قامت بالمدينة في صدر الإسلام عدة صناعات، اعتمدت على المهارة اليدوية التي اكتسبها الصناع بالخبرة والمران، وهي صناعات بسيطة ولكنها كافية لسد حاجات السكان اليومية. كما اعتمدت على الإنتاج الزراعي اعتماداً كبيرا، وعلى الخامات الأخرى ا لمحلية.
وكان للظروف التي صاحبت إنشاء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة أثرها في انتشار صناعة السيوف والنبال وغيرها من أدوات الحروب والقتال . ومع هذا لم يهمل أهل المدينة صناعة الحلي، وبالذات اليهود الذين برزوا فيها، ومن أشهر قبائلهم التي عرفت بصناعة الحلى، بنو قينقاع ، والذين كان لهم سوقا خاصة بهم. وإلى جانب هذه الصناعات كانت تقوم حرفة النجارة، لتوفر المادة الخام اللازمة لها والمتمثلة في أخشاب الأشجار التي كانت تجلب من خارج المدينة. كما وجدت حرفة الحدادة وهي من الحرف التي ترتبط بالزراعة . وكانت العطارة من الحرف القديمة ، وعملت بها النساء اكثر من الرجال.
وكان رجال بعض الحرف يتجمعون في أماكن معينة . تعرف باسمهم ، كان يتجمع الحدادون في مكان معين، والصاغة في حي خاص بهم، والنجارون في حي، لكي يتم التعاون بنيهم.
وكان للكحالين مكان خاص بهم، أقطع الرسول صلى الله عليه وسلم الشفاء بنت عبدالله بن عبد شمس داراً عند الكحالين. وقيل عند الحكاكين.
ومن الصناعات التي كانت تعتمد على الإنتاج الزراعي، صناعة الخمور، وكانوا يصنعونها من التمر والبسر ، ويسمونها الفضيخ ، وكان هذا قبل أن ينزل تحريمها في القرآن الكريم.
واشتهر اليهود بصناعة الأسلحة والدروع، وبالذات بنو قينقاع ، وقد وجد الرسول صلى الله عليه وسلم يحصنهم سلاحا كثيرا من دروع وسيوف وأقواس وغيرها . ويعتبر اليهود أنهم قد ورثوا هذه الصناعة عن النبي داود عليه السلام. وتعتبر الدروع الحطمية من أشهر الدروع وأجودها، قيل أنها منسوبة إلى بطن عبد القيس يقال له حكمة بن محارب، كانوا يعملون الدروع وكان خباب بن الأرت يعمل السيوف في الجاهلية وممن اشتهر ببرى النبل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ووجد بالمدينة من تخصص في صقل السيوف، فقد كان لدى أبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام صيقل يعمل السيوف للمسلمين.
ومن الحرف التي اشتهر به اليهود الصياغة، واشتهروا بها منذ زمن بعيد ، وكان بالمدينة منهم ثلاثمائة صائغ ومن أشهر قبائلهم التي احترفت هذه الصناعة ، بنو قينقاع ، الذين كان لهم سوق خاص بهم، يسمى سوق بني قينقاع ، يأتي إليه العرب، واليهود. ليبتاعوا منه الحلى والذهب، وكان أكثر من يأتي إليهم النساء، لاهتمامهن بالزينة والحلى. وتذكر لنا المصادر التاريخية الحادثة التي تعرضت لها زوجة أحد الأنصار عندما ذهبت إلى صائغ يهودي لتشتري الحلى.
ومن الحلي التي كان يصنعها اليهود الأساور والدمالج والخلاخيل والأقرطة والخواتم والفتخ- وهو خاتم كبير يلبس في الأيدي وربما وضع في أصابع الأرجل – والعقود من الذهب أو من الجوهر والزمرد . وعلى العموم من هذه الحلى ما يعلق على الصدر، ومنه ما يوضع حول الساق، والخلخال من أدوات الزينة التي تستعملها النساء، ويوضع على الساق، ويصاغ من الذهب أو الفضة ونهى الإسلام عن تبختر النساء بالخلاخيل لما لها من صوت يثير الانتباه.
وغنم المسلمون من بني قينقاع عندما حاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم آلة كثيرة للصياغة. وتعامل المسلمون مع الصاغة اليهود، فكانوا يشترون منهم حلى الذهب.
كان للصاغة بالمدينة المنورة زقاق خاص بهم، يسمى زقاق الصواغين واحترف هذه الحرفة بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم . فقد ورد عن أبي رافع الصائغ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يمازحه بقوله (أكذب الناس الصواغ ، يقول اليوم وغدا) . وهذا دليل على أن صواغ ذلك الوقت كانوا لا يحافظون على المواعيد ، ويخلفونها . وكان الصائغ يزين السيوف بالذهب والفضة ، بل يصنع الأنوف من الذهب . فقد عرفجة ابن أسعد أنفه في حرب في الجاهلية، وصنع له أنفا من فضة ، ولكنه انتن فغيره بأنف من ذهب.
واقترنت التجارة بالمحاصيل الزراعية، لأنهم كانوا يستخدمون جذوع الأشجار وفروعها في النجارة ، وكان شجر الطرفاء والأثل يكثران في غابة المدينة . لهذا استفاد منه النجارون في صناعتهم، ولم يعمل أهل المدينة بالتجارة ، بل استخدموا الرقيق واليهود والروم في هذه الصناعة. ولقد تعددت الروايات التاريخية، واختلفت في عدد النجارين بالمدينة . وأي كان عددهم، فقد صنعوا الأبواب والنوافذ والأثاث بأنواعه للبيوت، وكان اغنياء اليهود يملكون الكثير من الأثاث في بيوتهم. وكان استعمال الكراسي أمرا شائعا يصنعونها من الخشب، وأرجلها من الحديد وصنع النجار أواني الطعام، ولا سيما الكبار التي تستخدم لإطعام عدد كبير من الناس في المناسبات المختلفة كالجفنة والقصعة ثم الصحفة. ويستعين النجار بأدوات من صنع الحداد مثل الفأس والمنشار وغيرها.
وقد احترف بعض أهل المدينة صناعة الخوص، وإنتاج القفاف والمكاتل، والحصير والسلال، والسرر من الخوص ومن سعف النخيل، وهذا بسبب وفرة الخوص بالمدينة المنورة لكثرة أشجار النخيل المزروعة بها. وكان سلمان الفارصي رضي الله عنه خواصا يأكل من عمل يديه بالخوص، وتعلم هذه الصناعة بالمدينة من الأنصار عند بعض مواليه. وكان لأصحاب الأقفاص والغرابيل والقفاف مكان خاص بهم في المدينة مثل أصحاب الحرف الأخرى.
وقامت بالمدينة حرفة الحدادة، وهي من الحرف التي ترتبط بالزراعة ارتباطاً كبيرا، وذلك لاحتياج المزارع لآلات للحراثة من فؤوس ومحاريث، ومناجل للحصاد وغيرها من الأدوات. ويعرف الحداد بالقين ومن أهم الأدوات وربما يكون من جلد غليظ له حافات ويستخدم الكير لإيقاد النار، لترتفع درجة حرارتها فتؤثر في الحديد وتجعله لينا يسهل طرقه. وكان بالمدينة حي خاص بهم يسمى باسمهم ، ولقد استغل اليهود أنفة أهل المدينة من الاشتغال بالحدادة فاحتكروها، وربحوا فيها ربحا كثيرا، وأنتجوا آلالات الزراعية، والأسلحة من سيوف وخناجر ودروع. ولما فتح الرسول صلى الله علي وسلم خيبر وجدوا بها لاثين قينا من اليهود، أمر بتركهم بين المسلمين حتى ينتفعوا منهم، ويتعلموا الحدادة.
وإلى جانب هذه الصناعات والحرف كان هناك حرفة الدباغة وعمل بها الرجال والنساء وهي صناعة تقوم على إصلاح الجلد وإبعاد الصوف والشعر عنه للاستافدة منه في أغراض نافعة واستخدام الدباغون مواد مساعدة تعين على إزالة الصوف والشعر بسهولة وتحفظ الجلد من التلف وتدبغه . ومن هذه المواد القرظ الذي يطحن بحجر الطواحين ثم يستعمل للدباغة. وقد أنف كثير من الناس من هذه الصناعة لما يصدر منها من روائح كريهة. ويكسب الدباغون مكاسب كثيرة لأنهم يبيعون الجلد المدبوغ للتجار بأسعار عالية.
ويستخدم هذا الجلد في عدة استخدامات مثل حفظ الماء في القرب، ويصنع منه أوعية لحفظ الخمور، والسمن والسويق، والطيب، والأحذية والسبور.
وتصنع النعال السبتية التي لا شعر لها من جلود البقر المدبوغة بالقرظ ، وتصنع أوعية الماء كالجراب والركوة والسقاء والشن وغيرها . وتصنع أوعية توضع فيها الثياب والمتاع وهي العيبة.
ومن الحرف التي انتشرت بالمدينة المنورة وخاصة بين النساء الغزل، وتسمى الآلة التي تستخدمها المغزل، وكانوا يغزلون وينسجون، ثم يحيكون بعض الملابس.
ومن الحرف التي احترفها أهل المدينة الخياطة. فكان بها عدد من الخياطين يتولون خياطة الملابس وتفصيلها للناس ولا بد أن نعرف أن هناك فرقة بن النسيج والحياكة والخياطة، إذ أن معى حاك الثوب : نسجه، بينما خاط الثوب يخيطه، أي فصله وخاطه. ومن هذا الاختلاف نفهم أنه لم يكن بالمدينة حائك للثياب، بل كان يقدم عليهم بالثياب من الشام واليمن وغيرها منسوجة، فيشترونها.