![الحوامل الأربع اللاتي حملن دون أن يمسهن رجل](https://amwcdn.com/featured/406160/conversions/f8c208e846-full-webp.webp)
الحوامل الأربع اللاتي حملن دون أن يمسهن رجل
فِي قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ، حَيْثُ تَمْتَدُّ اَلْبُيُوتُ اَلطِّينِيَّةُ عَلَى جَانِبَيْ اَلطَّرِيقِ اَلضَّيِّقِ، عَاشَتْ أُمٌّ فَقِيرَةٌ مَعَ بَنَاتِهَا اَلْأَرْبَعِ فِي مَنْزِلٍ مُتَوَاضِعٍ تَفُوحُ مِنْهُ رَائِحَةَ اَلْبَسَاطَةِ وَالْكِفَاحِ. كَانَتْ اَلْأُمُّ تَعْمَلُ خَادِمَةً فِي بُيُوتِ اَلْأَغْنِيَاءِ، تَغْسِلَ اَلصُّحُونُ وَتَمَسُّحِ اَلْأَرْضِيَّاتِ، وَتَعُودَ فِي اَلْمَسَاءِ مُرْهِقَةً تَحْمِلُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ طَعَامِ لِأَطْفَالِهَا. لَمْ يَكُنْ لَدَيْهَا سِوَى هَذِهِ اَلْبَنَاتِ، وَقَدْ وَهَبَّتْهُنَّ عُمْرِهَا، تَسْهَرَ عَلَى رَاحَتِهِنَّ، وَتَحْرِصَ عَلَى تَرْبِيَتِهِنَّ عَلَى اَلْخُلُقِ وَالدِّينِ، فَكُنْ يَحْفَظْنَ اَلْقُرْآنُ، وَيُصَلِّينَ فِي أَوْقَاتِهِنَّ، وَلَا يَخْرُجْنَ مِنْ اَلْبَيْتِ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ. لَكِنَّ ذَاتَ يَوْمٍ، بَدَأَتْ اَلْأَحْدَاثُ تَأْخُذُ مَنْحًى غَرِيبًا، شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ. . . فِي صَبَاحِ يَوْمٍ عَادِيٍّ، اِسْتَيْقَظَتْ " رُقْيَةً "، اَلِابْنَةُ اَلْكُبْرَى، وَهِيَ تَشْعُرُ بِأَلَمٍ غَرِيبٍ فِي مَعِدَتِهَا، لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ مَغَصٍ بَسِيطٍ، بَلْ كَانَ أَشْبَهَ بِسَكَاكِينِ تَمَزُّقِ أَحْشَاءَهَا. جَلَسَتْ عَلَى سَرِيرِهَا مُتَأَوِّهَةً، فَأَسْرَعَتْ أُمُّهَا إِلَيْهَا بِقَلَقٍ، وَضَعَتْ يَدُهَا عَلَى جَبِينِهَا، فَلَمْ تَجِدْ حَرَارَةٌ. – " مَا بِكَ يَا اِبْنَتِي؟ هَلْ تَنَاوَلَتْ شَيْئًا فَاسِدًا؟ " هَزَّتْ رُقْيَةَ رَأْسِهَا بِالنَّفْي وَهِيَ تَهْمِسُ بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ: " لَا أَعْرِفُ يَا أُمِّي. . . أَشْعُرُ بِثِقْلٍ غَرِيبٍ فِي جَسَدِيٍّ وَكَأَنَّنِي لَسْتَ أَنَا! " خَافِتٌ اَلْأُمِّ، وَأَسْرَعَتْ بِهَا إِلَى اَلطَّبِيبِ اَلْوَحِيدِ فِي اَلْقَرْيَةِ. بُعْدُ فَحْصٍ دَقِيقٍ، وَقْفُ اَلطَّبِيبِ أَمَامَ اَلْأُمِّ وَقَالَ بِصَوْتٍ مُتَرَدِّدٍ: " اِبْنَتُكَ حَامِل! " سَقَطَتْ اَلْكَلِمَاتُ كَالصَّاعِقَةِ، تَجَمَّدَتْ اَلْأُمُّ فِي مَكَانِهَا، اِتَّسَعَتْ عَيْنَاهَا بِذُهُولٍ، وَكَأَنَّهَا لَمْ تَفْهَمْ مَا قِيلَ لِلتَّوِّ. نَظَرَتْ إِلَى اَلطَّبِيبِ بِعَدَمِ تَصْدِيقٍ، ثُمَّ إِلَى اِبْنَتِهَا، اَلَّتِي بَدَتْ مَصْدُومَةً أَكْثَرَ مِنْهَا. – " كَيْفَ ذَلِكَ؟ ! مَاذَا تَقُولُ يَا دُكْتُورٌ؟ مُسْتَحِيل! اِبْنَتِي شَرِيفَةً، لَا تَخْرُجُ مِنْ اَلْمَنْزِلِ، كَيْفَ تَكُونُ حَامِلاً؟ ! " أَخْفَضَ اَلطَّبِيبِ رَأْسِهِ وَقَالَ بِأَسَفٍ: " أَنَا لَا أَعْرِفُ، لَكِنَّ هَذَا مَا تُؤَكِّدُهُ اَلْفُحُوصَاتُ، عَلَيْهَا أَنْ تَرْتَاحَ فِي هَذِهِ اَلْفَتْرَةِ. " عَادَتْ اَلْأُمُّ إِلَى اَلْمَنْزِلِ وَهِيَ تُجْرِ قَدَمَيْهَا، لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَتَحَدَّثَ طَوَالَ اَلطَّرِيقِ. لَمْ تَكُنْ تَفَهُّمَ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ شَيْءٌ كَهَذَا؟ جَلَسَتْ أَمَامَ اِبْنَتِهَا، وَانْهَارَتْ فِي اَلْبُكَاءِ: – " قَوْلِي لِي يَا اِبْنَتِي. . . مِنْ فِعْلِ هَذَا بِكَ؟ ! قَوْلِي اَلْحَقِيقَةُ، لَا تَخَافِي، سَأُسَاعِدُكُ! " لَكِنَّ رُقَيَّة ظَلَّتْ تَهُزُّ رَأْسَهَا بِعُنْفِ وَهِيَ تَبْكِي بِحُرْقَةٍ: – " أُمِّي، أَقْسَمَ لَكَ، لَمْ يَلْمِسْنِي أَحَدٌ! لَمٍّ أَخْرَجَ مِنْ اَلْمَنْزِلِ قَطُّ، لَا أَعْرِفُ كَيْفَ حَدَثَ هَذَا! "
زَادَ بُكَاءَ اَلْأُمِّ، وَلَمْ تَسْتَطِعْ اَلسَّيْطَرَةُ عَلَى غَضَبِهَا، فَانْهَالَتْ عَلَى اِبْنَتِهَا بِالضَّرْبِ، لَمْ تَكُنْ تُصَدِّقُ أَنَّ اِبْنَتَهَا اَلْبَرِيئَةَ تُخْفِي عَنْهَا سِرًّا كَهَذَا. لَكِنَّ اَلْفَتَاةَ كَانَتْ تُكَرِّرُ نَفْسَ اَلْكَلِمَاتِ وَهِيَ تَبْكِي بِأَلَمٍ: – " أُمِّي، وَاَللَّهُ لَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا. . . لَا أَعْلَمُ كَيْفَ! " ظَلَّتْ اَلْأُمُّ تَبْكِي طَوَالَ اَللَّيْلِ وَهِيَ لَا تَفْهَمُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ اِبْنَتُهَا حَامِلاً دُونَ أَنْ يَمَسَّهَا أَحَدٌ. لَمْ يَمْضِ سِوَى أُسْبُوعٍ، حَتَّى بَدَأَتْ اَلِابْنَةُ اَلثَّانِيَةُ، " سَلْمَى "، تَشْعُرَ بِنَفْسِ اَلْأَعْرَاضِ، أَلَمٌ فِي اَلْمَعِدَةِ، دَوْخَةٌ، تَعَبٌ مُسْتَمِرٌّ. لَمْ تَتَحَمَّلْ اَلْأُمُّ رُؤْيَةَ هَذَا اَلْمَشْهَدِ يَتَكَرَّرُ، فَأَخَذَتْهَا إِلَى اَلطَّبِيبِ، وَقَلْبُهَا يَرْتَجِفُ مِنْ اَلْخَوْفِ. وَحِينُ نَطَقَ اَلطَّبِيبُ بِالْكَلِمَاتِ نَفْسِهَا: " اِبْنَتُكَ حَامِل! " شَعَرَتْ اَلْأُمُّ أَنَّ قَلْبَهَا سَيَنْفَجِرُ مِنْ شِدَّةِ اَلصَّدْمَةِ. عَادَتْ إِلَى اَلْمَنْزِلِ وَكَأَنَّهَا تُجْرِ نَفْسَهَا جَرًّا، لَا تُصَدِّقُ مَا يَحْدُثُ لَهَا، كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ اِبْنَتُهَا اَلثَّانِيَة حَامِلاً أَيْضًا؟ ! هَلْ هِيَ لَعْنَةٌ أَصَابَتْ مَنْزِلَهَا؟ هَلْ هُنَاكَ سِرٌّ لَا تَعْرِفُهُ؟ أُمٌّ أَنَّ هُنَاكَ أَحَدًا يَتَسَلَّلُ إِلَى اَلْمَنْزِلِ دُونَ أَنْ تَرَاهُ؟ لَمْ تَسْتَطِعْ اَلْأُمُّ أَنْ تَتَحَمَّلَ أَكْثَر، ضَرَبَتْ سِلْمِيٍّ كَمَا فَعَلَتْ مَعَ أُخْتِهَا، لَكِنَّهَا أَيْضًا ظَلَّتْ تَصْرُخُ بِنَفْسِ اَلْكَلِمَاتِ: – " أُمِّي، أَقْسَمَ بِاَللَّهِ، لَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا، لَا أَعْرِفُ كَيْفَ حَدَثَ هَذَا! " مَرَّتْ اَلْأَيَّامُ، وَزَادَ خَوْفُ اَلْأُمِّ وَقَلَقِهَا، حَتَّى جَاءَتْ اَلْكَارِثَةُ اَلْكُبْرَى، حِينُ بَدَأَتْ اِبْنَتُهَا اَلثَّالِثَة، " لَيْلَى "، تُعَانِي مِنْ نَفْسِ اَلْأَعْرَاضِ. أَسْرَعَتْ بِهَا اَلْأُمُّ إِلَى اَلطَّبِيبِ، وَكَأَنَّهَا تَعَرَّفَ مُسْبَقًا مَا سَيَقُولُهُ، وَمَا إِنْ نَطَقَ بِالْحُكْمِ حَتَّى اِنْهَارَتْ تَمَامًا لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ مَجَالٌ لِلشَّكِّ أَوْ اَلصُّدْفَةِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ اَلْبَنَاتُ اَلثَّلَاثُ جَمِيعهُنَّ قَدْ وَقَعْنَ فِي اَلْخَطَأِ! لَا يُمْكِنُ أَنْ يُكِنَّ يَكْذِبْنَ عَلَيْهَا جَمِيعًا بِنَفْسِ اَلطَّرِيقَةِ! بَدَأَ عَقْلُ اَلْأُمِّ يَنْهَارُ تَحْتَ وَطْأَةِ اَلْأَفْكَارِ اَلْمُتَلَاطِمَةِ، أَيُّ قُوَّةٍ شَيْطَانِيَّةٍ هَذِهِ اَلَّتِي أَصَابَتْ بَيْتَهَا؟ هَلْ هُوَ سِحْرٌ؟ هَلْ هُنَاكَ جُنَّ يَسْكُنُ اَلْبَيْتُ وَيَفْعَلُ ذَلِكَ بِبَنَاتِهَا؟ أَمْ أَنَّ هُنَاكَ إِنْسَانًا يَتَسَلَّلُ لَيْلاً وَيَفْعَلُ فِعْلَتَهُ دُونَ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ أَحَدٌ؟ لَكِنَّ اَلْمُصِيبَةَ لَمْ تَتَوَقَّفْ هُنَا. . . بُعْدُ أُسْبُوعٍ وَاحِدٍ فَقَطْ، بَدَأَ جَسَدُ اَلِابْنَةِ اَلصُّغْرَى، " نَادِيَة "، ذَاتَ اَلْخَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا، يُظْهِرَ اَلْأَعْرَاضَ نَفْسُهَا. لَمْ تَعُدْ اَلْأُمُّ تَحْتَمِلُ، شَعَرَتْ أَنَّ اَلْبَيْتَ أَصْبَحَ مَقْبَرَةً لِلْأَسْرَارِ اَلْمُرْعِبَةِ. وَقَفَتْ أَمَامَ بَنَاتِهَا اَلْأَرْبَعِ وَهُنَّ يَبْكِينَ، وَقَدْ أَصْبَحَتْ بُطُونُهُنَّ تَكْبُرُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَلَمْ تَفْهَمْ كَيْفَ يَحْدُثُ هَذَا
في النِّهاية، لَمْ تَجِدِ الأُمُّ بُدًّا مِنَ اللَّجوءِ إلى القاضِي، فهُوَ الوَحيدُ الَّذِي قَدْ يُساعِدُها عَلَى كَشْفِ هَذَا اللَّغْزِ المُرِيعِ. حَمَلَتْ دُمُوعَها وَذَهَبَتْ إلى دَارِ القَضَاءِ، وَوَقَفَتْ بَيْنَ النَّاسِ المَنْكُوبِينَ، وَعِنْدَمَا جَاءَ دَوْرُهَا، تَقَدَّمَتْ وَهِيَ تَبْكِي بِحُرْقَةٍ:
– "سَيِّدِي القَاضِي، أَتَيْتُكَ بِمُصِيبَةٍ لَمْ يَسْمَعْ بِهَا بَشَرٌ مِنْ قَبْلُ!"
رَفَعَ القَاضِي رَأْسَهُ وَنَظَرَ إلَيْهَا بِتَعَمُّقٍ، ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ هَادِئٍ: "مَا مُصِيبَتُكِ يَا أُمِّي؟ تَفَضَّلِي، قُولِي كُلَّ شَيْءٍ."
لَكِنَّ المَرْأَةَ كَانَتْ تَلْتَفِتُ حَوْلَهَا بِتَوَتُّرٍ، كَانَ المَكَانُ مَزْدَحِمًا، وَعُيُونُ الجَمِيعِ شَاخِصَةٌ نَحْوَهَا. شَعَرَتْ أَنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ البَوْحَ بِهَذَا الأَمْرِ أَمَامَ الجَمِيعِ، فَهَمَّ القَاضِي ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِإِخْلَاءِ القَاعَةِ لِيُمْنِحَهَا فُرْصَةَ الحَدِيثِ بِحُرِّيَّةٍ.
وَعِنْدَمَا أَصْبَحَتْ وَحْدَهَا، جَلَسَتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا وَانْفَجَرَتْ فِي البُكَاءِ قَائِلَةً:
– "يَا سِيَادَةَ القَاضِي، بَنَاتِي الأَرْبَعُ... جَمِيعُهُنَّ حَوَامِلُ، وَهُنَّ لَمْ يَخْرُجْنَ مِنَ البَيْتِ قَطُّ، وَلَمْ يَلْمِسْهُنَّ رَجُلٌ! أُقْسِمُ أَنِّي لَا أَفْهَمُ مَا الَّذِي يَحْدُثُ!"
اتَّسَعَتْ عَيْنَا القَاضِي بِذُهُولٍ، وَشَعَرَ أَنَّ الأَمْرَ لَيْسَ مَجَرَّدَ حَادِثَةٍ عَادِيَّةٍ، بَلْ هُوَ لُغْزٌ يَجِبُ حَلُّهُ...
جَلَسَ القَاضِي فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ أَنْ اسْتَمَعَ إِلَى الأُمِّ العَجُوزِ، وَهُوَ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ. كَيْفَ يُمْكِنُ لِأَرْبَعِ فَتَيَاتٍ لَمْ يَخْرُجْنَ مِنَ المَنْزِلِ قَطُّ أَنْ يَحْمَلْنَ؟ كَانَ الأَمْرُ أَشْبَهَ بِلُغْزٍ لَا تَفْسِيرَ لَهُ، لَكِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الحَقِيقَةَ مَدْفُونَةٌ فِي مَكَانٍ مَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَجِدَهَا قَبْلَ فَوَاتِ الأَوَانِ.
نَظَرَ إِلَى المَرْأَةِ العَجُوزِ بِعَيْنَيْنِ مَلِيئَتَيْنِ بِالتَّفْكِيرِ، ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ حَازِمٍ:
– "عُودِي إِلَى مَنْزِلِكِ، وَلَا تُخْبِرِي أَحَدًا أَنَّكِ أَتَيْتِ إِلَيَّ، سَأَبْحَثُ فِي الأَمْرِ بِنَفْسِي."
خَرَجَتِ الأُمُّ مِنْ دَارِ القَضَاءِ وَهِيَ مَا تَزَالُ فِي حَالَةٍ مِنَ الصَّدْمَةِ وَالضَّيَاعِ. أَمَّا القَاضِي، فَقَدِ اسْتَدْعَى اثْنَيْنِ مِنْ حَرَسِهِ المَوْثُوقِينَ وَأَمَرَهُمَا بِمُرَاقَبَةِ المَنْزِلِ سِرًّا، لَعَلَّهُمَا يَكْتَشِفَانِ شَيْئًا غَرِيبًا.
فِي اللَّيَالِي التَّالِيَةِ، كَانَ الجُنُودُ يُرَاقِبُونَ المَنْزِلَ بِعِنَايَةٍ. كَانَ كُلُّ شَيْءٍ يَبْدُو طَبِيعِيًّا؛ الأُمُّ تَخْرُجُ لِلْعَمَلِ فِي الصَّبَاحِ، وَتَعُودُ مَسَاءً، بَيْنَمَا تَبْقَى البَنَاتُ فِي الدَّاخِلِ دُونَ أَنْ يَخْرُجَ أَحَدٌ أَوْ يَدْخُلَ إِلَيْهِنَّ. لَكِنَّ فِي إِحْدَى اللَّيَالِي، لَاحَظَ الجُنُودُ شَيْئًا مُثِيرًا لِلرِّيَبَةِ.
قَبْلَ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ بِقَلِيلٍ، ظَهَرَ رَجُلٌ عَجُوزٌ يَقْتَرِبُ مِنَ المَنْزِلِ بِحَذَرٍ، وَوَضَعَ كِيسًا صَغِيرًا أَمَامَ البَابِ، ثُمَّ غَادَرَ بِسُرْعَةٍ نَحْوَ الغَابَةِ المُجَاوِرَةِ. لَمْ يَكُنْ يَبْدُو عَلَيْهِ أَنَّهُ يُرِيدُ إِلْحَاقَ الأَذَى، لَكِنَّ تَصَرُّفَهُ كَانَ مُرِيبًا بِمَا يَكْفِي لِإِبْلَاغِ القَاضِي.
فِي الصَّبَاحِ، عِنْدَمَا جَاءَتِ الأُمُّ لِفَتْحِ البَابِ، وَجَدَتِ الكِيسَ كَالمُعْتَادِ، حَمَلَتْهُ إِلَى الدَّاخِلِ، كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ كُلَّ يَوْمٍ، دُونَ أَنْ تُفَكِّرَ فِي الأَمْرِ.
أَمَرَ القَاضِي بِإِلْقَاءِ القَبْضِ عَلَى الرَّجُلِ العَجُوزِ، وَإِحْضَارِهِ إِلَى مَجْلِسِهِ عَلَى الفَوْرِ.
كَانَ الرَّجُلُ نَحِيفًا، يَرْتَدِي مَلَابِسَ رَثَّةً، وَعَيْنَاهُ تَحْمِلَانِ نَظْرَةَ حُزْنٍ عَمِيقٍ. عِنْدَمَا وَقَفَ أَمَامَ القَاضِي، نَظَرَ إِلَيْهِ الأَخِيرُ بِحِدَّةٍ وَسَأَلَهُ:
– "مَنْ أَنْتَ؟ وَلِمَاذَا تَتْرُكُ الطَّعَامَ أَمَامَ مَنْزِلِ هَذِهِ المَرْأَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ؟"
تَنَهَّدَ العَجُوزُ وَقَالَ بِصَوْتٍ مُتْعَبٍ:
– "يَا سَيِّدِي، اسْمِي مَحْمُودٌ، كُنْتُ صَدِيقًا لِزَوْجِ هَذِهِ المَرْأَةِ قَبْلَ وَفَاتِهِ. كَانَ رَجُلًا طَيِّبًا يُسَاعِدُنِي حِينَ كُنْتُ جَائِعًا، وَلَمْ يَكُنْ لَدَيَّ عَمَلٌ. وَعِنْدَمَا مَاتَ، شَعَرْتُ أَنَّهُ مِنْ وَاجِبِي أَنْ أَرُدَّ لَهُ الجَمِيلَ، فَأَصْبَحْتُ أَجْمَعُ الحَطَبَ وَأَبِيعُهُ، وَأَشْتَرِي بِثَمَنِهِ طَعَامًا لِأَرْمَلَتِهِ وَبَنَاتِهِ. لَمْ يَكُنْ لَدَيَّ أَيُّ نِيَّةٍ سَيِّئَةٍ
نَظَرَ إِلَيْهِ القَاضِي بِشَكٍّ، ثُمَّ سَأَلَهُ:
– "وَهَلْ كُنْتَ تَدْخُلُ المَنْزِلَ؟ هَلْ تَحَدَّثْتَ إِلَى الفَتَيَاتِ؟"
– "لَا، أُقْسِمُ بِاللهِ، لَمْ أَدْخُلِ المَنْزِلَ قَطُّ. كُنْتُ أَضَعُ الطَّعَامَ وَأَذْهَبُ."
لَكِنَّ القَاضِيَ لَمْ يَقْتَنِعْ بَعْدُ، فَصَمَتَ قَلِيلًا، ثُمَّ قَالَ لِجُنُودِهِ:
– "فَتِّشُوا مَنْزِلَهُ، وَابْحَثُوا عَنْ أَيِّ دَلِيلٍ."
انْطَلَقَ الجُنُودُ إِلَى مَنْزِلِ مَحْمُودٍ، وَبَدَأُوا فِي تَفْتِيشِهِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا أَيَّ شَيْءٍ يُدِلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدِ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً. لَمْ يَكُنْ فِي مَنْزِلِهِ سِوَى بَعْضِ الأَوَانِي القَدِيمَةِ، وَحُزْمَةٍ مِنَ الحَطَبِ، وَبَعْضِ الخُبْزِ اليَابِسِ.
عَادَ الجُنُودُ إِلَى القَاضِي وَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّ المَنْزِلَ خَالٍ مِنْ أَيِّ دَلِيلٍ يُثْبِتُ تَوَرُّطَهُ فِي أَيِّ شَيْءٍ.
لَكِنَّ القَاضِيَ لَمْ يَقْتَنِعْ تَمَامًا، فَطَلَبَ مِنْ طَبِيبِ القَرْيَةِ إِجْرَاءَ فُحُوصَاتٍ جَدِيدَةٍ لِلْبَنَاتِ الأَرْبَعِ، لَعَلَّهُ يَكْتَشِفُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا مِنْ قَبْلُ.
بَعْدَ سَاعَاتٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الفُحُوصَاتِ وَالتَّحَالِيلِ، دَخَلَ الطَّبِيبُ إِلَى مَجْلِسِ القَاضِي وَهُوَ يَحْمِلُ أَوْرَاقَهُ بِيَدٍ مُرْتَعِشَةٍ. بَدَا عَلَيْهِ الِارْتِبَاكُ وَهُوَ يَقُولُ بِصَوْتٍ مُتَرَدِّدٍ:
– "يَا سَيِّدِي القَاضِي... هُنَاكَ أَمْرٌ غَرِيبٌ جِدًّا."
رَفَعَ القَاضِي حَاجِبَيْهِ وَقَالَ بِجِدِّيَّةٍ:
– "مَا الأَمْرُ؟ تَكَلَّمْ فَوْرًا!"
تَنَهَّدَ الطَّبِيبُ وَقَالَ:
– "بَعْدَ إِجْرَاءِ الفُحُوصَاتِ، اكْتَشَفْنَا أَنَّ البَنَاتِ الأَرْبَعَ لَمْ يَحْمِلْنَ بِطَرِيقَةٍ طَبِيعِيَّةٍ! لَمْ يَقْتَرِبْ مِنْهُنَّ أَيُّ رَجُلٍ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْنَ لِأَيِّ اعْتِدَاءٍ. مَا يُعَانِينَ مِنْهُ لَيْسَ حَمْلًا حَقِيقِيًّا، بَلْ حَالَةٌ طِبِّيَّةٌ نَادِرَةٌ جِدًّا!"
اتَّسَعَتْ عَيْنَا القَاضِي بِدَهْشَةٍ:
– "حَالَةٌ طِبِّيَّةٌ؟ مَاذَا تَعْنِي؟"
– "إِنَّهُ مَرَضٌ نَادِرٌ، يَتَسَبَّبُ فِي انْتِفَاخِ البَطْنِ وَتَجَمُّعِ السَّوَائِلِ دَاخِلَهُ، مِمَّا يُعْطِي مَظْهَرَ الحَمْلِ. هَذِهِ الحَالَةُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ وَرَاثِيَّةً، خَاصَّةً إِذَا أُصِيبَ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ فَرْدٍ فِي العَائِلَةِ."
وَضَعَتِ الأُمُّ يَدَهَا عَلَى فَمِهَا بِذُهُولٍ، ثُمَّ صَاحَتْ:
– "يَا اللهُ! لَقَدْ كَانَ وَالِدُهُمَا يُعَانِي مِنْ مَشَاكِلَ فِي المَعِدَةِ قَبْلَ وَفَاتِهِ! هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ السَّبَبُ؟"
أَوْمَأَ الطَّبِيبُ بِرَأْسِهِ وَقَالَ:
– "الأَمْرُ مُمْكِنٌ جِدًّا، وَهَذِهِ الحَالَةُ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى مُضَاعَفَاتٍ خَطِيرَةٍ إِنْ لَمْ تُعَالَجْ بِسُرْعَةٍ."
انْفَجَرَ القَاضِي غَاضِبًا وَهُوَ يَضْرِبُ الطَّاوِلَةَ بِيَدِهِ:
– "إِذَنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَيُّ ذَنْبٍ ارْتَكَبَتْهُ الفَتَيَاتُ! لَقَدْ تَعَرَّضْنَ لِلضَّرْبِ وَالإِهَانَةِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَفْعَلْنَهُ!"
بَدَأَتِ الأُمُّ تَبْكِي وَهِيَ تَسْقُطُ عَلَى رُكْبَتَيْهَا، تَشْعُرُ بِالنَّدَمِ عَلَى شَكِّهَا فِي بَنَاتِهَا وَضَرْبِهِنَّ بِغَيْرِ حَقٍّ.
لَكِنَّ القَاضِيَ لَمْ يَنْتَهِ بَعْدُ، فَالْتَفَتَ إِلَى الطَّبِيبِ وَقَالَ:
– "هَلْ يُمْكِنُ عِلَاجُهُنَّ؟"
– "نَعَمْ، وَلَكِنَّ العِلَاجَ مُكْلِفٌ جِدًّا، وَيَجِبُ إِجْرَاؤُهُ بِأَسْرَعِ وَقْتٍ مُمْكِنٍ قَبْلَ أَنْ تَتَفَاقَمَ الحَالَةُ."
تَجَمَّدَتِ الأُمُّ فِي مَكَانِهَا، فَقَدْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ المَالَ الكَافِيَ حَتَّى لِإِطْعَامِ بَنَاتِهَا، فَكَيْفَ سَتُوَفِّرُ ثَمَنَ العِلَاجِ؟
وَهَنَا، حَدَثَ شَيْءٌ لَمْ يَتَوَقَّعْهُ أَحَدٌ
جَلَسَ القَاضِي فِي مَجْلِسِهِ، يُفَكِّرُ فِي الحَلِّ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى الأُمِّ الَّتِي غَلَبَهَا البُكَاءُ، وَإِلَى البَنَاتِ اللَّاتِي جَلَسْنَ مُطَأْطِئَاتِ الرُّؤُوسِ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ أَنَّهُنَّ بَرِيئَاتٌ تَمَامًا مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِنَّ. كَانَ العِلَاجُ مُكْلِفًا، لَكِنَّ القَاضِيَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَغْضُونَ الطَّرْفَ عَنْ مَظْلُومٍ يَحْتَاجُ إِلَى المُسَاعَدَةِ.
الْتَفَتَ إِلَى الرَّجُلِ العَجُوزِ مَحْمُودٍ، الَّذِي كَانَ يَقِفُ صَامِتًا وَعَيْنَاهُ مَلِيئَتَانِ بِالحُزْنِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ:
– "لَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّكَ كُنْتَ تُسَاعِدُ هَذِهِ العَائِلَةَ طَوَالَ هَذِهِ السِّنِينَ، رَغْمَ فَقْرِكَ، فَهَلْ مَا زِلْتَ تَمْلِكُ مَا يَكْفِي لِمُسَاعَدَتِهِنَّ الآنَ؟"
تَنَهَّدَ الرَّجُلُ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ هَذِهِ اللَّحْظَةَ، ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ هَادِئٍ لَكِنَّهُ حَازِمٌ:
– "سَيِّدِي القَاضِي، طَوَالَ حَيَاتِي كُنْتُ أَجْمَعُ المَالَ القَلِيلَ الَّذِي أَكْسِبُهُ مِنْ بَيْعِ الحَطَبِ، وَأَخْفَيْتُهُ عَنِ الجَمِيعِ لِيَكُونَ لِي سَنَدًا فِي كِبَرِي، لَكِنْ مَاذَا أَفْعَلُ بِمَالٍ لَا يَنْفَعُنِي وَأَنَا أَرَى هَؤُلَاءِ البَنَاتِ يُعَانِينَ؟"
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الأُمِّ المَكْلُومَةِ وَقَالَ لَهَا:
– "سَأَدْفَعُ كُلَّ مَا أَمْلِكُ مِنْ مَالٍ لِعِلَاجِ بَنَاتِكِ، فَهَذَا دَيْنٌ فِي عُنُقِي لِزَوْجِكِ الَّذِي لَمْ يَتْرُكْنِي يَوْمًا وَأَنَا جَائِعٌ."
انْفَجَرَتِ الأُمُّ بِالبُكَاءِ، وَأَخَذَتْ تُقَبِّلُ يَدَيِ الرَّجُلِ وَهِيَ تَقُولُ:
– "لَا أُصَدِّقُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَ لَنَا مَنْ يُنْقِذُ بَنَاتِي... يَا لَكَرَمِكَ يَا رَبُّ!"
لَكِنَّ القَاضِيَ لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ، بَلْ وَقَفَ وَخَاطَبَ النَّاسَ قَائِلًا:
– "هَذِهِ العَائِلَةُ عَانَتْ ظُلْمًا شَدِيدًا، وَتُمَّ اتهامُ بَنَاتِهَا فِي شَرَفِهِنَّ دُونَ وَجْهِ حَقٍّ. اليَوْمَ، نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى رِجَالِ الخَيْرِ فِي هَذِهِ القَرْيَةِ لِيَكُونُوا عَوْنًا لَهُنَّ!"
تَحَرَّكَتِ القُلُوبُ، وَتَعَالَتْ أَصْوَاتُ النَّاسِ فِي المَجْلِسِ، فَأَخَذَ التُّجَّارُ وَالأَغْنِيَاءُ فِي التَّبَرُّعِ بِمَا يَسْتَطِيعُونَ، حَتَّى تَمَّ جَمْعُ المَبْلَغِ المَطْلُوبِ لِعِلَاجِ البَنَاتِ الأَرْبَعِ.
تُمَّ نَقْلُ البَنَاتِ إِلَى أَكْبَرِ أَطِبَّاءِ المَدِينَةِ، وَأُجْرِيَتْ لَهُنَّ العَمَلِيَّاتُ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ. وَبَعْدَ أَيَّامٍ مِنَ القَلَقِ، خَرَجَ الطَّبِيبُ بِابْتِسَامَةٍ مُطْمَئِنَّةٍ وَهُوَ يَقُولُ لِلْأُمِّ:
– "أَبْشِرِي، بَنَاتُكِ فِي أَمَانٍ الآنَ، وَسَيَتَعَافَيْنَ تَمَامًا بِفَضْلِ اللهِ!"
عَادَتِ الأُمُّ إِلَى مَنْزِلِهَا مَعَ بَنَاتِهَا، وَالفَرْحَةُ تَغْمُرُ قُلُوبَهُنَّ بَعْدَ أَنْ زَالَ الخَطَرُ، وَظَهَرَ الحَقُّ، وَتَأَكَّدَ الجَمِيعُ أَنَّ مَا حَدَثَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا ابْتِلَاءً أَرَادَ اللهُ بِهِ اخْتِبَارَ صَبْرِهِنَّ وَإِظْهَارَ نِيَّاتِ النَّاسِ مِنْ حَوْلِهِنَّ.
وَفِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ، جَلَسَتِ الأُمُّ مَعَ بَنَاتِهَا، وَقَالَتْ لَهُنَّ بِحِكْمَةٍ:
– "لَقَدْ تَعَلَّمْتُ دَرْسًا قَاسِيًا يَا بَنَاتِي... لَيْسَ كُلُّ مُصِيبَةٍ هِيَ عِقَابٌ، أَحْيَانًا يَخْتَبِرُنَا اللهُ لِيَكْشِفَ لَنَا قُلُوبَ النَّاسِ مِنْ حَوْلِنَا، وَقَدْ أَظْهَرَ لَنَا مَنْ هُمُ الطَّيِّبُونَ الَّذِينَ وَقَفُوا بِجَانِبِنَا، وَمَنْ هُمُ الَّذِينَ اتَّهَمُونَا دُونَ دَلِيلٍ."
ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَى الرَّجُلِ العَجُوزِ مَحْمُودٍ، وَقَالَتْ لَهُ بِامْتِنَانٍ:
– "لَقَدْ كُنْتَ لَنَا بِمَثَابَةِ الأَبِ الَّذِي فَقَدْنَاهُ، جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا عَنَّا."
ابْتَسَمَ مَحْمُودٌ وَالدُّمُوعُ تَلْمَعُ فِي عَيْنَيْهِ، وَقَالَ بِصَوْتٍ دَافِئٍ:
– "مَا فَعَلْتُهُ لَيْسَ سِوَى رَدِّ جَمِيلٍ لِرَجُلٍ لَمْ يَتْرُكْنِي وَحْدِي حِينَ كُنْتُ ضَعِيفًا. الدُّنْيَا تَدُورُ يَا ابْنَتِي، وَاليَوْمَ نُسَاعِدُ غَيْرَنَا، وَغَدًا قَدْ يَأْتِي مَنْ يُسَاعِدُنَا."
مَرَّتِ الأَيَّامُ، وَعَادَتِ الحَيَاةُ إِلَى طَبِيعَتِهَا فِي ذَلِكَ المَنْزِلِ البَسِيطِ، لَكِنَّ شَيْئًا مَا تَغَيَّرَ إِلَى الأَبَدِ... أَصْبَحَتِ الأُمُّ أَقْوَى، وَالبَنَاتُ أَكْثَرَ وَعْيًا بِأَنَّ الظُّلْمَ قَدْ يَقَعُ أَحْيَانًا، لَكِنَّ اللهَ لَا يَتْرُكُ المَظْلُومَ دُونَ أَنْ يَنْصُرَهُ.
أَمَّا القَاضِي، فَقَدْ تَعَلَّمَ دَرْسًا آخَرَ عَنْ أَهَمِّيَّةِ البَحْثِ عَنِ الحَقِيقَةِ قَبْلَ إِصْدَارِ الأَحْكَامِ، وَأَدْرَكَ أَنَّ العَدْلَ لَيْسَ مَجَرَّدَ تَنْفِيذِ القَوَانِينِ، بَلْ هُوَ إِنْصَافُ المَظْلُومِينَ وَمُسَاعَدَتُهُمْ عَلَى النُّهُوضِ مِنْ جَدِيدٍ.
وَهَكَذَا انْتَهَتْ قِصَّةُ الأُمِّ وَبَنَاتِهَا الأَرْبَعِ، بَعْدَ أَنْ ظَنَّ الجَمِيعُ أَنَّهُنَّ قَدْ فَقَدْنَ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ اللهَ جَعَلَ مِنْ مُحْنَتِهِنَّ طَرِيقًا لِاكْتِشَافِ الخَيْرِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ مِنْ حَوْلِهِنَّ، وَلِإِظْهَارِ أَنَّ الرَّحْمَةَ وَالعَدْلَ هُمَا الأَسَاسُ الحَقِيقِيُّ لِلْحَيَاةِ.
وَإِلَى اللِّقَاءِ فِي قِصَّةٍ جَدِيدَةٍ.