ثم ماذا بعد..؟

ثم ماذا بعد..؟

0 reviews

 

  ذلك الحي القديم.. لم أمرّ من هذا الطريق منذ سنوات. أتيت اليوم؛ لا لأرى كم اختلف المكان، بل لأرى كم اختلفت ُ.

  طابور الخبز لايزال موجودًا، والذي دائما ما كان يزعجني أن أراه عندما كنت أضطر في بعض الأحيان للعبور بجواره مسرعًا إلى العمل. اليوم أُبطيءُ الخُطى ثم أقف إلى جانبه بهدوءٍ وأراقب.

  كثيرًا ما كانت رؤيته تثير في نفسي أكثر من سؤالٍ؛ "ما الفائدة من كل هؤلاء؟ وهل يعنيهم الغد؟ أم أن كل ما يفكرون فيه هو حصول كل واحد منهم على حصته من الخبز؟ وكيف يتحمّلون الانتظار؟"

   لم يكن لي أن أصل حينئذٍ إلى إجابة شافية؛ فلم أكن قادرًا على أن أرى الحياة بصورتها الكاملة. لكنني كنت أقول "على كل حالٍ يكفي للمرء في هذا الزمان أن يعيش مسالمًا محافظًا على إنسانيته رغم كل شيء إلى أن ينقضي عمره في هدوء."

   يتقدم الواقفون قليلا.. البعض يساعد فى تنظيم الصف، وآخرون يساعدون في تناول الخبز ولفه في أوراق جريدةٍ يتشاركونها.

  "ماذا بعد؟" أسأل نفسي وأنا أشاهد ما يفعلون. مرت السنوات، وأصبت فيها ما أصبت مما حلمت به، لكن شيئاً ما لا زال ينقصني، ولا شيء مما أصبت استطاع ملئه.

   كلما كنت أحاول ملء الفراغ من حولي، كلما كان يملؤني الفراغ.

   يتحرك الطابور، بعض الحياة تدب فيه من جديد. أما أنا فأقف على الهامش.. أحاول تفسير الوجوه؛ "بم يشعرون؟"

   يخيّل إليّ أحيانًا أن بعض هؤلاء يأتي إلى الطابور متعللًا بطلب الخبز لكي يحظى بحديثٍ مع الآخرين.

   تعلو بعض الأصوات.. يكاد ينشأ شجار لكنهم ينجحون في احتوائه سريعًا، فأعود إلى أفكاري.

   لازلت أذكرها، تمنيت أن تكون بجواري حتى وأنا أحاول أن أنساها. كانت لي كمرآةٍ أرى فيها انعكاس ذاتي.

   مضت الأيام سريعة وكأن ما كان لم يكن. كلما شعرت بالاغتراب استدعيت ذكراها.. لازلتُ أأتنسُ بها حتى وإن تألمت. هكذا هو حال بعض الذكريات؛ تكتسب قداسة لطول زمانها. وتكون محاولة محوها فكرة سيئة. فكأننا بذلك نمحو بعضًا من كياننا.

   أنتبه إلى بعض الضحكات بينهم، تمنيت لو أستطيع أن اشاركهم ما يقولون.

   يكاد الطابور ينتهي.. لا أحد يكترث لوجودي، لكنني على الأقل أشعر بالأمان، فهكذا هو الأمر دائما؛ للأمان حالتين إما مع غرباءٍ يرحلون؛ فلا نحن نخشاهم ولا نرجو منهم ودًّا، أو في حضرة من يهتمون لأمرنا كما لو كان أمرهم، وهؤلاء قليلون .

   هناك مقهى في نهاية الشارع يمكنني الذهاب إليه. أجلس هناك وكأنني أنتظر صديقًا، ولن ينتبه أحد على أية حال إلى كوني وحيدًا.. أو ربما أجد هناك آخر، يجلس وحيدًا وكأنه ينتظر صديقًا ولا ينتبه إليه أحد.

 

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by

articles

7

followers

9

followings

1

similar articles