بين السطور والضوء الخافت

بين السطور والضوء الخافت

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

✦ بين السطور والضوء الخافت ✦

كان الليل يتثاءب ببطء، يزحف نحو منتصفه كأنه لا يريد أن ينتهي. في الغرفة الصغيرة التي تعوّد أن يختبئ فيها من ضجيج العالم، جلس سامر أمام مكتبه الخشبي العتيق، يراقب خيوط الضوء المتعبة التي تنبعث من مصباحٍ صغير وتنعكس على أوراقه البيضاء. لم يكن يعرف إن كان يحاول الكتابة حقًا أم أنه فقط يُحاول أن يُخدع نفسه بأن الحبر قادر على مداواة الفراغ الذي تركته هي وراءها.

كانت الساعة تقترب من الواحدة بعد منتصف الليل، والمطر في الخارج يُمسك بنغمةٍ هادئة على زجاج النافذة. في كل قطرة، كان يسمع وقع خطواتها القديمة حين كانت تعود من الجامعة، مبتلّة من المطر، تضحك وهي تقول إن العالم يبدو أنظف بعد العاصفة. ابتسم بمرارة. لم يتغير العالم كما ظنّت، لكنه هو من تغيّر تمامًا.

حاول أن يكتب جملةً افتتاحية جديدة، لكن القلم تردّد في يده كأن الكلمات تخاف الخروج.
كل شيء كان يُشبه البدايات إلا قلبه، فقد صار مُثقلاً بما يكفي ليكره البدء من جديد.
كتب أخيرًا بخطٍ مائل:

“ليست المشكلة أن ترحل، بل أن تترك الباب مفتوحًا خلفك.”

قرأها أكثر من مرة، ثم ترك القلم وسند رأسه إلى الكرسي.
الورقة أمامه بدت كمرآة، لا تعكس وجهه، بل تُعيد له صدى صمته.
تساءل في نفسه: هل يكتبها لأنه يفتقدها، أم لأنه يخاف أن ينساها؟
ربما الاثنان معًا.

كان يظن أن الفقد يُنسى بالزمن، لكنه اكتشف أن بعض الأشخاص لا يخرجون من القلب، بل يسكنونه مثل ظلّ دائم، يُرافقك حتى وأنت تبتسم لغيرهم. حاول أن يقنع نفسه بأن الكتابة كافية لتخليصه منها، لكن كل كلمة يكتبها كانت تزيدها حضورًا في حياته أكثر.

قام إلى النافذة، فتحها قليلًا، فهبت نسمة باردة تحمل رائحة المطر والليل. أغمض عينيه للحظة، وتخيّلها كما كانت دائمًا: شعرها يلتصق بجبهتها من المطر، وعيناها تلمعان بالدهشة من أبسط الأشياء.
تساءل بخفوت: "هل تذكرينني الآن؟"
لم يُجب أحد. فقط صوت المطر، وصدى أنفاسه.

عاد إلى مكتبه وجلس. هذه المرة لم يكتب بحذر، بل ترك القلم ينزف كما يشاء. كتب عن الخوف، عن الوحدة، عن الحنين الذي لا يخفت، عن الأحلام التي يخبّئها في دفاتر لا يجرؤ على قراءتها أحد. كان يكتب كمن يُطارد شبحًا يعرف أنه لن يُمسكه، لكنه يركض رغم ذلك، لأن الركض نفسه صار سببًا للعيش.

“ربما لا تعودي أبدًا، لكنّ الحكاية لم تكتمل بعد.”

حين انتهى من الجملة، شعر أنه أخيرًا قال ما أراد، لكن في الوقت نفسه، شيء ما بدا ناقصًا.
النص لا يزال مفتوحًا، والليل لم ينتهِ، والمطر لم يتعب بعد.
رفع نظره إلى النافذة، وابتسم ابتسامة صغيرة فيها مزيج من الأمل والحنين.

ربما، فقط ربما، كانت قصته معها لم تنتهِ بعد.
مدّ يده إلى الورقة الأخيرة في الدفتر، كتب في أعلاها عنوانًا صغيرًا:

“الفصل الثاني — حين يعود الضوء.”

ثم أغلق الدفتر ببطء، وأطفأ المصباح.
لكنّ شيئًا في الظلام بدا مختلفًا هذه المرة — كأن الليل نفسه ينتظر ما سيحدث بعد ذلك.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
ahmed spider تقييم 0 من 5.
المقالات

1

متابعهم

0

متابعهم

0

مقالات مشابة
-
إشعار الخصوصية
تم رصد استخدام VPN/Proxy

يبدو أنك تستخدم VPN أو Proxy. لإظهار الإعلانات ودعم تجربة التصفح الكاملة، من فضلك قم بإيقاف الـVPN/Proxy ثم أعد تحميل الصفحة.