بذلة الغوص و الفراشة: الجزء السادس عشر

بذلة الغوص و الفراشة: الجزء السادس عشر

0 المراجعات

تابع أثر الثعبان 

 

في الغد، وبعد عبور ممر جبلي خاص بطواف فرنسا -بدا لي صعوده مرهقا وإن بالسيارة- دخلنا «لوردز» وسط حرارة خانقة.
جوزفين تقود وأنا جالس بجانبها و«أثر الثعبان» المنتفخ والمعوج جاثم على المقعد الخلفي.

 فمنذ الصباح لم أتجرأ على لمسه، إذ أقنعتني
جوزفين أن شغفي بهذه الملحمة الغريبة ينم عن فتور تجاه المكان.


في ما يخص شعائر الحج كنا في فترة الذروة والمدينة غاصة بالزوار، ورغم ذلك أجريت تمشيطا دقيقا للعنابر الفندقية، لأجد
نفسي في مواجهة هزات أكتاف مؤنبة أو عبارة «نحن فعلاً آسفون»،
حسب فخامة المؤسسات. كان قميصي قد التصق من فرط تعرقي بالتجويفين في مستوى كليتي وطيف خصومة جديدة – وذاك هو الأهم- يحوم حولنا، وإذا بحارس فندق «إنجلترا» أو «إسبانيا» أو «البلقان» أو لا أدري ماذا، يجيبنا -متخليا عن النبرة المتحفظة لكاتب عدل يعلم ورثة بالموت المفاجئ لعم لهم في أمريكا- «أجل، هنالك غرفة». النقالات.
أحجمت عن القول «إنها معجزة» إذ أحسست بالغريزة ألا مجال هنا للاستهزاء بهذه الأشياء. كان المصعد شاسعا، بحجم و بعد عشر دقائق، أثناء تحممي، اكتشفت أن بيت الاستحمام مجهز لاستقبال معوقين.

وفيها كانت جوزفين تؤدي واجبات وضوء ضرورية، كنت أرمي بنفسي، متجردا من الثياب عدا منشفة حولي، في الواحة المبجلة من الظمأى: الحانة الصغيرة. أولاً، أفرغت نصف قنينة من الماء المعدني في جوفي بجرعة واحدة، أو أيتها القنينة! سأظل أشعر بفمك
الزجاجي على شفتي الناشفتين، بعد ذلك هيأت كأس «شامبانيا»
لجوزفين، وآخر «جين تونيك» لي.

وحين أكملت وظيفتي كساق، بدأت خفية تراجعا استراتيجيا نحو مغامرات شارل سوبراج. لكن بدل أن تلعب الشامبانيا دورها المسكن الفعال، منحت كل الحيوية مجددا لحساسية جوزفين السياحية. «أريد أن أرى القديسة العذراء»، كررتها قافزة برجلين مضمومتين مثل الكاتب الكاثوليكي فرانسوا مورياك أمام صورة ذائعة الصيت.


إذن، ها نحن ذان راحلان إلى البقعة المقدسة تحت سماء ملبدة متوعدة.

أحاول تجاوز سلسلة لا تنتهي من الكراسي المتحركة، تقودها سيدات الأعمال الخيرية، ولم يكن طبعا بصدد تعاطيهن الأول مع حالات الشلل الرباعي. «إذا أمطرت، جميعكن إلى الكاتدرائية»
صدحت الراهبة قائدة الموكب بسطوة، مسبحة في اليد وقبعة رهبانية في مواجهة الريح.

كنت أسترق النظر إلى المرضى، بأياديهم الملتوية و وجوههم المبهمة، تلك العلب الصغيرة للحياة المكوم بعضها فوق
بعض.

اعترض أحدهم نظرتي فارتجلت بسمة. ولكنه أجابني بمدّ لسانه، فشعرت بغباوتي واحمر وجهي حتى الأذنين، كالمتلبس بجرم.
بحذاء رياضي وردي، و«جينز» وردي، وسترة وردية، تقدمت جوزفين في اعتداد وسط كتلة قاتمة توحي بأن القساوسة الفرنسيين
المحافظين على ارتداء اللباس الكهنوتي اتفقوا مسبقا على موعد للقاء، و حين انبرت جوقة الأردية -سالفة الذكر - تُرتل نشيد طفولتها «كوني صورة مريم العذراء التي تتضرع لها على ركبنا» شارفت
رفيقتي على ملامسة ذرى النشوة.
كان الجو العام منفجرا حتى ليخيل للمراقب قليل الانتباه أنه إزاء محيط ملعب حديقة الأمراء عشية بطولة أوروبا.


في مدخل الكهف الواقع عند الرحبة الكبيرة راح الصف الممتد لما يناهز الكيلومتر، يتهاوج على الإيقاع الواخز لمقطوعة «إلى ماريا».


لم أر مطلقا مثيلاً لطابور الانتظار هذا - إن لم تخني الذاكرة - سوى في موسكو أمام ضريح لينين.
«لكن مهلاً، لن ألتحق بصف كهذا!!».


«خسارة!» ردّت جوزفين بسرعة، «قد يكون ذلك مفيدا لكافر مثلك!».
«مطلقا!! بل إن ذلك سيكون خطيرا. تخيلي شخصا ذا صحة جيدة يصل إلى هنا في قمة التجلي، وعلى إثر معجزة يصبح مشلولاً».


التفتت نحوي رؤوس عشرة للتعرف على شخص المتفوه بمثل هذا الكلام الصادم.

 «أحمق» علقت جوزفين. هطل المطر فمنحنا
بعض التسلية. ومنذ القطرات الأولى شهدنا تفريخا عفويا لسرب من المظلات، وانتشرت في الجو رائحة الغبار الساخن.

تركنا أنفسنا نسحب حتى كاتدرائية يوحنا 23 الواقعة تحت الأرض، هذا المستودع العظيم للعبادة الذي يقدم فيه القداس من الساعة السادسة إلى منتصف الليل مع تغيير للقس كل نوبتين أو ثلاث.

قرأت في الدليل أن الصحن الإسمنتي وهو أرحب من كاتدرائية القديس بطرس بروما، بوسعه إيواء عدد كبير من طائرات الجامبو.

رحت أتبع جوزفين عبر ممر به أماكن شاغرة تحت واحد من مضخمات الصوت العديدة التي كانت تنقل فعاليات الاحتفال فتردد من خلالها الأصداء قوية «المجد للرب الأعلى في السماوات...
الأعلى في السماوات... السماوات» ومع عملية الرفع ) أخرج الحاج المتبصر المجاور لي من حقيبته منظارا كالذي يستعمله متراهنو سباق الخيل، ليراقب به العمليات. ثمة مخلصون آخرون يملكون مناظير
متطورة باهضة الثمن مثل تلك التي نراها يوم 14 جويلية عند مرور الموكب العسكري.

لطالما كرر والد جوزفين على مسامعي كيف بدأ حياته ببيع مثل هذا النوع من البضاعة عند مخارج محطات المترو.

على أن ذلك لم يمنعه من أن يصبح أحد مشاهير الراديو. بل إنه ما يزال
حتى الآن يستعمل موهبة الباعة المتجولين التي يملك في وصف الزيجات الأميرية، والزلازل الأرضية ونزالات الملاكمة.
في الخارج كان المطر قد توقف عن الهطول و.انتعش الهواء. نطقت جوزفين كلمة «شوبينغ Shopping». ومن باب الاحتياط
لهذا الاحتمال أجريت معاينة للشارع الكبير، هناك تتلاصق محلات الهدايا مثل سوق شرقي مقدمة أكثر العروض الخاصة بسلع التبرك لفتا للنظر.
من هوايات جوزفين أنها تجمع : قناني العطور القديمة، و اللوحات المستوحاة من الريف سواء ببقرة واحدة أو بقطيع، وصحون الأكل
المبهرجة التي تنوب عن قائات الطعام في مطاعم طوكيو، و بصفة عامة كل ما يمكنها إيجاده من «الكيتش» عبر رحلاتها المتعددة، أما هنا، فإنما نحن إزاء واقعة حقيقية للحب من أول نظرة.

ففي المحل الرابع، على الرصيف الأيسر، وسط سقط المتاع من ميداليات التقوى، وساعات الوقواق السويسرية وأطباق الجبن، انتصب تمثال نصفي بديع من الجص ذو هالة متلألئة في مثل زينة أشجار عيد الميلاد وكأنها هو بانتظار جوزفين .
«هي ذي قدّيستي العذراء!!» قالت وهي ترفس الأرض بقدميها.
«سأهديها لك» أجبت على الفور، دون تخيل الثمن الذي سينتزعه مني التاجر زاعها بأنها القطعة الوحيدة المتبقية.


في ذاك المساء احتفلنا بالغنيمة في غرفتنا بالفندق، منيرين لهونا بضوئها المتقطع والمقدس، وقد رسم على السقف ظلا رائعا.
«حسنا جوزفين، أعتقد أن علينا الانفصال حال عودتنا إلى باریس»
«إلى هذا الحد ظننت أنني لم أفهم!!»
«لكن جو...»
كانت قد غفت، فمن مواهبها أنها عندما تُجابه وضعا يضايقها، تملك القدرة على أن تستغرق فورا في نوم وقائي.

فتمنح نفسها إجازة من الوجود لمدة خمس دقائق أو حتى لساعات كثيرة. لبثت للحظة
أتابع جزءا من الحائط أعلى رأس السرير وهو يدخل ويخرج من الظلام.

أي شيطان بإمكانه دفع الناس إلى تغليف غرفة كاملة بقراشة من الخيش البرتقالي؟
ولما كانت جوزفين ما تزال تغط في النوم، لبست ثيابي في تكتم لأذهب وأسلم نفسي لإحدى هواياتي المفضلة: الهذيان الليلي.


كانت طريقتي الخاصة في مقاومة الرياح المؤذية، السير المستقيم إلى الأمام حد الإنهاك. على الجادة، مراهقون هولنديون يعبون أكواز البيرة في جلبة، وقد أحدثوا ثقوبا في أكياس القمامة كي يستعملوها أغطية مانعة لتسرب المطر. كان ثمة حواجز مشبكة ثقيلة تحول دون الدخول إلى الكهف، لكنها تتيح مشاهدة وميض مئات الشموع و هي تمضي نحو حتفها.

في وقت لاحق قادني تجوالي إلى شارع متاجر
التذكارات. وكما توقعت، في الواجهة الرابعة، كان هناك تمثال لمريم شبيه بتمثالنا وقد حلّ محله.
عدت إذن إلى الفندق، ومن على مسافة بعيدة لمحت نافذة غرفتنا تومض وسط الغسق. صعدت الدرج بحرص على ألا أعكر أحلام
الحارس الليلي. كان «أثر الثعبان» موضوعا على وسادتي كجوهرة في
علبتها.
.
«مهلا» همست «شارل سوبراج، لقد نسيته تماما»
تعرفت على خط جوزفين. «ج» ضخمة تلطخ الصفحة 168.
كاستهلال لرسالة غطت فصلين من الكتاب وجعلته غير قابل
للقراءة. «أحبك، أيها الوغد. لا تجعل جوزفينتك تتألم»
لحسن الحظ، كنت بالفعل قد ابتعدت كثيرا.
حين أطفأت «القديسة العذراء»، بدأ النهار في الانبلاج.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

460

متابعين

610

متابعهم

115

مقالات مشابة