مدمن العالم الافتراضى  الفيس

مدمن العالم الافتراضى الفيس

0 المراجعات

 

مدمن الفيس 

فازت بالمركز السادس فى مسابقة محمود تيمور للقصة القصيرة 

نبض الابداع العربى 2021

 

 

جلس كعادته على الهاتف يقضي معظم أوقات فراغه على الفيس، بدأ كطفل صغير في عالم الإنترنت؛ يحبو، ثم يمشي ويقع ويتعثر، ثم يقف ويتعلم وهكذا، ثم بعد وقت ليس بالقصير صار متمرسًا ماهرًا خبيرًا بكل أدواته وأسراره وخباياه.

 وشيئا فشيئا ويوما بعد يوم لم تعد تكفيه الجرعة والجرعتان، ولا الساعة والساعتان، وأصبح الفيس بالنسبة له كل حياته.

 نعم، إنه الفانوس السحري الذي يجد فيه شهوته ولهوه ومتعته، لقد سار مدمنا له لا يستطيع أن يبتعد عنه أو يفارقه إلا ساعات العمل فقط، وعلى مضض وصبر وضيق وسخط، يهرع إليه في كل وقت وحين صباحا ومساءً، ليلا ونهارا، ترك كل شيء مهم أو غير مهم في حياته، ترك الأهل والأقارب والأصحاب حتى أسرته  وزوجته لا يرونه إلا ممسكا بالهاتف أو جالس أمامه أو معه  يحتضنه، حتى ساعات منامه وكأنه عشيقته أو محبوبته التي عادت إليه بعد فراق واشتياق ، هو معهم بجسده، أما عقله وقلبه وكيانه ومشاعره استحوذ عليها كلها هذا الفيس بسحره الذي لا يقاوم. أصبح أسير عالم المخدرات مخدر من نوع جديد؛ إنه عالم الفيس. نعم إنه إدمان من نوع آخر يسلب صاحبه حياته وعقله وقلبه، إنه السحر الذي يقلب حياة المسحور رأسا على عقب.

كانت له صفحة على الفيس باسمه الحقيقي وبصورته الشخصية، ثم عمل صفحة أخرى باسم مستعار سمَّاها الشاب الوسيم، ووضع صورة للفيس الجديد لشاب في العشرينات وهو في العقد الرابع من عمره، وبدأ في إرسال طلبات الصداقة للفتيات والشباب ودخل إلى مجموعات كثيرة للتعارف وللحب والغزل، والعشق ولزواج الأرامل والمطلقات. 

وانتشر على صفحات الفيس انتشار النار في الهشيم طالبا المزيد من الصداقات.

يتكلم مع هذه ويغازل تلك، يظل لساعات طوال حتى تتألم أصابع يديه وتتوجع عيناه وتتورم وهو على هذه الحال أسير الفيس وسجينه، تمر الساعات عنده كدقائق معدودات، وهو الذي يتململ من ساعات العمل الرسمية، ويضيق ذرعا من العمل الإضافي الذي قد يكون لضرورة أو لظرف طارئ.

حتى صلاته التي كان يحافظ عليها في وقتها وهي الثمينة والغالية على قلبه والمحببة لنفسه صار يؤخرها ويجمع الأوقات الصلاتين والثلاث في وقت واحد، بل ومع الوقت ومع العالم الافتراضي المجنون الماجن الذي صنعه لنفسه وأوقع نفسه في شباكه ودخل زنزانته برغبته ترك صلاته، وبعد أن كان ينصح زوجته وأبناءه بالصلاة، بل كان يعنفهم ويؤنبهم –أحيانا- إذا ما سمعوا الآذان ولم يقوموا للصلاة، فلم يعد كما كان، وكأنه أصبح إنسانا آخر بأخلاق ومبادئ أخرى.

وزوجته تراقب كل هذا من بعيد ويشغلها عنه –أحيانا-وظيفتها، وأحيانا أخرى أعمال البيت المتعددة، وتحاول –أحيانا- أن تمنعه وتشغل وقته، وتستميله إليها بحركات ورقصات وكلمات، ولكن دون جدوى، فالوقت قد فات وأفيون المخدرات قد سار وسبح في كل شريان ووريد وفي كل ذرة من ذرات جسده، حتى إلى ذرات قلبه وعقله، فهو يحتاج إلى تنظيف دمه وقلبه وعقله بماء التوبة والعودة والأوبة.

فقدت الزوجة الأمل فيه أمام غضبه وسخطه إذا ما اقتربت منه وتوددت إليه، فتركته وأصبحت هي الأخرى لها عالمها الخاص، نعم هي الأخرى دخلت عالم الإدمان برغبتها عالم الفيس؛ لتراقبه ولترى صفحته ولتعرف من يصاحب ومع من يتكلم ولتعاقبه وبنفس أفعاله.

 ولكنه ذو خبرة ودراية وحنكة وقد عمل حسابه لهذه الخطوة، لم يكن ساذجا فهو متمرس عالم بهذا المجال، فصفحته الثانية ليس فيها أية معلومات تدل عليه، وهي ما زالت تحاول وتحاول حتى أدمنت هي الأخرى الفيس، وأصبح لها صفحة باسم مستعار وبيانات ليست لها كما فعل زوجها ،هي –أيضا- وضعت صورة لفتاة فائقة الجمال لتغري الشباب والأصدقاء باسم نجمة من السماء، صنعت لنفسها عالما افتراضيا وهميا وصدقت نفسها، وأعطاها ذلك كثيرٌ من الأصدقاء والمعجبين والمحبين والعاشقين، وملأت فراغ أيامها وهجر زوجها لها بهذه الصفحة وبكلمات المعجبين والمحبين والطامعين. وهو مازال يصاحب الفتيات ويرسل للمزيد منهن طلبات الصداقة، وهن يقبلن حتى أصبح لديه آلاف منهن، يتكلم معهن بكلام الحب والرومانسية والعشق. 

منهن عزيات كن يأملن فيه وفي غيره العريس والزوج الذي يخرجهن من سجن العبوسة الذي أحاطت أسواره العالية والكئيبة بالملايين من الفتيات، ومنهن متزوجات كن يقضين وقت فراغهن على الفيس بعد أن انشغل الأزواج عنهن فشغلن أوقاتهن بالفيس، يرسل لهن الصور، يسعد هو بإرسال تلك الصور وتزداد سعادته عندما يتبادلن معه تلك الصور؛ صور الحب والعشق والقبلات والأحضان، وتطور الأمر وزاد حتى أصبح يرسل ويستقبل من الصديقات المتزوجات والأرامل والمطلقات الصور الإباحية.

كان يشعر بالخجل من نفسه في أول الأمر، وشيئا فشيئا اعتاد هذا الفحش وهذا الشر وتقبلته نفسه، حتى نست نفسه أن عليه رقيبا يعد عليه سيئاته وشاهدا على أفعاله حركاته وسكناته، غاب عقله وفقد رشده وتاه في عالم الإدمان والانحطاط. وما زال في إدمانه والشيطان من ورائه يغويه ويوسوس له بالشر والسوء، وهو يمشى وراءه خطوة خطوه وذراع بذراع وميل بميل، حتى صار مجرما محترفا يبتز كثيرا من الفتيات الصديقات، لقد استدرج عددا منهن بعد أن وعدهن بالزواج، وبعد أن اطمأنوا له بعد أيام وشهور من المراسلات المليئة بالوعود وبالكلام المعسول، فأرسلت كثير منهن صورهن، فبدأ يهددهن بفضح أمرهن، فتارة يأخذ من هذه بعض الأموال، ومن الأخرى بعض الهدايا، وتارة يجبر إحداهن على أن تظهر له عارية أمام كاميرا الشات، لقد تغير وتغيرت أخلاقه، وأصبح شيطانا في صورة إنسان في عالم الواقع الافتراضي عالم الفيس.

وذات مرة وهو جالس في عالمه وجد صورة لفتاة جميلة على الفيس باسم "نجمة من السماء"، فأرسل لها طلب صداقة، وبعد ساعات وافقت على طلبه.

وبدأ في مراسلتها والتحدث معها على الشات وهي تكلمه ويكلمها، ويرسل إليها بحروف الحب وكلمات الود والعشق وهي المسكينة التي تركها زوجها وهجرها وهجر عشها، وجدت ضالتها لتعوض به ما فقدته من اهتمام وحنان، قضت معه الساعات والأيام والشهور وهما متنكران بأسماء مزيفة ولا يعرف أحدهما الآخر.

وفى هذه الأثناء كانت ابنتهم مريم هي الأخرى تعيش في عالمها الفيس بوكي العالم الافتراضي، هم مشغولون عنها وهي مثلهم –أيضا- مشغولة، وكما كان أبوها الشاب الوسيم يبتز الفتيات وقعت هي –أيضا- فريسة لابتزاز شخص آخر يبتزها وتدفع له الأموال حتى لا يفضحها ويرسل صورتها العارية لأصدقائها وأبيها وأمها   ...والأم والأب يتساءلان عن الأموال التي تضيع وتختفي من حقيبة الأم وحافظة نقود الأب ولمرات كثيرة، وذهبها الذي يضيع قطعة قطعه "غويشة ثم سلسلة وخاتم "وذهب ومجوهرات الأم هي –أيضا- ضاعت وذهبت قطعة قطعة، والأم تسأل زوجها والزوج يسأل زوجته ولا إجابة شافية للسؤال، ولا رد مقنع ومفيد يريح.

وفي أحد الأيام دخل الأب غرفته فوجد ابنته مريم ممسكة بحافظة نقوده وقد أخرجت منها بعض أوراق فئة المائة جنيه، فهاله ما رأى فأسرع إليها ممسكا بها وألقى بها إلى الأرض، ثم أوقفها وظل يضربها ويشتمها ويسبها ويلعنها بأفظع السباب والشتائم وهي تصرخ وتصرخ، فسمعت الأم صراخ ابنتها فهرعت إليها وأنقذتها من بطش أبيها وغضبه عليها.

ثم هدأت من روع زوجها ببعض الكلمات، ثم أخذت ابنتها إلى حجرتها وقالت لها: لماذا تسرقين أموال أمك وأبيك؟ لماذا وكيف فأنا ووالدك لم نحرمك من أي شيء فكل طلباتك مجابة. وليست هذه هي المرة الأولى فقبلها مرات ومرات، فقالت مريم: يا أمي أنا في ورطة كبيرة ساعديني يا أمي ساعديني، وأرجو أن يكون ما سأقوله لك سرا بيننا، فقالت لها الأم: نعم، قولي صارحيني، فأنا في حيرة من أمرك مصدومة فيك، فقالت مريم وهي تبكي والدموع تتساقط على خديها كمطر الشتاء الغزير، دموع كلها حرقة وندم وحسرة وخوف، قالت: في إحدى المرات وأنا مع صديق لي على الفيس، ومن كلامه الجميل المعسول الذي تتمنى كل بنت أن تسمعه ويقال لها على الدوام كلام غزل وحب ومدح وثناء على جمالي الفائق، وفى لحظة ضعف مني أريته صدري عاريا، فاحتفظ هو بهذا المنظر وهذا الفيديو، ومن وقتها تغير معي وبدأ يبتزني ويهددني ويطلب مني–وباستمرار- النقود وإلا نشر هذا الفيديو.

صعقت الأم من هول ما سمعت ثم فاقت من صدمتها، وبعد لحظات تماسكت الأم ثم نصحت ابنتها الصغيرة ذات ال 18عام، وتعاهدا على ألا تعود لمثلها أبدا، وتركت الأم ابنتها بعد أن طمأنتها أن كل شيء سيكون على ما يرام، وأن هذا الولد لن يستطيع ابتزازك ثانيا وأنها ستوقفه عند حده.

وتوجهت إلى الأب وقصت عليه القصة كلها، على ألا يفتح فمه أمام ابنته بأي شيء وكأنه لا يعلم من أمرها شيئا، ثم جلس الأب مع نفسه نادما متذكرا ما كان يفعله بالبنات على الفيس، ودار شريط الممارسات والتهديدات أمام عينيه، فبكى بحرقة على ما كان يفعله وقد شربت من كأسه المر ابنته، ورأى قبح فعلته.

فجمع شتات أمره وقام مسرعا إلى قسم الشرطة وقدم بلاغا بهذا الأمر، وبعد أيام معدودات تم القبض على هذا المبتز.

وأغلق الزوج صفحة الأب الوسيم إلى الأبد، وقال لنفسه وهو يعاتبها ويجلدها بسياط الندم والتوبة: داين تدان في عالم الإدمان وهذه بتلك.

 

الراوي والكاتب  أ /محمد عثملى

كتبت 5 / 7 / 2013

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

2

متابعين

2

متابعهم

1

مقالات مشابة