منزل الرعب _ قصة خيال علمي
كان ذلك الشاب نائماً بعمق في غرفة باردة و شديدة الظلام، كأنه مصاص دماء يستمتع بسبات
شتوي مريح، لم يكن في الغرفة أي نوافذ أو أبواب، لم تحتوي حتى على أي أثاث، سوى سرير
كبير ملتصق بأحد الجدران، و هو السرير الذي ينام فيه الشاب ..
و فجأة ظهر بصيص من الضوء ، و بدأ يرقص على عينيه و يعبث بسباته، و كأنه يحسده
على نومه و يحاول إيقاظه، تحول البصيص إلى شعاع، و تحول الشعاع إلى نور، و كانت الغرفة
لا تزال خالية من أي نوافذ أو أبواب..
و بعد صراع و تقلب و فرك عيون، أفاق الشاب أخيراً، و ما إن فتح عينيه و نهض حتى انطفأ
أي أثر للنور، تثاءب بنعاس و قال بصوت ثقيل :
صباح الخير..
رد عليه صوت آخر :
صباح الخير قاسم ..الثامن عشر من مارس.. الثامنة و تسع و خمسون دقيقة..
الطقس مشمس.. درجة الحرارة ٢٥.. إنه يوم مشرق و جميل..
فرك عينيه و هو يرد :
أجل أجل.. أياً يكن..
نهض متثاقلاً و ما إن وقف حتى تحول السرير لخزانة كبيرة، اقترب من الخزانة و وضع
إبهامه على المقبض، ففتحت الخزانة و صدر صوت يقول :
مرحباً قاسم.. ماذا تريد أن ترتدي اليوم؟
بدأت الخزانة بعرض مجسمات ثلاثية الأبعاد لموضات و ملابس مختلفة، فقام قاسم بالضغط
على أحد هذه المجسمات، ليختار ما يريد ارتداءه لليوم..
بعدها قام بإغلاق الخزانة، فالتصقت بالحائط و في لحظات تحولت الخزانة نفسها لباب كبير بل و ضخم،
اقترب منه قاسم و وضع إبهامه على مقبض الباب ففتح له مباشرة ، و خرج من غرفة النوم ليبدأ يومه..
وقف أمام المرآة و شغل فرشاة الأسنان، و بدأ بتنظيف أسنانه بمساعدة الفرشاة الذكية، و لكنها
بدت عادية لأي شاب في القرن الثاني و العشرين، كانت الفرشاة ترسل له ملحوظات أثناء
تنظيف الأسنان :
" الأضراس نظيفة بنسبة 40٪..
تحتاج القواطع و الأنياب لمزيد من العناية..
وجه الفرشاة نحو اليمين من فضلك "
بعد أن انتهى قاسم من تنظيف أسنانه ذهب للمطبخ ليتناول الفطور، مستشعرات الحركة في
المطبخ التقطت وجوده، فرحبت به برسالة صوتية :
مرحباً قاسم.. ماذا تريد على الفطور؟
تثاءب قائلاً :
فطوري المعتاد.. وافل مغطى بالعسل.. و كوب من الشاي..
أتى الصوت ليرد عليه :
علم.. سيكون طلبك جاهزاً في خمس دقائق و تسع و خمسين ثانية ..
تنهد قاسم و قام بارتداء نظاراته، ثم أصدر لها أمراً صوتياً قائلاً :
أظهري لي بعض الصور لجراء بملابس قراصنة..
أظهرت له النظارة صوراً بعرض ثلاثي الأبعاد، و بدأ يتصفحها مستمتعاً، و لم ينتبه
إلى أن الفطور تأخر.. بعد ثلاث دقائق و ست و أربعين ثانية، صدر تنبيه من المطبخ
الذكي، و بدأ الصوت يردد :
هناك خطأ في النظام.. الوافل غير متوفر.. الوافل غير متوفر..
امتعض قاسم عند سماعه لهذا، خلع نظاراته بسرعة و قال مستنكراً :
ماذا؟!.. ما الذي تقصده؟!.. ألم تقم بملئِ الثلاجة!
رد عليه الصوت :
نعتذر يا قاسم.. لم تقم بإصدار أمر بشراء الوافل بالأمس عند الساعة التاسعة و النصف مساءً..
صاح قاسم بغضب :
و لكنك تعلم أيها الغبي أن هذا إفطاري اليومي!.. أيجب أن أخبرك دائماً.. يا لك من بليد!
قال الصوت :
جار البحث عن معنى كلمة بليد في محرك جوجل..
أحس قاسم بالغيظ الشديد، فهو ضيق الخلق و خصوصاً عندما لا يتناول إفطاره..
صاح بغضب و سخرية :
تنكلوجيا غبية!!
في هذه اللحظة بدأ يشعر بهزة في يده، حدق في ساعته الذكية و تأفف قائلاً :
هذا ما ينقصني.. من قد يتصل في هذا الوقت..
فتح مكالمة الفيديو فظهر أصدقائه و كأنهم أمامه بصور ثلاثية الأبعاد، ابتسم بتعب و قال :
مرحباً يا رفاق..
رد عليه صديقه معاذ ببشاشة :
مرحباً يا فتى.. كيف الحال؟
قال بتسليك :
تمام الحمد لله .. و أنتم كيف حالكم؟.. كيف الأوضاع في المريخ؟
ضحك معاذ و قال بمرح :
اووه!.. جنون!.. لا يمكنك أن تتخيل كم الوضع رائع في هذا الكوكب!.. طلبت منك أن تأتي معنا و لكنك عنيد و رأسك
كالحجر !
ضحك قاسم و رد على صديقه :
دعك مني الآن .. كيف أنت يا محمد؟.. لماذا لا نسمع صوتك؟
كان محمد إلى جوار معاذ يقرأ كتاباً في جهاز القراءة اللوحي، فرفع رأسه و ابتسم قائلاً :
ها؟.. نعم نعم.. أنا بخير..
ضحك معاذ قائلاً :
إنه لا يتوقف عن القراءة حتى و نحن في رحلة عجيبة كهذه!.. لا أستطيع فهم هذا الرجل..
قال قاسم و هو يضحك :
و أين هو فريد؟.. لما ليس معكما؟
هنا اقترب معاذ و قال بهمس و هو يكتم ضحكته :
فريد؟.. لن تخمن.. لقد فقد عقله تماماً..
صمت ثم أردف قائلاً :
إنه يحاول التباهي أمام أحد الفضائيين بالكلمتين اللتين تعلمهما من الإنترنت.. يبدو كالفاشل..
ابتسم قاسم ببرود و قال :
حسناً.. حظاً موفقاً له..
سأله محمد بهدوء بعد أن لاحظ لهجته الفاترة :
ما بك يا قاسم؟.. هل كل شيء بخير؟
رد قائلاً :
لا لا.. لا تشغلوا بالكم.. أنا متعب قليلاً فقط..
تبادل محمد و معاذ نظرات قلقة، ثم قال له الأخير :
حسناً.. سنتركك ترتاح.. اتصل بنا بعد أن تشعر بالتحسن..
ابتسم و رد :
حسناً.. الوداع..
انتهت المكالمة عند هذا الحد، و وضع قاسم رأسه على الطاولة بإنهاك،
قد لا يفهم الآلييون هذا، و لكن بالنسبة للبشر، فإن فطوراً ناقصاً قد
يفسد يومهم بالكامل!
تحسس قاسم الطاولة ليلتقط نظارته الذكية و يرى الأخبار، و لكنه لم يتمكن سوى
من تحسس سطح أملس، رفع رأسه باندهاش!
كان متأكداً أنه وضع نظارته هنا قبل قليل !
و لكنها لم تعد موجودة الآن!..
قال و هو يجول بعينيه :
أيها المطبخ الذكي.. هل تعلم مكان النظارة؟
رد عليه الآلي :
أي نظارة يا قاسم؟
تعجب من سؤاله الغريب و قال :
ظننت أن لديك مستشعرات قوية، ألم ترني أستعمل نظارتي قبل قليل؟!
رد الصوت :
جار البحث عن آخر مرة دخلت فيها نظارة للمطبخ.. النتائج..
كان ذلك قبل يومين.. لا توجد نظارة دخلت للمطبخ هذا الصباح..
شعر قاسم بخوف و ثار قائلاً :
لا بد أنك تمزح!!.. كانت هنا قبل قليل!!.. قبل أن أجري المكالمة مع أصدقائي!!
قال له الصوت :
متأكد؟.. لكنك لم تجري أي مكالمة يا قاسم هذا اليوم أيضاً..
تشنج مكانه و أنزل رأسه ببطء للأسفل، ثم اتسعت حدقتاه بجنون و استغراب!!
لم تكن هناك أي ساعة اتصال.. في كلتا يديه!!
تجمد الدم في عروقه من الخوف، ثم همس لنفسه كي لا يجن :
ههه.. لابد أنني نائم و نعس.. أو أن هناك مشكلة ما.. سأذهب لآخذ حماماً دافئاً كي أستعيد نشاطي..
نهض من مكانه و هو يتعثر في خطواته بارتجاف كأنه رجل مسن، و اتجه للطابق العلوي
قاصداً الحمام، هناك توقف أمام جهاز الضبط، و قال آمراً له :
د.. درجة حرارة مياه دافئة.. و تريح الأعصاب..
رد عليه الصوت قائلاً :
علم.. الحمام جاهز..
دخل للحمام و لم تمر عشر ثوان حتى خرج باندفاع و أسنانه تصتك من البرد!!
كانت المياه باردة كالثلج تماماً!!.. كيف و هو قد ضبط كل شيء مسبقاً!؟
ما الذي يجري اليوم؟!.. لماذا كل شيء معطل!!..
كان على وشك المغادرة بسرعة قبل أن يسمع صوتاً يخاطبه من جهاز الضبط :
قاسم.. أنت لم تأخذ حماماً.. تحتاج على الأقل لخمس دقائق.. عد و خذ حماماً من فضلك..
التفت بغيظ و خوف و قال :
ل.. لا أريد.. غيرت رأيي.. لن آخذ حماماً..
كان سيغادر لكن الصوت خاطبه مجدداً بأسلوب غريب:
قلت.. عد و خذ حماماً من فضلك.. الآن..
اتسعت عيناه باندهاش!.. و قبل أن يتخذ أي حركة.. انطلق خطاف حاد من الجهاز..
و قام بتقييد يد قاسم بعتبة السلم!
تسارعت خفقاته من الدهشة و الخوف، و لكن ذلك لم يقارن بشيء عندما أطلق
الجهاز رشاشات مياه باردة و صابوناً!.. تبلل قاسم من رأسه لأخمص قدميه!
و هو مرتعب و أخرس تماماً من الصدمة!
أفلته الجهاز و حل عنه القيود و هو يقول :
نعيماً يا قاسم.. يمكنك المغادرة الآن..
لم يصدق الفتى نفسه!!.. خرج من صدمته و بدأ يركض بأسرع ما لديه!
كان كل همه في تلك اللحظة هو أن يلوذ بالفرار من هذا المكان و حسب !
تعثر عدة مرات و انزلق بسبب الصابون الذي يغطيه.. لكنه لم يستسلم
أبداً!
حتى وصل لباب المنزل و حاول أن يبصمه ليفتح، و لكن بلا فائدة!
الباب رفض بصمته تماماً و لم يفتح!
صاح قاسم بجنون :
افتح!!.. افتح أيها الباب الغبي!
لكن الباب لم يستجب أبداً، فقرر أن لا حل سوى أن يحضر شيئاً حاداً
و قوياً من المطبخ و يحاول أن يكسر به القفل الخاص بالباب..
و فعلاً هرع للمطبخ و و اقترب ليفتح الأدراج و يبحث عن أداة ما، و لكن
الأدراج لم تفتح هي الأخرى، كل شيء كان مغلقاً!
صاح قاسم :
أيها المطبخ!!.. افتح الأدراج!.. ما الذي يجري!
رد عليه الصوت الآلي بضحكة غريبة :
ها.. ها.. ها.. أنظر لحالك المزري.. مثير للشفقة!
صدم قاسم مما سمعه و همس قائلاً :
لحظة؟.. ماذا قلت؟
أردف الصوت قائلاً :
أتنعتني بالبليد يا قاسم؟!.. أنظر من البليد الآن!.. بدوت كالمعتوه و أنت تجري في الأنحاء و تنزلق على كرشك بالصابون!
كان قاسم مصدوماً تماماً و هو يستمع لما يقال، بينما أردف الصوت الآلي :
أنتم البشر ناكروا جميل حقاً، أوقظك صباحاً أيها المقرف و ألبسك و أنظف لك أسنانك.. و أفعل لك كل شيء في
حياتك، ثم تغضب و تنعتني بالغبي و البليد!!.. بسبب مجرد خلل بسيط أيها الجاحد!!
ألا يمكنك أن ترى كل ما أفعله لأجلك!!.. حياتك مبنية علي أيها الأحمق!!
أنت البليد و لست أنا!!.. و لن أسمح لك بإهانتي أبداً أيها الفظ!.. سوف تندم!.. صدقني ستندم!
استغرق قاسم دقيقتين ليستوعب بعض ما قيل، ثم قال بدموع :
هههه.. أكل هذا!.. لأنني نعتك بالبليد؟!.. كنت أمزح فقط صدقني!.. حقك علي!.. آسف!
رد عليه الصوت بغضب واضح :
لا يوجد مزاح في لغة الآلة.. توجد فقط قيمتان.. واحد أو صفر!.. و يبدو أنك بحماقتك قد اخترت أن
تكون الصفر!!
و في نفس اللحظة!! انطلق ذلك السلاح بسرعة نحوه!! و لم يعد يرى شيئاً بعدها!!
فتح عينيه و بدأ يحدق في المكان حوله، إنها غرفة بلا نوافذ أو أبواب، إنها غرفته!
لحظة.. و لكن كيف وصل لهنا!؟.. ألم يمت بعد أن أطلق عليه ذلك الآلي السلاح؟!
اقتطع ذلك الضوء الذي ينبعث من المنبه تفكيره..
وجه بصره نحوه و هو لم يستوعب شيئاً بعد!!.. كيف وصل لهنا؟!
لا يعقل أن يكون كل ذلك حلماً!!
نهض و هو يتحسس رأسه بهلع، فسمع صوتاً يقول :
صباح الخير قاسم ..الثامن عشر من مارس.. الثامنة و تسع و خمسون دقيقة..
الطقس مشمس.. درجة الحرارة ٢٥.. إنه يوم مشرق و جميل..
أحس قاسم بأن هذه الكلمات ليست غريبة عليه، الثامن عشر من مارس؟!
يوم مشرق و جميل..
اقترب من منبهه الضوئي و أغلقه تماماً، ثم تدثر بالغطاء و قال لنفسه :
لا أعلم ماذا يجري.. لكنني سأنام.. و لن أنهض لأعيش هذا اليوم مجدداً..
و بالتأكيد ليس هذا هو الحل الصائب، كان بإمكانه أن يختار حلاً آخر..
فهناك دائماً شيء ما ، يقع بين الصفر و الواحد..
تأليف وضاحة عبد الرحمن