بذلة الغوص و الفراشة: الجزء الثاني و العشرون

بذلة الغوص و الفراشة: الجزء الثاني و العشرون

0 المراجعات

التنزه 


الحرارة خانقة، ومع ذلك أرغب في الخروج. فأنا منذ أسابيع، أو ربما منذ أشهر، لم أتخط سياج المستشفى للقيام بالنزهة المعهودة
على الممشى المحاذي لساحل البحر، آخر مرة حصل فيها ذلك كانت الشتاء، الأعاصير الثلجية تعصف بحبيبات الرمل، والمتسكعون
القلائل يمشون بمواجهة الريح في خط منحرف محبوسين في أسالهم
الثخينة.

اليوم أريد أن أرى بارك في حلة الصيف، بشاطئها الذي عرفته متصحرا وقيل لي إنه الآن مزدحم، وحشد تموز اللامبالي.
كي نصل إلى الشارع عبر جناح سوريل، لا بد من المرور بثلاثة مرائب تصطف فيها سيارات ذات أكسية خشنة غير محكمة التغليف
كنت تلك التي تضع مؤخرة الجالس عليها في موقف حرج.

من قد نسيت «درب المحارب» الخاص بنزهتي وما فيه من أغطية بالوعات، وأقنان دجاج وسيارات مركونة على الرصيف.
ها هو البحر، الشمسيات، القوارب الشراعية وجمهرة المستحمين المكملة للبطاقة البريدية.

إنه بحر العطل، بحر رائق وودود. لا علاقة له بالفضاء غير المتناهي ذي المسحة الفولاذية الذي نتطلع إليه من شرفات المستشفى.

وإن كان بالتموج نفسه والتجاويف نفسها
والأفق الضبابي نفسه. 

نسير عبر الفناء الأمامي، وسط ذهاب وإياب لقرون آيس كريم وأفخاذ قرمزية. أتخيلني وأنا ألعق بنهم كرة فانيليا على بشرة فتية
لوحتها الشمس. لا أحد ينتبه لي.

ففي بارك للكراسي المتحركة من الشيوع ما للفيراري في مونتي كارلو، والتعساء البؤساء من المعطوبين.و المهمهمين أبناء فصيلتي، بالإمكان التقاؤهم في كل مكان. مرافقاي
في هذه الظهيرة كلود وبريس. هي أعرفها منذ خمسة عشر يوما، وهو منذ خمسة وعشرين عاما.

بدا لي غريبا أن أستمع إلى شريكي القديم
وهو يحدث عني المرأة الشابة الملتزمة بالحضور كل يوم لأخذ مادة
كتابنا هذا إملاء. طبعي المتقلب، هوسي بالكتب، ذوقي المفرط، الالتزام بالطعام الجيد، سيارتي المكشوفة الحمراء، كل شيء يمر عبر
كلود. وكأنها راو ينبش أساطير عالم خفي. «لا أراك هكذا» تقول لي. 

بات عالمي مقسوما، بين أولئك الذين عرفوني سابقا والآخرين.
على أي هيئة ماضية سيتخيلونني يا تُرى؟ فليس في غرفتي حتى مجرد
صورة أريهم إياها.
توقفنا في أعلى سلم واسع يفضي إلى حانة الشاطئ، وإلى صف جميل من كابينات استحمام فاتحة اللون. ذكرني السلم بالمدخل الكبير لمحطة مترو «باريس-بورت دو أوتوي» الذي كنت أمر به وأنا صبي أثناء عودتي من مسبح «موليتور» وعيناي يغشاهما الكلور. هدم المسبح منذ سنوات. أما السلالم فلم تعد بالنسبة لي سوى مسالك مسدودة.

«هل تريد العودة؟» سألني بريس. فاحتججت بقوة عبر هز رأسي في جميع الاتجاهات.

لا سبيل لعودتي على أعقابي قبل بلوغي
الهدف الحقيقي من هذه الرحلة الاستكشافية. مررنا سريعا وسط
دوار أحصنة خشب قديمة أوشك صوت الأورغن الـ«ليمونار»
الصادر عنه أن يثقب أذني.

اعترضنا «فانجيو» أعجوبة المستشفى،
وتلك كنيته فيه، متصلبا كالعدالة، لا يستطيع الجلوس البتة.

لقد فرض عليه ألا يكون إلا واقفا أو مستلقيا، حتى أنه يتنقل ممددا على بطنه فوق عربة يسيرها بنفسه بسرعة مدهشة. لكن من تُراه يكون ذلك الأسود الطويل ذو الهيئة الرياضية الذي يشق له الطريق صارخا «انتبهوا، ها هو فانجيو!» ؟ فاتني أن أعرف.
أخيرا بلغنا ذروة الرحلة السياحية، هنا، عند نهاية الفناء الأمامي.
و إذا كنت قد رغبت في أن أمر بهذا الطريق كله، فليس لغاية اكتشاف منظر عام بديع وإنها لأشبع نفسي بتلك النفحات المتأتية من مخيم صغير عند جهة الخروج من الشاطئ. وضعوني في مواجهة الريح فأحسست بمنخري يختلجان من المتعة مستنشقا عطرا جافا مدوخا، يستحيل احتماله من أي كان.

«يا إلهي!!» قال صوت ورائي، «إنه أنتن من رائحة الشياط!!»
أنا، لا تضجرني البتة رائحة البطاطا المقلية.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

articles

460

followers

610

followings

115

مقالات مشابة