بذلة الغوص و الفراشة: الجزء الحادي عشر

بذلة الغوص و الفراشة: الجزء الحادي عشر

0 المراجعات

الفوتوغرافيا 


ما يزال مشهد خلقي لأبي في آخر مرة التقيته راسخا في ذاكرتي.

جرى ذلك خلال الأسبوع الذي تعرضت فيه للحادث، كان يعاني كثيرا. 

فقضيت الليلة عنده في شقته الباريسية الصغيرة والقريبة من حديقة التويلري، و في الصباح، بعد أن حضرت له الشاي بالحليب،
بادرت بتخليصه من لحية أهملت لأيام عديدة. كان عنقه مغروسا بين الكتفين، وقد جلس على كرسي من اللباد الأحمر، مكانه المعتاد لتصفح.الجرائد بعناية، تحمل بشجاعة الالتهاب الذي خلفته موسى الحلاقة أثناء مهاجمتها لجلدته المرتخية.

كنت قد لففت منديلا عريضا حول رقبته الهزيلة، وطليت وجهه بسحابة سميكة من رغوة الصابون، محاولا قدر استطاعتي ألا ألهب قشرته وقد أثلمتها توسعات الأوعية
الدموية.

قعر التعب عينيه في قرار محيطها، لتظهر صلابة الأنف وسط الملامح العجفاء، لكن لم يفقد الرجل شيئا من روعته بباقة الشعر
البيضاء المتوجة لوقار هيأته منذ الأزل.


في غرفتـه تراكمت حولنـا ذكريات حياته، كما في محل خردوات لعجائـز هـم وحدهـم يعـرفـون أسرارهـا.

فوضى مجلات قديمة، واسطوانات موسيقية غير مسموعة، أشياء وأدوات غير متجانسة
وصور مـن مختلف العصور محشـورة تحت إطار مرآة كبيرة.

واحدة لأبي في زي بحار صغير وهو يلعب بطوق، قبل حرب سنة 1914، و أخـرى لابنتي في سنتها الثامنة في زي فارس، و«كليشيه» صورة بالأبيض والأسود التقطت لي في ملعب غولف للصغار. كنتُ حينها في الحادية عشرة، أذنان كالقرنبيط وهيئة تلميذ مثابر مع مسحة من البلاهـة، وما يثير السخط أن بـلادتي المهنية كانت قد تشكلت منذ
ذلك الوقت المبكر.
أنهيت مهمتي كحلاق باخا صانع أيامي بعطره المفضل.

ودعنا بعضنا بعد ذلك دون أن يكلمني – في سابقة هي الأولى- عن تلك الرسالة المحفوظة في مكتبه الصغير الذي أودع وصاياه الأخيرة.

لم نري بعضنا مرة ثانية منذ ذلك الحين. فأنا لم أغادر «مصيفي» ببارك، وهو لم تمكنه رجلاه في عمر الثانية والتسعين من هبوط السلالم العظيمة للعمارة التي يقطن بها.

كنا الاثنين مصابين بمتلازمة المنحبس. كل
على طريقته، أنا داخل جسمي، وهو داخل طابقه الثالث.

حاليا أنا من يحلق له كل صباح، فأستغرق في التفكير به كلا هرأ مساعد التمريض - في تفان- خدودي بشفرة حلاقة قديمة استعملها لثانية
أيام متواصلة. أرجو أنني نجحت في أن أكون فيغارو  آخر، أكثر انتباها.

من وقت لآخر كان يهاتفني، فأتمكن من الاستماع لصوته الدافئ المرتعش قليلا عبر الساعة، إذا ألصقتها بأذني يد مساعدة. ليس من الهين التحدث إلى ابن نعرف مسبقا أنه لن يجيبنا.

علاوة على ذلك،أرسل لي صورة الغولف المصغرة. والواقع أني لم أعرف السبب،
وبإمكان الأمر أن يبقى لغزا ما لم يخطر للمرء أن ينظر إلى قفا الصورة.
في سينمائي الخاصة، تعاقبت صور منسية لعطلة نهاية أسبوع ربيعية كنت رافقت فيها والدي -بقصد الترويح- إلى ضيعة كئيبة في يوم عاصف.
من خلال كتابته المتينة والمضبوطة، دون أبي ببساطة: بارك-عند البحر، أبريل ١٩٦٣.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
اسلام ابراهيم
المستخدم أخفى الأرباح

articles

460

متابعين

610

متابعهم

115

مقالات مشابة