نادينه طارق ، النجم الثاقب...

نادينه طارق ، النجم الثاقب...

0 reviews

لطالما كان ثاقبا كالنجم المقدس ،إنه طارق أو كما يحلو للجميع مداعبته ب “طروق” …

غادر "طروق" المسجد بعد طول مكوث إمتد من ما قبل رفع آذان صلاة المغرب إلى ما بعد إنقضاء صلاة العشاء ، سويعات قليلة إنغمس خلالها رحمة الله عليه إنغماس الناسك في التعبد و الإبتهال و التجويد و الدعاء و المناجاة ملامسا بأطراف أصابعه سقف النشوة الروحانية ... إرتدى "طروق" نعله الجلدي ثم تخطى عتبة باب المصلى بخطوات ثقيلة و مشية عسكرية على النمط الإستعراضي للجنود السوفيات ، لطالما تميز بمشية مميزة و قامة منتصبة و كتفين بارزتين تمثلتا بوابتان متوازيتان و متناظرتان واحدة شرقية و الأخرى غربية . مشى رحمة الله عليه بأناقة و تناسق في درب مستقيم رأسه مرفوعة إلى السحاب و صدره الواسع مندفع إلى الأمام فراقص الهواء و تمايل معه بكتفيه الهرقليتين ليصور لنا نفسه وكأنه نازل من السماء نحو الأرض سيرا على القدمين . رجل أسمر البشرة ، عسلي العينين ، ضخم الجثة ، قد إشتعلت لحيته و ما تبقى من شعر رأسه شيبا ، مرتديا قميصا ناصع البياض قد فتحت أزراره العلوية و بنطالا قماشيا فضفاضا فتمثل هذا المشهد الأسطوري في أبعاده في شكل لوحة فنية زيتية لا يقوى على بعث ملامحها و تفاصيلها الدقيقة و الغامضة جهابذة الرسم مجتمعين ... هرولنا بجنون نحو باب المنزل عند سماعنا لرنين مفاتيحه المعدنية فتدافعنا و حشرنا من أجل الضفر بشرف تقبيله و معانقته و شم رائحته الطيبة كما جرت العادة العرفية .. فتحنا له الباب فوجدناه واقفا أمامنا بتأمل و كأنه علم بأمرنا ، تعلو محياه إبتسامته الملائكية المعتادة وقد حمل في يده اليمنى كيسا ورقيا إحتوى على قطع من بسكويت الزبدة و اللوز الذي لطالما عشق "طروق" تغميسه في فنجان قهوته و هو يصغي و يردد بلاوعي تام مقاطع من روائع عبد الوهاب فيزور معبد "الكرنك" العظيم و يغتسل من مياه "النهر الخالد" المقدسة ثم يستلقي داخل "الجندول" الخشبي ليتم نزهته الشاعرية تحت ضوء قمر "فيينا" الساحرة ... و في لحظة إستفاقة ملعونة و بينما كنا نتأمله بتمعن و تمحيص ، نهض "طروق" من مجلسه و توجه نحونا فقبلنا و ملأ جيوبنا بعيدية دسمة ثم إستأذن قائلا :"الله غالب ، عندي شغل ، هيا بسرعة إلى النوم ، فقد تأخر الوقت "... آلا لعنة الله على الشغل الذي يكافئ صاحبه بمنية في صندوق هدية فينهش من عزمه و يشرب من مياهه إلى أن تنقطع عن الخرير ثم يستمر في تعذيبه بآدوات رأسمالية متوحشة. ... غادر "طروق" البيت و نحن نرقبه بعيون حزينة فشغل السيارة مرددا "بإسم الله الرحمان الرحيم ، بإسم الله مجراها ، بإسم الله مرساها" ثم إنطلق مبتعدا إلى أن غاب بين أجنحة الظلام الدامس ، غادر و لكنه إصطحبني معه في مخيلته فرافقته دون تردد بين أروقة و أزقة وجداني و مهجتي و خاطري و روحي ..
كم عشقنا أنا و إياه صوت "نجاة الصغيرة" لحظة نزول ستار الليل و حلول الصمت المريب و الكاتم للأنفاس . فالساعة تشير الى العاشرة مساء و نحن لم نقطع سوى ما يقارب الخمسون كيلومترا و لا يزال الدرب ممتدا الى ثلاثة أضعاف ما تقدمناه . كان رحمه الله يقود بسلاسة و روية و هدوء على طريق مظلمة لا يزاحمنا فيها أحد . كانت نظاراته الشمسية السوداء نائمة في الجيب الخارجي لقميصه و كانت ربطة عنقه الرمادية قد أنهت دوام عملها لتستلقي مرتخية بين كتفيه الضخمتين متدلية على قميصه الناصع البياض الذي فتحت أزراره بإنتظام و ترتيب لتكشف عن صدر عريض هو مضيق جبل "الطارق" بالترافق و التلازم مع تلك السيجارة التي صممت على ملازمته في لحظات إسترخائه متخذة من نابه الأيسر منزلا . أطلق رحمه الله العملية معلنا الساعة الصفر فباحت له "نجاة الصغيرة" بما قبع في وجدانها من أحاسيس و مشاعر و عواطف جياشة لكنه بقي صامتا و لم يتفوه بأي حرف يرد به على إعترافات "نجاة الصغيرة" حتى أضربت عن الغناء و ضربت بكل تاريخها و نجاحاتها و إنجازاتها عرض الحائط فوالدي لم يرم مراسلة فؤادها المحترق بنار جميل أسمر و إكتفى بتدخين سيجارة و إحتساء جرعات معدودة من القهوة السادة ... ببساطة كانت هذه ليلة العيد ...

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by

articles

1

followers

0

followings

1

similar articles