انتحار علني قصة قصيرة اجتماعية بقلم أسماء صلاح أبو خلف
انتحار علـني
يقولون أن الانتحار خطيئة لا تُغتفر، لكنهم يدفعونها دفعًا إليها! لم يكن انتحارها بالدم، بل بالروح، روح ألقت بها في الهاوية فاحترقت، انتحار كان اختيار تعلنه أمام الجميع، تقيد به روحها وينتهك به جسدها!.
'''___________________________________'''
"تنهيدة راحة"
وقفت تراقبه بابتسامة دامعة، كيف تلتحم البسمة مع الدمع؟ مزيج غريب معقد لكنه صادق، اتسعت ابتسامتها أكثر وزادت قطرات دمعها تغطي وجنتيها وهي تفكر أن هذه المرة تختلف مشاعرها! ليس ككل مرة تقاطع الدموع ابتسامتها وشعور المرارة يخالطها، والألم يغزو قلبها، الآن عوضًا عن المرارة ازدهر قلبها، واستحال الألم فخرًا وسعادةً لا مثيل لها، وكيف لا وهي ترى إنجازها الأكبر، غنيمتها التي اكتسبتها عنوة من فم الحياة! نصرها الذي طال انتظاره، نظرت له بحب، تدقق في تفاصيله؛ عينيه اللامعة ببريق آثر، ضحكته الخشنة وحديثه اللبق مع أصدقائه، لحيته المهذبة، رداءه الأسود الذي لاق به كثيرًا، عاد نظرها لعينيه تقرأ ما بهما كعادتها، فوجدت نظرة ضائعة، دار بعينيه في المكان حوله فابتسمت بحنان مدركة أنه يبحث عنها، حين لمحها اتسعت ابتسامته فأثلجت قلبها العليل، أومأت برأسها برفق كأنها تخبره أنها معه، فالتمعت عينيه بالدموع؛ دموع أخبرتها بكل ما يعتمر داخله، تأملته بقلب تتراقص دقاته فرحًا بينما أشاح هو نظره ملتفت لحديث صديقه، تنهيدة راحة خرجت منها بينما تزيح دموعها بكفيها قائلة في نفسها: لقد كان يستحق، ما تراه الآن يستحق أن تقتل نفسها لتحيا معه وبه من جديد! شردت وهي تتذكر كل ما مر بها حتى وصلت لتلك اللحظة التي لطالما حلمت بها.
"انتحار علني"
هذه الجملة التي ظلت ترددها طيلة تلك الليلة السوداء؛ التي لولاها لما أشرق نهارها اليوم!
تزف لعريسها سعيد الحظ، مبتسم الوجه بسماجة، نظر لها نظرات جائعة، شهوانية خالية من الحب، ابتسمت بسخرية أي حب؟ هل يليق بها الحب، لكن هي لا تريد الحب، فقط لو بعض الحنان منه سيكفيها! مسك كفها بخشونة واقترب منها قائلا: مبارك يا عروس
زادت نبضات قلبها هلعًا واختنقت أنفاسها وهي تشعر بأنفاسه الكريهة مختلطة برائحة الكحول! فاغتصبت ابتسامة من بين دموعها التي ظن أنها بسبب خوفها كعروس! وانتشي مزاجه المخمور لخوفها ذاك وارتجاف كفيها بين يديه.
كادت تصرخ بصوت عالي:"كفى!" احلفكم بالله كفى قالتها بقلبها ولم تنطق بها، استمعت لأحاديثهم وحاولت جاهدة أن تقاوم ارتجاف يديها التي تريد وبشدة وضعها على أذنيها لعلها تصم عن تلك الأسهم المسمومة التي يرمقونها بها.
من هم؟ الناس! فقط ودائما "حديث الناس" سمعت جارتهم العجوز تخبر زوجة ابنها قائلة بحسرة زائفة: لا أعلم، كيف تفعل فتاة شابة ذلك بنفسها! تتزوج برجل بعمر أبيها؟ أيائسة هي لتلك الدرجة لترمي نفسها أمام هذا الرجل؟
فتجيب كنتها قائلة بفضول: لو كان غني لقلت أنها تزوجته لماله؟ تراها تخفي شيئًا بهذا الزواج من رجل عجوز لن يدرك فعلتها؟
بكى قلبها بقهر لحديثهما تمنت لو تصرخ بهما قائلة: بل تزوجت لأني بلغت الثلاثين من عمري، فاتني القطار كما تقول أمي مشفقة، وكما يقول أبي متحسرا ! وكما يرى أخي أصبحت عبء كبير عليهم! تزوجته هربًا من جحيم أعيشه بينكم، تزوجته كي لا أكون عانس تتآكلها الألسنة وتصيب قلبها بجروح غائرة لا يمكن الشفاء منها! تزوجت لأستريح من نار ألسنتكم وها هي الحقيقة تصفعني بقوة فأسقط بوهن معلنة استسلامي، لم يكفيكم! ما زلتم تتحدثون، بل تطعنوني في شرفي!
"يكفى" صرخت بها بقلب مكلوم لم تستطع الصمود وهي تستمع لتلك الهمازات من حولها، "كفى" قالتها وهي ترى نظرة أمها المشفقة وأبيها قليل الحيلة، "كفى" صرخت بها مرة أخرى وهي ترى وجه شقيقها الغاضب الذي يخشى ألا يتم زفافها الآن ويتركها عريسها! "توقفوا" صرختها الأخيرة التي صاحبها دوار عنيف وهي تنظر لعريسها، زوجها السعيد بصيد مثلها! وكيف لا يكون سعيد وهو ينال زوجة بعمر ابنته والأهم بكر لم يمسها أحد قبله.
سقطت مغشيًا عليها وآخر ما سمعته قول شقيقها لزوجها: تعلم يا عثمان خجل البنات، وذعرهن من الزواج، فضحك الآخر غير مبالي ،ولم يقل شيء.
وقفت أمامه، ترتعش خوفًا، لكن لديها أمل، مجرد أمل طفيف أن يكون متفهم، حنون، يتعامل معها برحمة ولين تحتاجهم هي كثيرا، لكن خيب أملها سريعًا حين طلب منها بجفاف أن تقترب منه!
كادت تتحدث تقول أنها خائفة، جسدها يرتجف، أنفاسها تتسارع وكأنها في سباق تعلم أنها الخاسرة الوحيدة فيه! صرخت بعنف وهي تترجاه أن يتوقف! لكنه لم يهتم..
أفرغ شهوته وتنهد براحة نائما، أما عنها فقامت تقاوم ارتجافها، تقف تحت اندفاع المياه الساخنة بل الحارقة لكنها لا تشعر بها وهي تفرك جسدها بحدة، ملامحها جامدة كأنها بلا روح لكن جسدها الذي يهتز بقوة يخبرك أن هناك روح تعاني.
انهت حمامها لكنها لم تقوى على الخروج، لهذا جلست على الأرض الباردة، ضمت جسدها إليها واحتضنت نفسها وتركت العنان لدموعها.
فكرت بالانتحار، لكنها ضحكت بهذيان قائلة: ألم أفعل! لقد نحرت قلبي وحياتي، انتحرت برغبة أهلي، انتحار شهد عليه كل الناس.
لكنها الآن لا تلوم أحد هي من اختارت، كان يمكنها أن تمكث مع عائلتها مهما فعلوا بها كانت لتصبر خيرا لها مما ألقت نفسها فيه.
كان خيارها للتخلص من لقب عانس الذي لاحق اسمها "ابتسام العانس" عادت ضحكتها تزداد وهي تهز بدنها وتحركه للأمام والخلف، تردد من بين ضحكاتها لم أعد عانس، لا أحتاج لشفقة أحد، سيخف الحمل عن أبي الآن ستطمئن أمي عليّ مع رجل أفضل من لا شيء! ظلت تهذي بينما تحتضن نفسها كأنها تربت على روحها المنهكة والمنتهكة.
"يسر بعد عسر"
مرت الأيام واعتادت على وضعها، أصبحت ملامحها جامدة لا تنفعل، لا تغضب، لا تبتسم أو تبكي، صارت كآلة كما هي وظيفتها، آلة يفرغ زوجها شهوته فيها، آلة تستجيب لنصائح زوجة أخيها بالصبر وتحمل زوجها السكير! تمتص شفقة أمها التي لا تمحى من عينيها، لا تهتم بنظرة الندم والذنب بأعين أبيها، ظنت أنها أصبحت خاوية بلا روح! لكن حين يأتي الليل وتخرج الروح الحبيسة تستجيب لها، تترك العنان لدموع قلبها تصرخ صرخات مكتومة، تفرك جسدها بحدة وبعد أن تفرغ ما بداخلها تعود لوجهتها الباردة، وكأن هذا ما يعينها لتحيا!
إلى أن أتى هو، نور من الله ربط به على قلبها برحمته الواسعة، هي حامل!
دق قلبها بعنف وبكت عينيها وقالت ببطء وكأنها تتذوق حروف جملتها: سأكون أم، سيكون لدي ابن! سأصبح أم في الأربعين من عمري؟ قالتها بتساؤل، بفرحة، بدموع، بأمل، وأشفقت عليها الطبيبة وهي تؤكد لها أنها حامل وعمر جنينها ثلاثة شهور! ذهبت لمنزلها تخبره! بالنهاية هو زوجها ووالد طفلها ستنسى كل شيء لأجله.
لكنها ما إن وصلت صدمت به على الأرض يلفظ أنفاسه الأخيرة، فنظرت له بجزع.
عادت ملامحها للجمود وهي تراقب تجهم وجه شقيقها ونظرات أبيها القلقة!
اسمعي ستأتين معي وتتركين هذه الشقة، لا يصح العيش لوحدك بعد الآن وعليك أن تتخلصي من جنينك هذا، فمن سيرضى بأرملة بطفل! قالها شقيقها ببرود
وهنا ذهب برودها أدراج الرياح، وقفت صارخة: توقف وإياك بالحديث عن ابني! هذا طفلي، أتريد أن أقتل روح! بل روحين؟ روحه وروحي معه.
وماذا تفعلين به؟ أنا لن أتحمل مصاريف طفلك يكفينا أنتِ قالها غاضبًا، بعد أن ظن أنه تخلص من حملها تعود مرة أخرى!
سقطت دموعها لكنها مسحتها بعنف ونظرت لوالدها قائلة: أليس لديك ما تقوله؟
حاول أبوها قول شيء لكنها قاطعته بحدة قائلة: أنا لدي ما أقوله! ابني سأنجبه، سأحميه بروحي ودمي سأربيه تربية عجز أبيك عن تربيتها لك! قالتها مشيرة لأبيها ثم لشقيقها الذي لم يفاجئها كثيرا وهو يلطم وجنتها.
فقالت ببرود: غادروا!.
نظروا لها نظرات تتراوح بين ندم و غضب!
لكنها كررت بصراخ: ارحلوا هذا منزلي الآن، سأربي فيه طفلي، سأراه يكبر أمام عيني ولن احتاج أحد منكم، لن أحتاج أحد!
نظر أخيها لها باستهانة لكنها قابلت نظرته البغيضة بأخرى متحدية وهي تردد قائلة: حسبي الله ونعم الوكيل.
أغلقت باب منزلها وكادت تبكي لكنها لم تفعل وكيف تفعل وقد شعرت بنبضات طفلها لأول مرة! شعور أنساها كل شيء وذكرها فقط بطفلها ومستقبله، دعت الله سرا أن يكون ولد فلن تتحمل أن تكون فتاة! لو كانت فتاة ستدمر حياتها وتتعذب أكثر من عذابها هي؛ ستكون ابنة أرملة تعيش وحدها! عبست بقهر لكنها عادت تبتسم، أمل بداخلها يخبرها أنه فتى، سيكون لها كل الرجال.
زاد شعورها بنبضه فابتسمت باتساع وهي تطمئنه قائلة: الله معنا، سينصرنا.
و اليوم ترى ثمرة صبرها! واقف بشموخ بين أصدقائه برداء تخرجه الأسود من كلية الهندسة التي تمناها هو، وسعت هي لتوفر له ما يريد، لقد عملت ليلا نهارا دون توقف، عملت بمصانع عديدة لكثرة ما تعرضت لمضايقات بل وتحرشات جسدية ولفظية! فهي صيد سهل كما يخيل لهم! أ لكنها كانت قوية بإيمانها، فلم يتركها الله، غسلت أواني، طوت ملابس، تعلمت الخياطة واحترفتها، فصارت تخيط ليلا كعمل خاص بها.. حتى أصبحت تملك مصنع صغير يحمل اسمها واسم طفلها! "ابتسام سليم" كأنه أب وزوج وصديق وأخ وقد كان، سليم الذي كان يناديها بحبيبتي، يشاركها دموعها حين تتذكر الماضي، يقضي وقته معها، تطلب منه أن يلعب كرفاقه لكنه يقول بحدة: لن أتركك وحدك! وتلك الجملة كفيلة بأن تزيل كل أوجاعها فتبتسم وهي تحضنه بقوة.
اقترب منها بضحكته المرحة يتأمل ملامحها، تلك التجاعيد التي ملأت وجهها تحكي قصة كفاحها، بدنها الهزيل يخبره كم عانت لأجله فهمس لها: فخور بك أمي!
فدمعت عينيها تأثرا وهي تفهم ما يقوله! ينبغي أن تقول هي تلك الجملة لكنه يفهم! يدرك حاجتها، يقدر حجم معاناتها لأجله لهذا عانقته بقوة، فبادلها العناق بعد أن قبل جبينها ويديها فهمست وهي ترى الدمع بعينيه: رجلي لا يبكي!
فزاد من ضمها وهو يربت على كتفها يطمئنها ثم بحركة مجنونة منه حملها ودار بها!.
وأنزلها بعد موجة عنيفة من الضحك هاجمتها لفعلته، فابتسم يراقبها برضا.
أتممى أن تكون قصتنا اليوم “انتحار علني” نالت إعجابكم.
يمكنك دائما زيارة موقعنا للمزيد من القصص المؤثرة والواقعية.