بذلة الغوص و الفراشة: الجزء التاسع

بذلة الغوص و الفراشة: الجزء التاسع

0 المراجعات

السجق 


كل يوم بعد حصة الوضع العمودي، يتم أخذي من قاعة العلاج الطبيعي على نقالة، فيركنني حاملها إلى جانب سريري بانتظار وصول مساعدي التمريض ليعيدوني إلى تمددي.

وكل يوم أيضا، عند منتصف النهار يرميني حامل النقالة نفسه في مرح مصحوب
بـ«شهية طيبة». طريقة يعبر بها عن أخذه إجازة حتى يوم الغد.

يشبه هذا بالطبع تهنئة بعيد الميلاد يوم 15 أوت أو «تصبح على خير» في وضح النهار!!
منذ ثمانية أشهر، لم يتجاوز مجمل ما ابتلعته بعض قطرات من الماء المخلوط بالليمون ونصف ملعقة من الزبادي، عبرت خطأ
إلى مسالك التنفس مصدرة أصواتا غريبة. الاختبار الغذائي، مثلا اصطلحنا على تسمية هذه الوليمة بشيء من التفاصح، لم يبد حاستها.

و لتطمئنوا، لم أمت من الجوع رغم كل ذلك. إذ كانوا يؤمنون لي حصتي اليومية من السعرات الحرارية عن طريق أنبوب مربوط بالمعدة وقنينتين صغيرتين أو ثلاث من مادة بنية اللون. 
لأجل المتعة، استعنت بذاكرتي الحية للمذاقات والروائح، خزان الحواس الذي لا ينضب. 

ثم هناك فن تجهيز ما تبقى. حين أنغمس "
فيها يمكن اعتباره طهوا للذكريات، يمكن أن أجلس على المائدة متى أشاء ودون كلفة.

إن كان هذا في مطعم، فلا حاجة إلى الحجز، أما
إذا افترضنا أنني بصدد الطبخ، فستكون النتيجة رائعة على الدوام.
الحساء البورغيني الدسم، لحم البقر المجمد والشفاف، وفطيرة المشمش بقليل من الحموضة اللازمة.

أهب نفسي -وفق مزاجي - دزينة من الحلازين وطبقا منمقا من الملفوف المخلل وزجاجة من نبيذ غیورتزترامينر «خمرة المحاصيل المتأخرة» بلونه الذهبي، أو أتذوق
ببساطة بيضة مسلوقة مصحوبة برقائق خبز مطلية بزبدة مالحة. يا لها من لذة!! يغزو صفار البيض الحنك وتقتحم البلعوم سيلانات دافئة.
من المؤكد أتي سأستعمل أفضل المنتوجات: الخضار الأكثر طزاجة، الأسماك الخارجة لتوها من البحر واللحوم الأغني دهنيات.

كل شيء يجب أن يكون معدا حسب القواعد. لمزيد الاطمئنان، أرسل أحد الأصدقاء الوصفة الأصلية لسجق طروادة، مع ثلاثة أنواع
مختلفة من اللحوم ملوية كالسيور.
كذلك، سأحترم نظام الفصول بدقة تامة. في الوقت الراهن أنعش حليمات لساني الصغيرة بجرعات من قطع البطيخ والتوت، أما المحار والطرائد فسيأتي دورها في الخريف، إذا احتفظت بشهيتي، لا سيما وقد صرت متعقلا، إن لم أقل زاهدا.

في بداية صيامي الطويل، دفعني الفقد إلى زيارة حجرة المؤن الخيالية الخاصة بي دون
توقف.

كنتُ في غاية النهم. في حين يمكنني الآن أن أقنع بسجق تقليدي محشو بقطعة لحم، معلق باستمرار في ركن من رأسي،
السجق الليوني ذي الشكل المغاير للمألوف، بما يحتويه من لحم محكم التجفيف والهرس. كل شريحة تتحلل قليلا فوق لساني قبل
أن أمضغها، لتبوح بنكهتها. هذا الإحساس باللذة هو أيضا شيء مقدس، ممارسة يعود تاريخها إلى أكثر من أربعين عاما. كنتُ حينها
في سن التهام الحلوى لكنني حاليا أفضل عليها اللحوم، ولاحظت ممرضة جدي – من طريق أمي - أني خلال زياراتي إلى الشقة المشؤومة بشارع «راسباي» كنت في كل مرة أطلب منها سجقا، وأنا ألثغ بطريقة
محببة. ولما كانت ماهرة في استغلال شره الأطفال والمسنين على حد السواء، فقد انتهت هذه المدبرة المجتهدة إلى تنفيذ رمية مزدوجة عبر إهدائي السجق والزواج من جدي قبل موته بقليل.

كانت الفرحة بالحصول على هدية كهذه متناسبة مع ما خلفه هذا الزواج المفاجئ
من توتر وسط العائلة. لم أحتفظ من جدي إلا بصورة مبهمة، طيف ممدد في الغسق بوجه صارم كوجه «فيكتور هوغو» على أوراق النقد
القديمة، من فئة 500 فرنك، التي كانت مستعملة في تلك الفترة.

في المقابل أرى بأكثر وضوح السجق المحشور حشرا وسط «الدينكي تويز» الخاص بي وبين كتبي من سلسلة المكتبة الخضراء.

وأخاف كثيرا ألا أكل مستقبلا أطيب منه .

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

460

متابعين

610

متابعهم

115

مقالات مشابة