
رواية الواحة الملعونة الفصل الثامن آية عبد الفتاح
الفصل الثامن
رغم نحول جسداهما ألا أنهما يحملان وزن ثقيلا ، .....تحاملت أحدهما الثقل كله بصعوبة تكاد أن توقعه و تسبقه هي على درجاته ، صعدت أختها ، متعاونة معها في حمله ،
دار المفتاح بالباب و هما يصبران أنفسهما ، يترنحان من التعب ، يوشكا على انهيار ، فُتح الباب حينها لم يستطيعا الصمود ، قدماه الواهنتان ، خارت كل قواهما ، متبخرة في الهواء
، ليسقط ينتزع أنفاسه الهاربة منه يتشبث بقلبه الذي خفتت نبضاته ، لا يشعر بما يحدث حوله فقط عقله يدور بسواقي عدة ،
تلقفته أحضانها ، تلتقط أذناه صوتها الملتاع تصيح بين شهقات بكائها : " متسبنيش يا بابا ، متسبنيش زيهم ، خليك معايا "
تمتم لسانه بضعف : " نور لسه.....لسه ..عايشة قلبي ....حاسس....متـ....
متسبيهاش ...نوري....."
انقطعت أنفاسه ، سكنت نبضاته ، لينتشله الظلام من عالم الواقع .....
فتدوي صرخاتها المرتعبة بكل العمارة ، عقلها توقف ، لا تعلم إلي أين تذهب ؟ بمن تتصل ؟، تشعر بقلبها ينتفض لفراقه ، لا يمكن أن يتركها وحدها و يغادر ، إن كانت تعيش على ذكراهم ، فهو قطرات الماء التي تبلل فمها الجاف يروها من عطش الموت ، هو أنفاسها التي تمكنها من العيش ، هو بصيص الأمل الذي يتسرب بين قطبان السجن الذي تعيش به ....هو أباها
*********
تعلقت عينيها بالسماء لكن عقلها يدور بطواحين أسئلة كثيرة لا أجابة لها ، كيف أصبحت على شروق شمس و قد كانت مقتربة من المغيب عند ذهابها إلى منزلهم ؟ ازداد الصداع طرقا برأسها فتشبثت بعقلا كاد يطير مما يحدث لها ، لا أحد سيصدقها ، أخر ما تذكره طعم عصير البرتقال في فمها و صوت تهشم الكوب ، ثقل رأسها و هى ترتمي على فراش بشقتها ، بعدها استيقظت مع أول خيوط الفجر ، شهقت تتذكر خدوش ، لقد رأتها متناثرة بعنق الشاب ذا الشعر الأبيض ، الذي يدعى سيف ، و الفتى الأخر ذا الشعر الاسود به بعض خدوش و كدمات ، كل هذا يؤكد شكوكها و يثبت مسامير الشك بجدار اليقين حتى تبدل إلى حق مبين مشرق كهذه الشمس التي انزلقت بسرعة تودعها ...
" لا " همست بها تود أن تلتقط قرصها ، تعيده إلى كبد السماء ، لكن صعد القمر درجتين فاسرعت الخطى تبدل جلباب تفيدة و تحشر جسدها النحيف بفستانها الوردي الذي جاءت به
قاطعها دخول فرح تتسال :"انتِ رايحة فين يا نور "
تتعاون يديها على أحكام وشاحها ، تخبرها دون أن تنظر إليها : " لازم امشي من هنا ، قبل ما تحصل كارثة "
سكن عيني صديقتها عتاب أفصحت عنه : " و تسيبيني هنا يا صاحبة العمر ، لوحدي في بلد غريبة معرفش فيها حد ..."
-" طب ...البسي و تعالي معايا ، صدقيني يا فرح لو قعدنا هنا هنموت "
تنهدت تستعيد منطق تدير به سفينة الحوار اتجاهها : " طيب هتمشي من هنا إزاي؟ "
تملك الأخرى صمت ، فهي لم تفكر سوى بالفرار من هنا ،
استأنفت فرح تسير بدفة الحديث لتصل إلى شاطئها :"طيب بلاش ازاي ... هتخرجي منين ، و أنتِ مش عارفة طريق الخروج من هنا ؟ "
فقالت تعاند منطق صاحبتها و تأخذ دفة الحديث بطيش متجهة إلى مجهول حيث لا أرض و لا شاطئ : " معرفش بس لازم نمشي من هنا ، قبل ما تحصل الكارثة !..."
أجلستها فرح بجوارها تزفر عدة مرات قبل أن تسالها : " كارثة ايه ؟ قوليلي ! "
وقفت تلملم أشياءها تقول لها : " النهاردة أخر ليلة قمرية يا فرح لازم نمشي قبل ما يطلعوا يتعشوا بينا ..."
نعم الثالثة فالأولى حدث بها تحول الذئب الأسود و الثانية مرت عليهما و كأنهما لم يعيشاها ، استأنفت قولها ، تتمسك بيدها ، ترجوها بعينيها قبل لسانها أن تصدقها لتأتي معها : " ارجوكي يا فرح صدقيني و تعالي معايا "
نفضت الأخرى يدها و قد نفد أخر ذرة صبر لديها تصيح بها : " تاني هتقولي ذئاب و القمر "
تمسكت بكتف صديقتها تكمل حديثها بنبرة حاولت أن تضفي عليها بعض الهدوء فخرجت كلماتها من تحت أسنانها بصعوبة : " قولتلك مفيش حاجة اسمها ذئاب و كل دي أوهام في دماغك "
نفضت نور يدها تصيح بها : " طب مسألتيش نفسك أنتِ ازاى قومتي الفجر بعد رجوعنا من عند الراجل ده مع أن الوقت قرب على المغرب ..."
صمتت ، هي معها حق ، كيف استيقظت فجرا كيف ؟
راقبت انفعالات صديقتها التي تتغير فأكملت تهمس برجاء : " الراجل ده أكيد حط حاجة في العصير اللي احنا شربناه امبارح ، تعالي معايا قبل ما نموت متاكلين "
التقطت هاتفها بتردد ، نعم هي لا تصدقها و لكن النوم الذي استولى على عينيها بعد أن عادت إلى الشقة أثار ريب بعقلها ...
، أحدهم أرسل ضوء أحمر خافت صغير تسلل من نافذة ككشاف متلصص ، يسير شيئا فشيأ و تتسع دائرته ، تقوى شدته تدريجيا جاذبا أنظارهما نحوه ،
تلاعب الضوء بغرفتهما يعبث بنضات قلبهما استدارت تدنو من النافذة ، تقف بجوار تلك المتخشبة ، تراقب ما يحدث بفاه مندهش .....
*********
عبرة هوت من السماء ، تتسابق رياح تسقطها على زجاج شرفتها فتتشقق منشطرة إلى قطرات صغيرة متناثرة متباعدة متفرقة في كل مكان ، كقلبها الذي قسمه الحزن فانكسر كزجاج هش متناثر في ارجاء ، مازالت تشعر بتشقق حلقها من الصراخ ، و تلك الباحة اصابت احبالها الصوتية ، تدحرجت دمعة تذكرها بانهيار أبيها أمامها ، مصدر أمانها ، حصنها المنيع ينهار بلحظة واحدة يشكو ضعفا و هوان و حزن تكالب عليه حتى سقط أرضا ،
تمسكت بحلقها تحاول التخلص من غصة خنقته ، تشعر بسقوط البيت كله فوق رأسها ليخفت ضوء يحيط روحها تحت أنقاض الحزن يبهت لونها ، فتضحك عليها وسوساتها المتجمعة ، يزداد شهقات بكائها ، تكاثرت دموع المطر تضرب نافذتها ، تنبهها تعيد ضوء هالتها الخافتة فتتوهج تدريجيا ، تأملت نقاط الماء تنزلق تتوحد متحولة إلى خطوط تزيح الأتربة و الوسخ من الزجاج ، كما ازاحت أنقاض متراكمة فوقها تشعل بداخلها قوى المقاومة ، نعم هي ليست بضعيفة يائسة ، ليست بقشة تقسمها نسائم الخريف ، نهضت تفتح قبس ضوء الغرفة تزيح به من ظلمتها ، و أحزانها المتراكمة على روحها
، تكاثرت الأمطار تروي شجرتهم الجافة بعد أهمالهم لها ،
فتسأل نفسها سؤال واحدا لماذا لا تصبح مثل المطر تغسل جروحها تزيح أحزانها ، تتعاون مع ذاتها تشعل أمل يحارب ليلها المعتم ؟
لمَ ضعفت و ارتدت نظارة سوداء معتمة سودت ما حولها ، حتى قطرة الماء رأتها ضعيفة متكسرة هشة ، و لم تراها تتعاون مع أخواتها تروي اشجار ظماءة تعيد لها الحياة ........؟
لماذا لم ترى شعلة الضوء الخافتة أخر دربها ، و تركض خلفها ؟
نهضت عازمة على محاربة عثراتها و تقف بقوة لتكمل دربها للنهاية ،
همس شبح أسود يذكرها : "أنسيتِ ما
قاله الطبيب .... ان والدك يعاني من ضعف القلب و لن يتمكن من العمل في الوقت الحالي ؟ "
اشاحت وجهها بعيدا و كأنها تتخلص منه ، تحمد الله أن أنفاس أبيها تتردد تحت سقف بيتهما تدفئها و تحيطها بأمان أن كان قليل لا يعوضها عن حضوره و ضحكاته و سكناته و كل شئ به ، يكفيها انه يتحرك و يتكلم ..بكلمات قليلة
وسوس لها أخر : " و المال ...من سيدفع لك مصاريف تعليمك ؟... من سيطعمك ؟... من ....؟"
نفضت رأسها من كلماتهم السامة التي تسري بروحها تميتها ببطئ ، استعاذت بالله منهم جميعا تخبرهم بصوت أعلى من همساتهم : " أن الرزق و المال بيد الله وحده ، و إن كان أبي مريض .....، الله يرزقنا "
وعدت ذاتها أن تكون يد المساعدة التي تنتشله و تنتشلها من الحزن و تعيدهما للحياة ، أقسمت أن تعيد له البسمة و ترجعه لواقعها ؛تى لو اجبرته على ذلك ، و ستكون له العوض عن الذين تركوه ، و تصنع ذكريات جميلة تشغله عن القديمة الحزينة البائسة التي يتهرب منها ، ستشغل وقته كله ، ترجعه لها أباها و صديقها ، ....
أشعلت المذياع يردد آيات القرأن بصوت شجي يتسرب إلى أذنيها ، متسللا إلى قلبها يجمع أشلاءه ، يرمم كسوره يثلج جروحه ، يقضي على وسوساتها ، تدحرجت دمعاتها منصتة إلى ترتيل الشيخ ، و قلبها يدعو ربه أن يشفي أباها ، يزيل عنهما هذا البلاء ......
**********
بدر قد استقى من حمرة الدماء و سكب القليل على ماء الواحة لتتحول إلى بركة دم أحمر قاني ، ليس هذه فقط بل أضفى على كل شئ حمرة تصيبهما بخوف ،
و فجأة اندفع جسد مبهم ذا فرو ، يتعاظم تدريجيا يقترب منهما بسرعة هائلة كنيزك ناري ، صرخت الفتاتان يبتعدان عن الشرفة ، منحنيتان يتمسكا برأسهما بوجل ، اخترق الجسم نافذتهم يحطم الزجاج و بعض أحجار الجدار محدثا دوي صدح في الأرجاء ،
التفتت الفتاتان إليه لتدلى أفواههما من الذعر ،و تتسارع نبضاتهم ، ذئب ينهض أمامهما يحرك ذيله ، تتعلق عيناه بفريسته ، يتوهج فروه البرتقالي الذي اقترب من الأحمرار كنار تتراقص قبالتهما ، ليكتمل المشهد بسينفونية عواء مخيف و زمجرات متألمة أتية من كل مكان ، تعزف على أوتار القلوب لحن مخيف
تقدم منهما بخطوات بطيئة ، ليتراجعا بالمثل ، يرسموا دائرة تتواجه بها النظرات منها الخائفة و منها المبتسمة بانتصار ....
انقض عليهما فجأة ، فقفزا مبتعدتان عن مرماه يتجهان صوب باب الغرفة ، تغلق نور الباب عليه بالمفتاح ، تأخذ عبائة و وشاح فرح تساعدها في ارتداءه ، أما هي كدمية تتحرك بين يدي صديقتها ، فمازالت تمتلكها الصدمة ، تنحسر الدماء عن وجهها تبحث عن حروف تتسأل بها :
" ايه ......أيه ده.....ذئب ... ذئب كبير.... "
صمتت تبتلع باقي حروفها مرتعبة ، إثر صوت اندفاع الباب يتبعه زمجرة غاضبة لتشهقا بوجل ، ركضت نور صوب الباب ، تلحقها صديقتها مستندة على عصا مقشة وجدتها بجوار غرفتهم لأنها لم تستطع أخذ عصاها معها من الصدمة ، حاولت نور إدخال المفتاح بيدها المرتعشة ، لكنها تفشل ، و تسقط المفتاح أرضا ،.....
انحنت لتلتقطه
لكن دفعة أخرى نجحت في تحطيم باب الغرفة منعتها من المحاولة ، وقف أمامهما ، تتطاير من عينيه شرر غضب ،
فتوكز فرح صديقتها تهمس : " بسرعة يا نور افتحي ...يلا "
التقطت الأخرى المفتاح تديره مرة واحدة ، فيركض الذئب عليهما ، تصرخ مغمضة العينان : " يلا يا نوووورررررر "
تحكمت نور برعشة يدها بل جسدها كله حتى نجحت اخيرا في فتحه ، ساحبة صديقتها معها توصد شقتها بالمفتاح ،
ركضت تسند الأخرى على درجات السلالم تلاحقهم عواء الذئب الغاضب ، الذي نجح بعد عدة دفعات أن يتخلص من محبسه ، يقفز على السلالم ليلحق بهما ، خرج من المنزل كله ، تطوف عينيه الحمراوان تبحث عنهما ، تتحرك اذناه ترصد همهماتهما حتى توقفت فابتسم يدنو منهما بتؤدة يرصد رعشاتهما ، اصواتهما المكتومة ، إلى أن صار بجوار حائط يختبئان منه و يكتمان أنفاسها منه بأيديهما المرتعشة ...
وثب قبالتهما ، يحاصرهما بزاوية ، و بوثبة أخرى أنقض على فرح يقبض على رسغها بأنيابه حتى انفجرت منه الدماء ، أوقعها يشرف عليها بجسده الضخم يلعق شفتيه ، و يسيل لعابه فوقها ،
اصطكت أسنانها خوفا ، و هربت الدماء من أطرافها ... الآن فقط صدقتها ، بعد أن شاهدت ، سمعت بل لمست لعابه أيضا ، صدقت بعد فوات الأوان ، بعد أن أصبحت عشاءه اللذيذ ، و قبل أن تغمض عينيها ترفع راية الاستسلام مرحبة بالموت على أنيابه ، ودعت نور لأخر مرة ، لتصرخ الأخيرة تنادي عليها و تشق صراخاتها عباءة السماء .....
********