليوم ليحسب قيمة تلك المشتريات ويحضر القائمة كاملة لشريكه رضا الذي غادر منذ ساعات..
الساعة الآن حوالي السابعة مساء، ورضا متعود أن يسير المحل في النهار بينما يتولى مجيد الأمور في المساء، بالإضافة إلى ثلاثة عاملين وهم كل من محمد وجمال ونور الدين يتداولون على طول اليوم بحيث يكون اثنين منهم متواجدا في المحل دائما، المحل عبارة عن بقالة قد افتتحه رضا ومجيد بالشراكة قبل قرابة السنتين، في أشهره الأولى كان المحل صغيرا لبيع المواد الغذائية العامة، وها هو اليوم بعد مرور أقل من عامين يتحول لمحل بقالة كبير يلبي طموح الشابين، بحيث يوظف ثلاث عاملين ومحروس بثلاث كاميرات.
رفع مجيد رأسه من الآلة الحاسبة والدفتر الذي بين يديه ليلقي نظرة على شاشة الكاميرات، فلمح رجلين في المحل أحدهما في أقصى اليمين في الزاوية المخصصة للحفاضات وأغراض الأطفال مثل الحليب وما إلى ذلك، أما الثاني فهو في وسط المحل تقريبا وبدا وكأنه يتجه إلى مكتب الدفع ليدفع ثمن أغراضه، اضطر مجيد ليوقف حساباته لكي يقوم بالقبض على الرجل فهم خارجا من الغرفة ليجد شخص آخر ينتظر عند المكتب، أكمل مجيد محاسبة الرجل وقبض عليه ثمن أغراضه والدهشة بادية على وجهه، ثم أكمل المهمة ذاتها مع الشخص الثاني وهو ينادي لمحمد، ولما أتاه طلب منه الدخول للغرفة الخلفية الصغيرة والتي خصصها مجيد خصيصا للمراقبة وكذا الاسترخاء وحساب فواتير المحل وما إلى ذلك بعيدا عن أعين الناس، وهمس في أذنه قائلا: تفقد الكاميرات ي محمد وقل لي ماذا ترى، ولما انتهى مجيد من القبض دخل الغرفة وسئل محمد عما رآه فأجابه بأنه لم يرى شيئا غير عاديا، مجرد شخصين الأول كان يهم خارجا من المحل بعد أن انتهى من شراء حاجاته ودفع ثمنها، أما الثاني فقد كان واقفا عند مجيد يدفع له، فاندهش مجيد وقال له: عجيب لقد كان هناك رجل قبلهم ولم أشاهده في الكاميرات، خرجت لأقبض على الرجل الذي رأيته يخرج فوجدت رجلا آخر ينتظر عند المكتب، فضحك محمد ورد على مجيد قائلا: اه ي مجيد لابد أنك قد تعبت أو أنك لم تتعود بعد على مراقبة الكاميرات، لأن مجيد وفي فترته المسائية قل أن يجلس لينظر إلى شاشة الكاميرات لأنه طول الوقت مشغول بالقبض على الزبائن ومراقبة المحل من داخله، وقف مجيد متعجبا من الأمر وفي رأسه أفكار تتلاطم حول ذلك الرجل الغريب الذي لم يظهر في الكاميرات.
بعد أربعة أيام وفي الوقت نفسه تقريبا عاد ذلك الرجل للظهور، في هذه المرة لم يتعرف عليه مجيد لأنه كان منشغلا بالقبض على الزبائن، وحتى لما وصل دور الرجل الغريب لدفع ثمن ما اشتراه ونظر مجيد في وجهه طرق في ذهنه أنه قد رآه من قبل إلا أنه لم يتعرف عليه، لكن الرجل حين هم ليدفع سكن واقفا في مكانه لا يتحرك قرابة الدقيقة، فاستغرب مجيد من ذلك لكنه انشغل ببقية الزبائن حتى دفع ذلك الرجل له وغادر دون أن يتكلم مع مجيد أي كلمة.
في اليوم التالي وفي الوقت نفسه كان مجيد وشريكه رضا متواجدين في المحل معا، فقد عاد رضا بعد أن أخذ راحته المسائية من أجل بعد الأمور المتعلقة بتسديد نفقات المحل وما إلى ذلك، وبينما هو جالس داخل الغرفة الخلفية ومجيد واقف على طرف بابها، بحيث يراقب مكتب المحاسبة وهو يحدث شريكه جاءته امرأة لتدفع ثمن مشترياتها فقبض عليها ورجع إلى مكانه، وبينما هو يراقب المرأة وهي تخرج حتى دخل الرجل الغريب إلى المحل، هذه المرة لم ينتبه إليه أحد أخذ بعض الأغراض سريعا ودفع حسابها وغادر على عجل، لكن مجيد وهو يقبض عليه ثمن مشتريته تذكر بأنه الرجل نفسه الذي وقف ساكنا لا يحرك بالأمس، وبينما مجيد عائد للغرفة الخلفية ليحدث شريكه عن هذا الرجل، عاد الرجل الغريب ليأخذ شيئا قد نسيه، وبمجرد أن قال مجيد لشريكه أترى هذا الرجل الذي سيغادر الآن وهو يشير إلى الشاشة اكتشف أن الرجل لا يظهر في شاشات الكاميرات، فذهب مسرعا ليرى إن كان الرجل قد غادر بهذه السرعة فوجده قبالته مباشرة عائد ليشتري أمرا قد نسيه، رجع مجيد مسرعا إلى شريكه رضا وقال له بأن يذهب هو ليقبض على ذلك الرجل الغريب فالأمر بدأ يصبح غير عاديا بالمرة، وبقي هو يراقب الكاميرات الثلاث ويشاهد امرأتين تدخلان ولما أطل من باب الغرفة وجد الرجل لا يزال يلملم أغراضه ليغادر المحل، في حين الكاميرات لا يظهر فيها سوى تلكما المرأتين.
جلس مجيد مستغربا حائرا من أمره لا يدري ما يقول أو يفعل، في حين عاد شريكه رضا ضاحكا يريد أن يستفسر ما سر هذا الرجل الغريب وهل حقا لا يظهر على الكاميرات أم أن في المسألة مقلب ما، أما رضا فقد بقي مندهشا غارقا في دهشته لأكثر من عشر دقائق وهو يتساءل كيف لهذا الرجل الغريب ألا يظهر في الكاميرات، أيعقل أن يكون شبحا أو جنا أو أن في الأمر لغز ما..
******
أصبح الرجل الشبح الذي لا يظهر على الكاميرات حديث الجميع في المحل لكن الذين رأوه هم مجيد ورضا فقط، أما كل من محمد وجمال ونور الدين فلم يروه بل سمعوا عن القصة وكانوا حاضرين في المحل، خاصة وأن الرجل أصبح يتردد إلى المحل بين الفترة والأخرى ودائما ما يأتي في الوقت نفسه مرتديا الملابس ذاتها بل وحتى يقتني المنتجات ذاتها، فأصبح الجميع في المحل يعرفونه ويخافون منه يكادوا يفروا من المحل حين يدخل، وكلما حاول مجيد أو رضا أو أي أحد التكلم معه إلا وكان كلامه قليلا ولا يجيب إلا ببضع كلمات..
في أحد الأيام وبينما الرجل الغريب في المحل أخرج مجيد هاتفه متظاهرا بالانشغال به، وفتح كاميرا الهاتف ليصور الرجل في فيديو، فقام بتصويره لمدة دقيقة ونصف تقريبا دون أن يظهر شيئا على الفيديو، فتأكد مجيد أن الرجل الغريب أو الشبح لا تلتقطه الكاميرات وليس هناك أي مشكل أو خلل في كاميرات المحل، وحتما هناك لغز يخفيه هذا الرجل.
قرر مجيد أن يذهب إلى مصالح الأمن وإخطارهم بالقصة ليتفاجأ بأنهم قد سمعوا القصة نفسها من صاحب محل ثان قبل أيام، إلا أن هذا لا يخول لهم القيام بأي شيء كون الرجل لا يؤذي أحدا ولا يقوم بأي أشياء غير قانونية، كما أن المسألة قد تكون خلالا ما في كاميرات المراقبة أو أن هناك سببا ما يمنعه من الظهور فيها، لكن ومع ذلك فوعدوه بأنهم سيكتبون تقريرا للسلطات العليا للأمن يوضحون فيها هذه القصة الغربية معتمدين على شهادة مجيد وصاحب المحل الثاني.
عاد مجيد وقد استفسر عن صاحب المحل الثاني الذي سبق وأن حكا قصة هذا الرجل الشبح إلى مصالح الأمن، ولما عرف مكانه توجه إليه مباشرة، انتظر قليلا حتى جاء صاحب المحل وبعد حديث قصير معه اتضح بأن الرجل هو نفسه وأنه يأتي في هذا الوقت دائما وهو الأمر الذي يحصل مع مجيد، وبما أن المحلين يفصلهما شارعين فقط فمن الممكن أن يدخل هذا الرجل إلى المحلين معا في الساعة ذاتها فلا داعي للاعتقاد بأنه شبح يزورهما في الوقت نفسه.
اتفق مجيد وصاحب المحل أن يسجلا معا الوقت الذي يأتي فيه ويخرج بالتحديد، ولكن مجيد لم يكتف بذلك بل قرر تتبع خطوات الرجل والتجسس عليه، وأخذ معه جمال لكن هذه المرة لم يستطيعوا اقتفاء أثره.
بعد بضعة أيام دخل الرجل الغريب إلى المحل واشترى ما تعود أن يشتريه ثم خرج، تبعه مجيد ومعه نور الدين ومشيا خلفه من بعيد وشيئا فشيئا اتضح أن الرجل يتجه إلى المحل الثاني الذي سبق وأن اتفق مع صاحبه على مراقبة هذا الرجل الشبح، دخل الرجل واشترى أغراضه مثل العادة ثم خرج، دخل محلا آخر فانتظره مجيد وصاحبه في الخارج حتى خرج وأكملوا مراقبته وتتبعه، وبقي مجيد وصاحبه وراء الرجل قرابة الساعة ونصف حتى وصل إلى إحدى البنيات القديمة التي يعود عهدها إلى الرومان، ومنذ أن غادرت فرنسا بقيت تلك البناية على حالها لا يستغل لا من طرف الدولة ولا من طرف المواطنين، وممنوع هدمها أو الاقتراب منها لأنها تنتمي إلى التراث المادي للبلد.
وصل ذلك الرجل الغريب إلى جنب البناية التي يحوطها صور صغير مبني بالحجارة من عهد الاستعمار الفرنسي وباب خشبي كبير، ولم يستطع مجيد أن يراه وهو يدخل ولكنه اختفى من الشارع تماما، حاول مجيد أن يطل من الباب أو أن يسترق النظر من فوق الجدار لكن لا فائدة، يبدو أن الرجع الشبح قد اختفى أو أنه دخل إلى هذا المبنى العتيق.
عاد مجيد مباشرة لمصالح الأمن وأخبرهم بما جرى، فذهبوا هذه المرة ليتفقدوا الأمر لأن المبنى محمي وممنوع الدخول إليه، ولكنهم لم يعثروا على أية آثار أو أي شخص في الداخل.
رجع مجيد إلى محله وهو يحمل معه لغزين بعد أن كان يحاول حل لغزا واحدا، لغز الرجل الذي لا يظهر في شاشات الكاميرات، ولغز المبنى الذي اختفى عنده.
******
أصبح هذه الرجل الشغل الشاغل الذي يحرك فكر مجيد ورضا وكل من في المحل، فكلما اختفى فترة إلا وعاد إلى الظهور، وكلما اقترب منه أحد أو تكلم معه أو حاول أن يلمسه ليتأكد من كونه بشر وليس شبحا أو جنا إلا وعاد ليختفي فترة من الزمن.
وفي أحد الأيام التي ظهر فيها مجددا هذا الرجل الشبح في المحل اتبعه مجيد بعد أن خرج فوجد أن له مشوارا واحدا لا يحيد عليه، أي طريقا واحدا والمحلات التي يدخلها نفسها وبالترتيب ذاته، حينها تمنى مجيد لو يعرف ما الذي يفعله هذا الرجل قبل الدخول إلى محله ومن أين يأتي، لأنه سئم تتبعه وفي كل مرة كلما اقترب من المبنى اختفى...
هذه المرة قرر مجيد أنه إذا دخل الرجل إلى المحل ذهب هو وأحد من رفاقه إلى المبنى مباشرة لينتظروه هناك، في حين يبقى أحد من بقية الرفاق يسير خلفه ويتتبعه لعله يذهب لمكان آخر، وصل مجيد هو وصديقه إلى المبنى واختارا منطقة مظلمة بحيث لا ينتبه لهم ذلك الرجل، وفي الوقت نفسه يمكنهم مشاهدة الباب بوضوح أكبر، اخرج هاتفه وجهزه لكي يصور فلم يعد يصبر أكثر على حل لغز هذا الرجل الغريب، بعد فترة ظهر الرجل وهو قادم من آخر الشارع وكلما اقترب إلا وزادت خفقات قلب مجيد بالتسارع، اقترب الرجل أكثر من الباب وها هو مجيد يصور الرجل ولكنه لا يظهر على شاشة هاتفه، وصل الرجل إلى الباب ثم وقف للحظة ثم انفتح الباب لوحده ودخل أمام أعينهم، تجمد مجيد ورفيقه من الدهشة حتى وصل محمد الذي كان يسير خلف الرجل الغريب، سألهم لقد دخل أليس كذلك، فأجابه مجيد برأسه أن نعم، ثم قال الباب انفتح ورأيته أنا ونور الدين، لكن الهاتف لم يلتقط شيئا لا الرجل ولا الباب وهو ينفتح. ما هذا الذي يحدث ؟؟
أراد رفقاء مجيد الهروب من شدة الخوف والهلع لولا إصراره على الدخول وخوفهم عليه، قال لهم مجيد بعد أن استجمع قوته واسترجع ثقته: أنا سأدخل فقط إلى ساحة المبنى وانتم ستبقون هنا لتصوروا وإذا حصل أي مكروه اتصلوا فورا بمصالح الأمن، سأحاول أن أطل من تلك النوافذ المكسورة لربما أرى شيئا.
حاول مجيد أن يدفع الباب ضانا منه أنه يستطيع الدخول مثلما دخل الرجل لكن هيهات، فما كان له إلا أن دخل من جدار المبنى الذي قد سقط وتأكل في أحد جوانبه فلم يكن صعبا تسلقه بمساعدة رفاقه، قفز مجيد من صور المبنى الخارجي ومشى بخطوات ثقيلة يملأها الخوف والفضول، الحيرة والدهشة، وهو يتفقد بعينيه ساحة المبنى المليئة بالنباتات والحشائش والأشواك فلم يجد أحدا ولا شيئا غريبا، حاول مجيد أن يتفقد باب المبنى الرئيسي فوجده محكم الإقفال تماما كما توقع، قام بنصف دورة على المبنى فوصل إلى النافذة المكسورة وحاول أن ينظر منها إلى الداخل لكن الظلام الدامس لم يسعفه في استبصار أي شيء، أخرج هاتفه وأشعل الضوء عله يبصر ما في داخل فلم يجد إلا حطام المبنى المكدس والغبار، نظر خلفه فوجد بأن نور الدين قد التحق به، فحاول أن يكسر زجاج النافذة ويدخل إلى الداخل ليتفقد الأمر، لأن المكان يبدوا خاويا خاليا من الحياة، حاول نور الدين أن يمنعه فأصر مجيد على الدخول، التحق محمد بنور الدين بينما مجيد يحاول جاهدا الدخول من النافذة، قال له نور الدين: ابق على اتصال بنا على الهاتف ولا تقفله، وصور أي كل شيء حتى نرى ماذا هناك في الداخل.
دخل مجيد وما هي إلا ثوان حتى اختفى عن أنظار أصدقائه، جاب غرف المبنى في الطابق الأول فوجدها محطمة ومعظم الجدران قد تساقطت فلم يجد إلا ذلك الحطام، قرر الصعود إلى الطابق العلوي وما هي إلا لحظات حتى سمعوا صراخه وهو يركض وفجأة انقطع الصوت، حاولوا التكلم معه عبر الهاتف لكنه لم يرد، اتصل نور الدين بمصالح الأمن وما هي إلا دقائق حتى دخلوا إلى المبنى ليجدوا مجيد جثة هامدة ملقية على الأرض غارقة في وسط دمائها...
في بداية الأمر ضنوا أنه سقط وحملوا رفاقه مسئولية وفاته، لكنهم بعدها تفطنوا للفيديو الذي كان يصوره والذي يظهر أن مجيد قال جملة قبل أن يفر هاربا ويسقط، قال مجيد: من أنت من أنت؟ لكن الفيديو لم يظهر أي شخص، فحتما أنه رأى ذلك الرجل الغريب وفر هاربا منه فسقط، أو ربما هو الذي دفعه وقتله..
من قتل مجيد؟ وكيف مات؟ هل حقا سقط لوحده، لماذا قال من أنت مخاطبا الظلام؟ لا بد وأنه رأى ذلك الرجل الشبح وإلا فملاذا فر هاربا؟ كل هذه الأسئلة بقت عالقة في ذهن أصدقائه وإذا كان مجيد مات فإن لغز الرجل الشبح الذي لا يظهر في الكاميرات لم يمت
تكملت القصة في الجزء الثاني