لحنٌ لدّاويٌ أصيل

لحنٌ لدّاويٌ أصيل

0 reviews

لم تطأ قدميَّ أرضَ اللدّ يوماً، لكنَّ روحي تزورها في اليوم آلافَ المرات، تطوفُ في أرجائها تعانقُ زواياها القديمة ... تتنفسُ عبقَ التاريخ لأقدم مدن العالم، تُصلي الفجرَ في جامع دهمش, تخرجُ لتعاين عمالاً من اللدّ يمرون عبر السكك الحديديةِ إلى المطار, تجوبُ الحقولَ وتسرقُ بعض أكواز الصبر تلتهمها بشراهةٍ وهل هنالك أشهى من صبر اللدّ، تقبلُ أجراس كنيسة مار جريسَ وتهزها بعنف وتقرعها لتدق وتدق علها توقظُ ضميرَ هذا العالم، هنا بدأت البشرية هنا كُتبَ تاريخُ الإنسانيةِ والأبجدية الأولى، هنا قلبُ فلسطين النابض هنا قلبُ مثلث النار هنا ملحمةُ الدولةِ الثامنة .

لن يستطيعَ أحدٌ أن يمحو تاريخَ هذه الأرض, لن يستطيعَ أحدٌ أن يحذف تاريخ أهل اللدّ, وسيبقى تاريخُ هذه الأرض كابوساً, يرعبُ الحاقدين ويهز كيانَ المارين عبر الكلمات العابرة, جذورنا عميقةٌ في هذه الأرض تمتدُ إلى بدايات الخلق، فسلامٌ  لأرضٍ خلقت للسلام وما رأت يوماً سلام، كم انت جميلةٌ أيتها اللدّ ولن تكفي جميعُ حروفِ الأبجدية  لأصفك حق وصفك .

لن أطيلَ الحديث عن تاريخِ وجغرافية اللدّ, فبطونُ الكتب مليئةٌ بأدق التفاصيل التاريخيةِ والجغرافيةِ عن هذه المدينة الخالدة في تاريخٍ يمتد آلاف السنين، تاريخ لا نعرف هل يحتاج إلى إعادة كتابةٍ أم إلى إعادة قراءة، فتاريخ مدينتنا يحتاج إلى قراءةٍ مرات ومرات ومرات ، فاللدُّ ليست أيَّ مدينة وتاريخها ليس كأيَّ تاريخ .

 سأتحدثُ عن قصصٍ حقيقيةٍ وأيامٍ لدّوايةٍ وليالٍ عاشتها وروتها جدّتي أو ستي، التي ولدت في اللدّ قرابةَ عام ( 1890) وعاشت ما يربو عن مائة عام, لتكون بذلك عاشت تاريخ اللدّ الحديث بأدق تفاصيله بحلوه ومره, هذه الفترة من تاريخ اللدّ نتمنى جميعاً لو أننا عشناها، يا بختك يا ستي عشتي في اللدّ اكثرَ من نصف قرن, عشتي بها أكثر مما أبلغ أنا من العمر الآن وقد بلغت الخمسين، آهٍ أيها العمرُ المبددُ بعيداً عن اللدّ، لا أعرف أيّ ظلمٍ هذا ... ما الذي يضيرُ هذا العالم لو أني عشتُ هذا العمر في مدينتي, لو أني وُلدت في اللدّ وعشتُ طفولتي فيها ... في أزقتها في شوارعها في بياراتها وحقولها ... وكبرت على أرضٍ تعرفني أكثر مما أعرفها تعشقني أكثر مما أعشقها، يبدو أنهُ أكثرَ عدلاً لهذا العالم أن أولد في مخيم اللجوء, واكبرَ لأعيش حلم العودة، ليمرَ العمرُ وتمضي لحظاته وفي كل جزءٍ منه أعيش حلماً ... هو العودةُ ولا شيء غير العودة.

تقولُ ستي أنها عاشت لحظات اجتياح وباء الكوليرا للدّ طفلةً صغيرة, وتذكرُ في بعض ما يجتاحُ خيال ذاكرتها من وميض، كيف أن هذا الوباء أخذَ معه من أخذ من ضحايا, وتذكرُ انها كانت تبكي وتبكي على من فَقدوا من أقارب وأحباب وأصحاب، لكنها عاشت وبقيت وكبرت لتروي لنا تاريخاً ويا له من تاريخ ...  كنت أرى فيها اللدّ أرى اللدّ ماثلةً أمامي في هيئة إنسان، يا الله ما أجملَ لكنتها اللدّواية الأصيلة !!! فلهجة أهل اللدّ لوحدها حكاية، ما هذه الكلمات يا ستي .. يا وجعَ القلب على من فقدنا، كانوا بوصلتنا التي لا تشيرُ إلا إلى اللدّ, وهل تخطئُ بوصلةٌ تشيرُ إلى اللد! أعيش اللدّ في عاداتهم وتقاليدهم في كلِ كلمةٍ ينطقون بها, في أحزانهم وأفراحهم وأعراسهم حتى أكلات وطبخات أهل اللدّ غير .

حدثتنا عن الأتراك والجيش العثماني وتحمدُ الله أنَّ أولادها كانوا صغاراً أيامها, حتى لا يأخذهم التركي إلى الحرب وتواصل (( مش عارفين من وين نلقاها من الأتراك ولا الجراد ولا الجوع )) وتكملُ حديثها عن أيام اللدّ الجميلة بكل ما مرَ بها من مُر, حتى في وصف مُر اللدّ حلاوة .

 عن النسب بين العائلات اللدّاوية يا ما حدثتنا (( وعن شوفة الحال على أهل الرملة)) ... ومع هيك ناسبوهم وصاهروهم، وكل هذا لم يشفع لهم من التندر عليهم وإطلاق النكت من وقت لآخر .. وقصة بير الزيبق والمئذنة شاهد على ذلك، لكنَّ هذا لم يفسد الود والمحبة بين رئتيّ فلسطين وشرايين قلبها اللدّ والرمله .

وقبل أن يعرفَ الناسُ ويسمعوا عن التعايش بين الأديان، بين الصليب والهلال .... ويسنوا له الأنظمةَ والقوانين، عاشهُ أهل اللدّ بفطرتهم عاشوهُ بقلبٍ سليم دون أن تجبرهم أنظمة الدول وقوانينها على ذلك، لتجدَ أم محمد في زيارةٍ لأم جورج وأبو الياس في بيت أبو العبد، يشاركون بعضهم الأفراحَ والأحزان لا يفرقهم شيء . 

وعن عيد لُدّ وموسم الفلاحين سمعنا قصص وحكايا، وما أحلى عيد الخضر عندما يحضرُ الناسُ من كل ربوع فلسطين للمشاركة بالعيد والفرح ... ودون كل مدن العالم, اللدّ لها عيدٌ خاص بها ويحمل اسمها بل وتحتفلُ به كل فلسطين وليسَ اللدّ فقط وما زالوا يحتفلون به إلى يومنا هذا .

(( وفي الهزة الكبيرة راح ناس كتير )) وانهارت البيوت على رؤوس الناس في اللدّ، والضربات التي لا تقضي عليك تقويك, وبؤس الزمان علم أهل اللدّ شدة البأس وحدة الطبع، نهضَ أهلُ اللدّ من تحت الركام وبنوا اللدّ من جديد، وكأن قدر هذه المدينة العظيمة ان تواجه ما تواجه حتى تكون بعد ذلك عنواناً لشدة البأس والصبر والمقاومة (( اللدّ بائية مهما تشدّ )) ومعنى الأسم لوحده يتحدث عن نفسه، كيفَ لا وفيها قوماً لُدّا، فإذا كان الزمانُ ضدي فأنا ابن اللدّ و خُلقت عاشقاً للتحدي .

وتردفُ جدّتي أن ثوار اللدّ لم يسمحوا لأي عربةٍ أو قطار انجليزي بالمرور، وياما دمروا قطارات للإنجليز، من هنا لن تمروا...... 

(( ويسعد البطن اللي جابك يا ابن صقر )) .

 

والحديث عن أيام النكبة غير  .... 

كأنها عندما تسردُ احداثَ النكبةِ تُحدثنا عن نهاية تاريخٍ وبداية تاريخٍ آخر  ....

عن نهاية حقبةٍ او فترةٍ زمنية أو نهايةَ عهدٍ أو زمن خلافةٍ وبدأ زمن آخر .....

لك أن تتخيل انساناً قد عاش اكثرَ من نصفِ قرن في مكان ...  له فيه ما له من ذكريات وحياة وأي حياة,  في فلسطين وفي اللدّ تحديداً,  ثم تُجبره أن يكملَ ما تبقى من حياته قسراً في مكان آخر، أي ظلمٍ بعد هذا الظلم ... لو قتلوه لكانوا أرحم به من ذلك، أي استكانةٍ مريبةٍ تجاهنا وأي جريمةٍ ارتكبها هذا العالم بحقنا .

(( وين كنا ووين صرنا )) ....

كل أراضي الداخل الفلسطيني سقطت وبقيت اللدّ صامدة (( هاي اللدّ ما بتسئط هاي الدولة التامنة ))... جملةٌ قالها ثوار اللدّ بلهجتهم اللدّاوية العتيدة, وتحدوا بها الأمم المتحدة ورفضوا قراراتها، كيف لا وحب اللدّ هوية وبندقية ثائر, واللدّاوي عنيدٌ وشديدُ البأسِ ولا يتنازلُ عن حقه، فكيف إذا كان هذا الحق هو ذاتُ اللدّ، فاللدّ ملآى بالأسودِ ويا مدرك الثاراتِ أدركْ ثأر فلسطين .

كيف يسقطُ القلب !! كيف يتوقف نبض فلسطين ... كل فلسطين الآن تتجهُ نحو اللد، لا تسقطي .. انتِ ما تبقى .. انتِ بارقةُ الأمل والشعلةُ التي تمسك بها من تبقى من مقاومي فلسطين حتى الرمق الأخير  .... وأنى للكفِ أن تقاومَ المخرز وقد قاومته حتى أُدميت واستمرت تقاوم ...

كنا نتجهزُ لتناول طعام الإفطار في رمضان، كان آخر رمضان لنا في اللدّ آخر رمضان لنا في فلسطين, ولم يأتِ بعده عيدٌ ابداً ... وقبل أن يضرب مدفع الإفطار، ضربتنا مدافع العصابات وطائراتهم .... وهُدّمت البيوت على رؤوسنا،خرجنا من بيوتنا صائمين لم نفطر، سرنا في الطرقات تحت قصف المدافع والطائرات لا ندري إلى أين المسير ، سرنا أياماً وليال، أي ذلٍ هذا وأي هوان . 

 

كلمة جديدة ومصطلح جديد خرج للتو لاجئ ......

ما زلنا عالقين بين الأمسِ والحاضر، بين الحب ِوالكُره، بين الحزنِ والفرح، بين حياةٍ في اللدِّ وحاضرٍ فُرض علينا أن نعيشه، ما زلنا  معلقين في قلوبِ الأمواتِ والأحياء، هل نحن أحياءٌ أم أموات ... هل نخضع للواقع ونعيشه ؟! هل ننسى اللدّ ونرضى .... هل هو حلمٌ ام كابوس, يا الله متى نستيقظ !!! طال الكابوس وتعمق الظلام .... لا لا لا هي أيام فقط ونرجعُ للدّ، لا يمكن ان نستمر في حياة اللجوءِ كثيراً، هي مرحلة مؤقتة لا شك في ذلك، لا يمكن للبشرية أن تقبلَ ذلك .

 لاجئينَ على حدودِ وطننا !!! وفي قلوبنا ما في قلوبنا ...  وفي ذاكراتنا ما لا تتحملهُ قلوبنا, سنعيشُ أمل العودةِ ولن ينتابنا أدنى شك في ذلك،فالبوصلةُ تشيرُ إلى اللدّ والبندقيةُ تشيرُ إلى اللدّ وعيوننا ترحلُ إليها كل يوم,  قلوبنا فيها أرواحنا فيها رغم اللجوء وظلم العيش .

 وعشنا على ذلك في مخيم اللجوء (( مخيم الحسين )) سنوات وسنوات مرت،لم تبعدنا شبراً واحداً عن اللدّ، اختلاف النهارِ والليل لم يُنسنا لم يبعدنا .... 

الزمان بالنسبة لنا توقف في اللدّ فالوقت خارج اللدّ مُزور . 

(( كرت المؤن، بطاقة اللاجئين، مدارس وكالة الغوث )) هل نفرح بها ؟؟ ...

هل نشكر الأمم المتحدة ؟؟!!  يالوقاحتهم .

تقول ستي أن مخيم اللدّاودة ( مخيم الحسين ) كان بالنسبة لهم محطة انتظارٍ لعودةٍ لن تطول، وأن العودةَ مسألة وقت لا أكثر ، وسنتحمل حياة المخيم الصعبة فالعودة للدِّ تستحق الصبرَ وتحمل أكثر من ذلك .

 ومرت الأيامُ والشهورُ والسنون، ومع كل حدث عربي كنا نتأهب للعودة

 (( فرحنا بالثورة المصرية وجهزنا حالنا لنرجع )) عشنا النكسة وأيامها السودة، عشنا أحداث وحروب ومعارك، كان أملنا بالعودة مثل انتظار طلوع شمس الغد، لا يفرقنا عنها سوى مسألة الوقت لا أكثر، فالقلبُ خائنٌ إذا شك لحظةً في إمكانية العودة .

(( وراحت أجيال وأجت أجيال،مات ناس ونولد ناس )) وفي المخيم ... كانت احاديثنا عن البلاد وأيام البلاد عن عائلات اللدّ، عن بيارات ومزارع ومعاصر اللدّ, عن قصص الثوار ونضالهم عن مدينة لم تسقط بسهولة، عن أسطورة الدولة الثامنة.

وكأن الحياة خارج اللدّ رتمٌ واحدٌ متكرر، لاجديد في الحياة، نعيش اللدّ كل لحظة

 و ما قيل عن أهل اللدّ وتمسكهم بأرضهم وعشقهم لها صحيح لا يأتيه الباطل ولا  مجال فيه لأي شكٍ، فاللدّاوي جمع بين زراعة الأرض وفلاحتها وبين الصناعة والتجارة والمهن الحرفية وهذا يندر أن يجتمع داخل مدينة فلسطينية ولكنه كان في اللدّ، وهذا ما كان عليه سكانها.

 واللاجئ اللدّاوي صاحب فكر ثوري لا يُهزم، لا يكتفي فقط بالتفكير في اللدّ وأيامها والعيش على أطلال ذكرياتها، بل يعمل ويفكر  ويبدع  لا ينتابهُ أدنى شك في التحرير والعودة للدّ ... فأرضٌ أخرجت للدنيا جورج حبش وحسن سلامة وحمزة صبح, قادرة في كل يوم أن تخرج للدنيا ابطالاً, من رحم المعاناة من رحم الغربة والشتات فاللدّ أمٌ لا تنجب إلا الأبطال .

مع نهاية عام 1990 توفيت جدتي وقد عاشت في اللدّ أكثر مما عاشت في سواها، وهي في الأصلِ لم تعش في سواها, وهذه اللدّ فكيف يطيب العيش سواها .

فتاريخنا باقٍ ما بقيَ الزعترُ والزيتون وهل في اللدّ شيء لا يُعشق، فلتعلمي يا لدّ انك أنت الحياة، واعيش على قيدك، فلك السلام والسكينة والأمان .

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by

articles

35

followers

2

followings

8

similar articles