طريق العمل الضيق
طريق العمل الضيق:
صوّب بصره أسفل الطريق، يتحاشى مطبّاته وبركه الكثيرة، يتحسّس بقدمه موطئًا آمنًا بعيدًا عن الأوساخ ومستنقعات الزقاق الضيقة. لم يرفع عينيه عن مساره، وكأنّه يخشى أن يسرق منه الجدران العتيقة نظرةً تذكّره بما اندثر. كانت تلك الجدران تمتد على جانبي الزقاق، يكسوها لون بني باهت كجلد أفعى عجوز، تتقشّر أطرافه بفعل السنين.
مرّ هنا ألف مرة، وربما أكثر. هو المعبر الوحيد إلى عمله، لكنه معبر يختزن حكاياته الصغيرة، كما يختزن غبار العقود الماضية. يخطو بخطًى محسوبة، بينما ينساب في ذهنه شريط الصور: يوم سقط المطر وغرق حذاؤه في الطين، يوم تعطّل بسبب موكب عرس شعبي أغلق الزقاق، يوم لمح طفلاً يسقط هاتفًا لامعًا ذا شاشة مضيئة على الأرض، هاتفًا يلمع ببراءة الحداثة وسط هذه الأزقة الغارقة في العتق.
في آخر الزقاق شيّد مقهى صغير قديم تفوح منه رائحة البنّ ويصدر منه هدير آلة القهوة، يجلس به الشيخ ذاته كل صباح، له عمامة بيضاء ولحية ناصعة، يتأمل المارّة بعيون تعرف أكثر مما تقول. وكعادته يستهل الموظف الصغير يومه في المقهى، تاركا خلفه عبءَ المسير في الزقاق، ويجلس الى جانب الشيخ ويبدأ الحديث معه… عن الحرب في غزة، عن أخبار العالم التي تتسلّل من شاشة المقهى الحديثة، وعن آلات الزمن الجديد التي تحيط بنا، حتى في الأزقة التي ظنناها محصّنة من التغيير.
رفع الشيخ فنجانه، وشرب رشفة صغيرة، ثم قال بصوت خافت:
ـ الدنيا تغيّرت يا ولدي… كانت الأخبار زمان تُحكى في السوق، والآن تراها مباشرة على هذه الشاشات.
ابتسم الموظف بمرارة:
ـ تغيّرت الآلات يا عمّي، لكن الحروب لم تتغيّر… نفس الدخان، نفس الوجوه المرهقة، فقط الصورة أوضح الآن.
تأمل الشيخ الصورة قليلًا، ثم التفت إليه:
ـ نداري زقاقنا كل يوم ونحسب خطواتنا كي لا نغرق في الوحل… لكن في غزة، الوحل من دم وركام، والخطوات تقود إما إلى موت أو نجاة.
أطرق الموظف رأسه، وتذكّر الطفل الذي سقط منه هاتفه قرب البركة قبل أيام، كيف التقطه بحذر ومسح شاشته كما لو كان يلمس شيئًا مقدسًا. كان الهاتف يومها يلمع وسط العتق، واليوم تلمع الشاشة الكبيرة في المقهى بنفس البريق، لكنها لا تحمل لعبة أو صورة طريفة، بل مشاهد الحرب.
ومن الخارج، كان الزقاق يواصل صمته، والجدران العتيقة تحرس أسرارها، بينما في الداخل، تحرس الشاشة ذاكرة اللحظة، وتربط بين زمن القهوة على الفحم وزمن الاتصال الفوري بالعالم.
نهض حسن من مقعده في المقهى بعد أن أنهى حواره مع الشيخ، تاركًا فنجان القهوة فارغًا إلا من رائحة البنّ التي التصقت بأنفاسه. فتح باب المقهى، فعاد وجه الزقاق العتيق يطلّ عليه من جديد، جدرانه المائلة، الحفر الموحلة، والظلال التي ترسمها الحبال الممدودة بين البيوت لتعليق الغسيل. كان الهواء باردًا قليلًا، لكنه مشبع برائحة الرطوبة القديمة.
تابع السير، بخطواته المحسوبة التي تعوّد عليها منذ سنوات، وكأن قدميه تحفظان شكل الطريق. كان كل منعطف وكل حجر مألوفًا له، حتى أنه يعرف أماكن البرك بعد المطر، ويحزر أيها أعمق من الأخرى. مرّ بجانب محل صغير لبيع قطع الغيار القديمة، وقد علّق صاحبه أمام الباب مذياعًا عتيقًا يصدح بأغنية من السبعينات، بينما على الطاولة إلى جواره هاتف ذكي حديث يتلقى رسائل متواصلة، يرنّ ويرجّ الطاولة الخشبية.
خرج من الزقاق إلى شارع أوسع، حيث تبدأ ملامح المدينة الحديثة في الظهور: حركة مرور، محلات بواجهات زجاجية، لوحات إعلانية رقمية، وشباب يسيرون مسرعين وعيونهم معلقة على شاشات هواتفهم. شعر وكأنه انتقل من مشهد في فيلم قديم إلى مشهد في بث مباشر على الإنترنت.
كان مكان عمله لا يبعد كثيرًا، مبنى متوسط الحجم ببوابة حديدية تطل على ساحة داخلية واسعة. دخل البوابة، فألقى التحية على الحارس، ثم عبر الساحة بخطوات واثقة. كان يعرف أن مهمته اليوم، مثل كل يوم، تتطلب تركيزًا دقيقًا: هو مسؤول عن السلع في مخازن الشركة، يراقب دخولها وخروجها، يتحقق من جودتها، ويتأكد أن كل صنف مسجّل في الدفاتر والنظام الإلكتروني.
فتح باب المخزن الكبير، فلفح بشرة وجهه الماىلة للسمرة هواء ممزوج برائحة الكرتون والخشب والزيوت الصناعية. رفوف عالية تصطف على الجانبين، عليها أكوام من البضائع: صناديق محكمة الإغلاق، أكياس بلاستيكية ضخمة، وأحيانًا طرود تحمل علامات شحن من بلدان بعيدة. مشى بين الممرات، يحمل في يده لوحة إلكترونية صغيرة، يسجّل عليها أرقام السلع التي وصلت صباحًا.
في زاوية المخزن، كان عاملان منهمكان في تفريغ شاحنة جديدة، يرفعان الصناديق الثقيلة بحذر، بينما انتصب بقامته المتوسطة وزيّه الرسمي يدوّن على منصة النظام: عدد الصناديق، رمز المنتج، وموعد انتهاء الصلاحية. تذكّر يومًا من العام الماضي حين أُرسلت شحنة كاملة بها خطأ في المواصفات، وكيف اضطر لقضاء يومين كاملين في إعادة فحصها وإعداد تقرير مفصّل.
وظيفته لم تكن مجرد عدّ السلع، بل كانت ضمان أن كل شيء في مكانه الصحيح، أن المخزن منظم كالسطر المكتوب بعناية، وأنه لا شيء يضيع أو يُهمل. كان يعرف أن أي خطأ في سجلاته قد يسبب مشكلة كبيرة للشركة، وربما خسارة مالية فادحة. لذلك، كان يتعامل مع كل سلعة كما لو كانت قطعة ثمينة، حتى لو كانت مجرد علبة مسامير.
ثم أدار وجهه الداىري وأنفه العريض إلى نافذة صغيرة في آخر المخزن، ورأى بعينيه العسليتين التي يعلوها حاجبين سودانين، جزءًا من الزقاق القديم الذي جاء منه صباحًا، وكأن الماضي يراقبه حتى في وسط عمله الحديث. هناك، في الخارج، ما زالت الجدران العتيقة قائمة، والبرك الراكدة تنتظر أول قطرة مطر جديدة، بينما في الداخل، يتدفق العمل عبر أجهزة المسح الضوئي، وبرامج الجرد الرقمية، وشاشات الحاسوب.
ومع كل حركة بين الرفوف، كان يشعر أن حياته تسير بين عالمين: عالم الحذر والبساطة الذي يمثله الزقاق العتيق، وعالم السرعة والدقة الذي يفرضه عمله. وحين ينتهي اليوم، سيعود أدراجه، مارًّا بنفس الطريق، بنفس الخطوات، وكأن الزمن دائرة مغلقة لا تكسرها إلا الأحداث الطارئة، كحرب غزة، أو طفل يسقط هاتفه الذكي في بركة ماء، أو كلمة عابرة من شيخ على قارعة المقهى تفتح في قلبه نافذة على معنى أكبر .