أحمد عبد الحي كيرة: بعبع الأنجليز
تدور سطور تلك المقالة عن البطل
أحمد عبد الحي كيرة (بعبع الأنجليز)، و الذي جسد دوره و شخصيته الفنان الكبير كريم عبد العزيز في فيلم كيرة و الجن، و هو ابن مدينة فارسكور بدمياط، ففي سنة ١٩١٩م قامت ثورة ١٩ و ذلك لرفض المصريين لقرار نفي زعيم الأمة "سعد باشا زغلول".
تلك الثورة لم تكن مجرد هوجة عادية، بل صحوة رهيبة لكل المصريين في كل المجالات.
بدأت تتكون وقتها منظمات مقاومة سرية ضد الإنجليز، و ضمت عدد كبير من طلبة الجامعات.
و في وقت خروج المظاهرات في الشوارع تهتف ضد الانجليز، و يضحي المصريين بأرواحهم الطاهرة أمام رصاص الإنجليز، فداءاً لمصر، كان هناك طالب كيميائي في مدرسة الطب، بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا)، اسمه "أحمد عبد الحي كيرة"، شاب متوسط الطول، وجهه قمحي اللون، و كان له وحمة في وجه الأيمن مميز بيها، كان يحاول منع زملائه الطلاب من الخروج للمظاهرات بكل عزيمة وإصرار، بالاقناع أو بالقوة، و امتنع عن اضراب الطلبة الذي حدث وقت ثورة ١٩١٩، و انتظم في دراسته عكس معظم الطلبة، و دائماً كان يظهر وسط الجامعة و هو يهاجم، المتظاهرين و يعيب في الثورة.
لدرجة أنه ظل مكروه و منبوذ من زملائه، و ظلوا يحتقروه و أطلقوا عليه لقب "ابن الإنجليز".
هذا الأمر لفت نظر مدير مدرسة الطب الدكتور الانجليزي “كيتنج”، و أعجبه موقف "كيرة"، و بناء عليه أصبح "كيرة" من الطلبة المتميزين و المقربين للإدارة الإنجليزية.
لكن "كيرة" كان يملك شخصيتين، شخصية ظاهرة للناس، و شخصية سرية.
كل ما فعله "كيرة" كان مقصوداً كي يخفي به شخصيته الأخري، "الأخ فهمي" العضو في منظمة اليد السوداء السرية.
ما المقصود بالمنظمة السرية؟
أي منظمة في الدنيا تكون مبنية علي شكل هرمي، و كل طبقة من طبقات هذا الهرم تضم أعضاء لهم مهمة و توجهات مختلفة عن باقي الطبقات بناءً عن خبرتهم أو قدرتهم، و غالبا أعضاء تلك الطبقات لا يعرفون بعض، حتي لا يجد ما يعترف به أحدهم سوي عن فردين أو ثلاثة ممن يعرفهم، في حالة إذا تم القبض عليه و لم يتحمل تعذيب الأنجليز له، و بالتالي لا يتسبب في وقوع التنظيم كله.
و لو حصل و تقابل عضو من الطبقة السفلي مع واحد من الأعضاء المؤسسين هيكون مرة بالكتير لظرف طارئ و هيظهر باسم حركي.
هكذا كانت منظمة اليد السوداء، فهي صحيح ضمت كيرة و الجن و دولت و الهلباوي، و لكن كان كل واحد فيهم في طبقة مختلفة من المنظمة، و لم يجتمعوا في مكان و لا رقصوا و لا غنوا و لا خدوا صور تذكارية و لا حتي يعرفوا أسماء بعض الحقيقية، كما شاهدنا في الفيلم.
المنظمة كانت كلها شباب من سن ١٨ سنة إلي ٢٢ تقريباً، تحت قيادة "عبد الرحمن فهمي" و "سليم زكي" و "أحمد ماهر" و "محمود فهمي النقراشي" ، و آخر اتنين أصبحوا رؤساء وزراء فيما بعد، و "كيرة" كان عضواً في المنظمة مهمته أنه يتقرب من الإنجليز و يكتسب ثقتهم، كي يستطيع الدخول إلي معامل مدرسة الطب بكل أمان، و يأخذ المواد الذي يستطيع بها أن يصنع القنابل و المتفجرات، الذي كان أفراد التنظيم السري يلقونها على جنود و ضباط الإحتلال و عملائهم من المصريين.
ظل "كيرة" يلعب دوره المزدوج هذا و نجح فيه لمدة خمس سنين من سنة ١٩١٩م إلي سنة ١٩٢٤م، إلي أن انكشف دوره الوطني عن طريق محاكمة المتهمين بإغتيال السير الإنجليزي
"لي سناك" قائد القوات المصرية في السودان.
و قيل اسمه من ضمن المشتركين في العملية، و علم الأنجليز أيضاً أنه اشترك في عمليات كثيرة قبلها، و كان بارعاً للغاية في التنكر، و يظهر بأكثر من شخصية منها الفلاح أو النجار و غيرها.
فكان كيرة من أبرز الشخصيات التي أذلت الإنجليز و أذاقتهم المر، و هم لا يعلمون شيئاً عن شخصيته الحقيقية.
و هنا جن جنون قوات الإحتلال، فكيف استطاع كيرة أن يخدعهم طوال تلك السنوات، و لم تكن هناك أدني ذرة شك ناحيته.
و أصدرت المخابرات البريطانية بيان لعملائها اعتبرت فيها “أحمد عبد الحي كيرة” مطلوب حياً أو ميتاً، وعممت البيان ده على كل مكاتبها حول العالم.
و بسرعة دبر التنظيم عملية هروب لـ "كيرة" بجواز سفر مزور لليبيا، و منها سافر لألمانيا، و ظل فيها فترة إلي أن استطاعت المخابرات الإنجليزية تحديد مكانه، و لكن أنقذه طبيب جامعي في ألمانيا طلب منه الهروب بسرعة، لأن الانجليز قد تعرفوا عليه.
و فعلاً سافر "كيرة" لتركيا في أوائل الثلاثينات،
و هناك أجر ٣ أماكن مختلفة كي يستطيع أن يهرب من أنظار الإنجليز، و لم يكن يقيم في مكان واحد لأكثر من ٤٨ ساعة.
و كما ذكرت بنت أخته السيدة سهير العاصي في حديث لها، أن "كيرة" كانت بتوصله تحويلات فلوس و دهب من والده في مصر عشان يقدر يصرف و يعيش في غربته، أي أن والده لا كان من دنشواي و لا اتعدم و كان عايش و"كيرة" في تركيا.
🔸و لكن كان هناك تنويه من صناع الفيلم في البداية أن الفيلم مستوحي من قصة حقيقية و لكن لا يعتد به كوثيقة تاريخية.
و من أشهر المواقف اللي ظهر فيها "كيرة" و التعرف عليه عن طريقها الناس، الصدفة التي جمعته بالكاتب الكبير "يحيي حقي" في تركيا، داخل القنصلية المصرية في هيئة المحفوظات، و لما اتعرف عليه "حقي" كان يحاول أكثر من مرة أن يجلس و يتحظث معه، لكن "كيرة" كان يرفض.
و رغم ذلك كتب "يحيي حقي" عن صدفة لقاءه بـ "كيرة" في إحدي مقالاته و قال :
“المثل الفذ للرجل الشريد، و كانت ملابسه تدل على مقاومة عنيدة للفاقة، و كان رغم بعده عن الوطن محافظاً على الحذر و الترقب المفترض برجل مثله لأنَّه يعلم تماماً أنَّ المخابرات البريطانية لن تكف عن طلبه حتى لو فرَّ إلى أقصى الأرض”.
و وصفه بإسم "بعبع الإنجليز".
و في سنة ١٩٣٦م، وصلت المخابرات الإنجليزية لمكان "كيرة"، بعد ما فتح قهوة في اسطنبول يقدر يعيش منها، و قدرت المخابرات الإنجليزية تغتال "كيرة" في اسطنبول.
و هناك روايتان لاستشهاد "أحمد كيرة"، الأولى أن هناك ضباط بريطانيين أتوا لتركيا، و قتلوه في شارع بإسطنبول، و مثّلوا بجثته في الطريق و سابوها للطيور الجارحة تنهشه، و الرواية التانية أنه كان هناك ثلاث ضباط قتلوه بخنجر في القلب، و وضعوه داخل حفرة عميقة، إلي أن وجده أحد المارة، و أبلغ الشرطة، التي أبلغت بدورها السفارة المصرية في تركيا.
و غالبا الرواية الثانية هي الأصدق، و بعد ما اغتالوه أرسل هؤلاء الضباط للحكومة الإنجليزية رسالة بأنهم ثأروا لأرواح جنودهم الذين ماتوا في مصر.
و جثته موجودة إلي الأن في إسطنبول.
رحم الله الشهيد البطل "أحمد عبد الحي كيرة" بعبع الانجليز.