قصة الايام طه حسين "خيالات الطفولة "
١-يوم من ذاكرة الطفولة : « لا يذكر لهذا اليوم اسما ، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة ، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتا بعينه ، وإنما يقرب ذلك تقريبا . وأكبر ظنه أن هذا الوقت كان يقع من ذلك اليوم في فجره أو في عشائه ، يرجع ذلك ؛ لأنه يذكر أن وجهه تلقى في ذلك الوقت هواء فيه شيء من البرد الخفيف الذي لم تذهب به حرارة الشمس ، ويرجح ذلك ؛ لأنه على جهله حقيقة النور والظلمة ، يكاد يذكر أنه تلقى حين خرج من البيت نورا هادئا خفيفا لطيفا كأن الظلمة تغشى بعض حواشيه ، ثم يرجح ذلك ؛ لأنه يكاد يذكر أنه حين تلقى هذا الهواء وهذا الضياء لم يأنس من حوله حركة يقظة قوية ، وإنما أنس حركة مستيقظة من نوم أم مقبلة عليه »
٢- السياج في ذهن الصبي : « وإذا كان قد بقى له من هذا الوقت ذكرى واضحة بينة لا سبيل إلى الشك فيها ، فإنما هي ذكرى هذا السياج الذي كان يقوم أمامه من القصب ، والذي لم يكن بينه وبين باب الدار إلا خطوات قصار . هو يذكر هذا السياج كأنه رآه أمس . يذكر أن قصب هذا السياج كان أطول من قامته فكان من العسير عليه أن يتخطاه إلى ما وراءه . ويذكر أن قصب هذا السياج كان مقتربا كأنما كان متلاصقا ، فلم يكن يستطيع أن ينسل في ثناياه . ويذكر أن قصب هذا السياج كان يمتد عن شماله إلى حيث لا يعلم له نهاية ، وكان يمتد عن يمينه إلى آخر الدنيا من هذه الناحية ، وكان آخر الدنيا من هذه الناحية قريبا ، فقد كانت تنتهى إلى قناة عرفها حين تقدمت به السن ، وكان لها في حياته - أوقل في خياله - تأثير عظيم . يذكر هذا كله ، ويذكر أنه كان يحسد الأرانب التي كانت تخرج من الداركما يخرج منها ، وتتخطى السياج وثبا من فوقه ، أو انسيابا بين قصبه ، إلى حيث تقرض ما كان وراءه من نبت أخضر ، يذكر منه الكرنب خاصة »
٣-تعلق الصبى بصوت الشاعر : « ثم يذكر أنه كان يحب الخروج من الدار إذا غربت الشمس ، وتعشى الناس فيعتمد على قصب هذا السياج ، مفكرا مغرقا في التفكير ، حتى يرده إلى ما حوله صوت الشاعر قد جلس على مسافة من شماله ، والتف حوله الناس ، وأخذ ينشدهم في نغمة عذبة غريبة أخبار أبي زيد وخليفة ودياب ، وهم سكوت إلا حين يستخفهم الطرب أو تستفزهم الشهوة ، فيستعيدون ويتمارون ويختصمون ، ويسكت الشاعر حتى يفرغوا من لغطهم بعد وقت قصير أو طويل ، ثم يستأنف إنشاده العذب بنغمته التي لا تكاد تتغير »
٤-حسرة الصبي عند خروجه إلى السياج : « ثم يذكر أنه كان لا يخرج ليلة إلى موقفه من السياج إلا وفي نفسه حسرة لاذعة ؛ لأنه كان يقدر أن سيقطع عليه استماعه لنشيد الشاعر حين تدعوه أخته إلى الدخول فيأتي ، فتخرج فتسده من ثوبه فيمتنع عليها ، فتحمله بين ذراعيها كأنه الثمامة ، وتعدو به إلى حيث تنيمه على الأرض وتضع رأسه على فخذ أمه ، ثم تعمد هذه إلى عينيه المظلمتين فتفتحهما واحدة بعد الأخرى ، وتقطر فيهما سائلًا يؤذيه ولا يجدى عليه خيرا ، وهو يألم ولكنه لا يشكو ولا يبكي لأنه كان يكره أن يكون كأخته الصغيرة بقاء شكاء . ثم ينقل إلى زاوية في حجرة صغيرة ، فتنيمه أخته على حصير قد بسط عليها لحاف ، وتلقى عليه لحافا آخر ، وتذره وإن . سمعه مذا يكاد يخترق به الحائط لعله يستطيع ان يصله بهذه النغمات الحلوة التي ا يرددها الشاعر في الهواء الطلق تحت السماء »
٥- سذاجة الصبي : « ثم يأخذه النوم ، فما يحش إلا وقد استيقظ والناس نيام ، ومن حوله إخوته وأخواته يغفلون فيسرفون في الغطيط ، فيلقى اللحاف عن وجهه في خيفة وتردد ؛ لأنه كان يكره أن ينام مكشوف الوجه ، وكان واثقا أنه إن كشف وجهه أثناء الليل أو أخرج أحد أطرافه من اللحاف ، فلابد من أن يعبث به عفريت من العفاريت الكثيرة التي كانت تعمر أقطار البيت وتملأ أرجاءه و نواحيه ، والتي كانت تهبط تحت الأرض ما أضاءت الشمس واضطرب الناس . فإذا أوت الشمس إلى كهفها ، والناس إلى مضاجعهم ، وأطفئت الشرح ، وهدأت الأصوات ، صعدت هذه العفاريت من تحت الأرض وملأت الفضاء حركة واضطرابا وتهامشا وصياحا »
٦-مخاوف تؤرق الصبى : « وكان كثيرا ما يستيقظ فيسمع تجاوب الديكة وتصايح الدجاج ، ويجتهد في أن يميز بين هذه الأصوات المختلفة ، فأما بعضها فكانت أصوات ديكة حقا ، وأما بعضها الآخر فكانت أصوات عفاريت تتشكل بأشكال الديكة وتقلدها عبثا وكيدا ، ولم يكن يحفل بهذه الأصوات ولا يهابها ؛ لأنها كانت تصل إليه من بعيد ، إنّما كان يخاف الخوف كله أصواتا أخرى ، لم يكن يتبينها إلا بمشقة وجهي ، كانت تنبعث من زوايا الحجرة نحيفة ضئيلة ، يمثل بعضها أزير المرجل يغلى على النار ، ويمثل بعضها الآخر حركة متاع خفيف ينقل من مكان ، إلى مكان ويمثل بعضها خشبا ينقصم أو عودا ينحطم . وكان يخاف أشد الخوف أشخاصا يتمثلها قد وقفت على باب الحجرة فسدته سدا ، وأخذت تأتى بحركات مختلفة أشبه شيء بحركات المتصوفة في حلقات الذكر . وكان يعتقد أن ليس له حصن من كل هذه الأشباح المخوفة والأصوات المنكرة ، إلا أن يلتف في لحافه من الرأس إلى القدم ، دون أن يدع بينه وبين الهواء منفذا أو ثغرة . وكان واثقا أنه إن ترك ثغرة في لحافه فلابد من أن تمتد منها يد عفريت إلى جسمه فتناله بالغمز والعبث . لذلك كان يقضى ليله خائفا مضطربًا ؛ إلا حين يغلبه النوم ، وما كان يغلبه النوم إلا قليلا »
٧- تحول الصبي عفريتا : « كان يستيقظ مبكرا أو قل كان يستيقظ في الشخر ، ويقضى شطرا طويلا من الليل في هذه الأهوال والأوجال والخوف من العفاريت ، حتى إذا وصلت إلى سمعه أصوات النساء يعدن إلى بيوتهن وقد ملأن چرارهن من القناة وهن يتغنين ( الله يا ليل الله ... ) عرف أن قد بزغ الفجر ، وأن قد هبطت العفاريت إلى مستقرها من الأرض السفلى ، فاستحال هو عفريتا ، وأخذ يتحدث إلى نفسه بصوت عالي ، ويتغنى بما حفظ من نشيد الشاعر ، ويغمز من حوله من إخوته وأخواته ، حتى يوقظهم واحدا واحدا . فإذا تم له ذلك ، فهناك الصياح والغناء ، وهناك ، وهناك الضوضاء التي لم يكن يضع لها خذا إلا نهوض الشيخ من سريره ، ودعاؤه بالإبريق الضجيج والعجيج ) ، ليتوضأ . حينئذ تخفت الاصوات ، وتهدأ الحركة ، حتى يتوضأ الشيخ ويصلى ويقرأ ورده ، ويشرب قهوته ، ويمضى إلى عمله . فإذا أغلق الباب من دونه نهضت الجماعة كلها من الفراش ، وانسابت في البيت صالحة لاعبة حتى تختلط بما في البيت من طير وماشية » .