ولادة من رحم الموت

ولادة من رحم الموت

0 المراجعات


كانت تعبر الشارع مسرعة عندما صدمٌتها تلك السيارة المسرعة التي يقودها أدهم ورمتها إلى حافة الطريق ليصطدم رأسها بحافة الرصيف وتسقط على الأرض ، 
خرج أدهم من السيارة وأسرع إليها واجتمع حولها المارٌون وهم مذهولين لقوٌة هذا الحادث ، إنها امرأة جميلة جداً في الثلاثين من عمرها نحيلة القوام لديها تعابير وجه جذابة توحِّد خالقها لشدة جمالها ، 
اعتقد الجميع أنها قد ماتت اقترب أدهم وضع رأسه على قلبها مصطدوم فصرخ إنها على قيد الحياة قلبها ينبض ولكن ببطء ، سرعان ما جاءت سيارة الإسعاف لتأخذها الى المشفى

في المشفى مرت أربع ساعات وهي في غرفة العمليات وأدهم يمشي في الممر ذهاباً وإياباً يرتجف من الخوف أفكاره مشوشة كثيراً
( أدهم كان تاجراً كبيراً في هذه المدينة الأوربية الصاخبة ذو سمعة نظيفة وقلب رحيم )
وهو يتمتم مرتجفاً بكلمات يارب أبقها على قيد الحياة يارب لا تحمّلني ذنبها فأنا المخطأ كنت أتحدث على الهاتف وأقود مسرعاً يارب لا تؤذيها بخطئي 
خرج الطبيب من غرفة العمليات وقال : اطمئن لقد نجحت العملية وهي على قيد الحياة وجنينها كذلك ولكن لازال هناك خطر على حياتها فبسبب النزيف الداخلي دخلت في غيبوبة لا نعرف متى تستيقظ منها 
أتت الشرطة بعد أن تحققت من الشهود كيف وقع الحادث وقالوا لأدهم : أنت تتحمل المسؤولية كاملة عن الحادث لأنك كنت متجاوزاً السرعة المسموح بها وبما أن المرأة لا تحمل أوراقاً أو أي شيء يثبت هويتها ستبقى رهن الاعتقال في مكان إقامتك ريثما تستيقظ أو يظهر أحدٌ من أهلها لن تغادر المدينة حالياً
مرّ أسبوع وهي مازالت في الغوما في غرفة العناية المشددة وضعها السريري جيٌد ولكن الجنين في خطر لذلك أبقوها في العناية المشددة
التقط أدهم صورة لها وذهب إلى مكان الحادث لربما يتعرّف أحد سكان المنطقة أو المطعم أو الفندق المتواجدين في ذلك الشارع عليها وباءت محاولاته بالفشل ، نشر أدهم صورتها في السوشيال ميديا لعل أحداً ممن يعرفها يتصل به ولكن كذلك فشلت محاولاته بالعثور على أي شيء يخصها ،
مرٌ عشرون يوما وما من خبر حتى أن الشرطة لم يأتهم أي بلاغ من أحد عن امرأة مفقودة بمواصفاتها ،
بعد يومين تفاجأ أدهم باتصال من المشفى يخبرونه أن المرأة استعادت وعيها وهي والجنين بخير ، ذهب أدهم الى المشفى مسرعاً ليطمئن عليها فتفاجأ بصدمة كانت كارثة بالنسبة له ،
فالمرأة تعاني من فقدان ذاكرة كلٌي لا تذكر حتى اسمها
ماهذا الذي يحدث ألهذه الدرجة يلاحقه الحظ السيء أم هو حظ هذه المرأة المجهولة ،
....
جاءت الشرطة لتأخذ إفادتها فلم يستطيعوا التوصل لشيء سوى أنها من دولة عربية لأنها تتحدث العربية ، ماذا يفعل أدهم الآن وقد ساقه القدر ليكون هو المسؤول الوحيد عن امرأة مجهولة تحمل في أحشائها جنيناً لا ذنب له سوى أن أمه مرت بمنعطف قدرٍ قاسي ، الآن يجب أن تغادر المرأة المجهولة المشفى فهي وجنينها في وضع جيد ، 
استأجر لها أدهم منزلاً صغيراً في أحد الأحياء وصار يزورها كل يومين للاطمئنان عليها يحاول جاهداً في زياراته أن يخوض معها أحاديث متنوعة لعله ينشط ذاكرتها ولكن عبث ،
أخذها الى طبيب نفسي بشكل دوري ليساعدها في تنشيط ذاكرتها وتمر الأيام والأسابيع على هذا المنوال ،
برغم كل الجلسات عند الطبيب ورغم كل الاعلانات التي نشرها أدهم على السوشيال ميديا لم يستطع التوصل لشيء وكأن هذه المرأة كائناً فضائياً هبط من السماء لا يعرف عنه سكان الأرض شيئاً ،
أدهم كان رجلا في الخامسة والثلاثين من عمره لديه شركة تجارية عالمية ميسور الحال ولكنه مازال أعذباً فرغم كل إلحاح أهله للزواج كان يرفض لأنه لا يجد الوقت لديه ليتحمل مسؤولية عائلة وزوجة وأطفال يا لهذا القدر الغريب يضعنا في مواقف لطالما رفضنا أن نكون فيها ...
وبعد مرور عدة شهور على تلك الحالة أصبحت تلك المجهولة في الشهر السابع من حملها وفي أحشائها ذكراً مجهول الأب والأم .
من خلال زيارات الطبيب المتواصلة بدأت تلك المجهولة تتذكر بعض المشاهد ولكنها مشاهد مؤلمة شِجار مع رجل مجهول الملامح ، مكتب وأوراق ومستندات رسومات غريبة ، بدأت تستعيد مشاهد لنفسها وهي جالسة على شاطىء البحر تبكي متألمة مقهورة ..
ازدادت في مخيلتها تلك المشاهد مع ألم صداع لا ينتهي ، وبعد فترة وجيزة تذكرت كل شيء وانهارت على أعتاب الماضي ،
كانت تلك الشابة الرائعة الجمال مهندسة معمارية في شركة هندسية وكانت متزوجة بالسر من مهندس معها اسمه حسان كان حسان هو المسؤول عن دمار حياتها والطفل في أحشائها يكون طفله ، تذكرت كل شي منذ طفولتها إلى لحظة وقوع الحادث .
لم تخبر الطبيب بشي ء ولم تخبر أدهم ظلٌت على تلك الحال من الخوف والاضطراب والقلق لأيام ، فحسان كان يمتلك أوراقاً قد جعلها تضع ختمها عليها بالالاعيب الشيطانية وتلك الأوراق توصلها إلى السجن بتهمة الاختلاس مع أنها بريئة من كل ذلك .
لم تكن تعلم ماذا تفعل شعرت وكأنها في دوامة لا تنتهي إلا بموتها ، خلال هذه الفترة شعر أدهم بتغير حالها واضطرابها وخوفها وكل مرة سألها كانت تبقى صامتة فقط تبكي وترتجف .
وبعد أيام وفي ليلة مقمرة جميلة قررت منى أن تخبر أدهم بكل شيء فهو كان رجلاً شهماً معها عطوفاً عليها لا يستحق أن تُبقي أسرارها مخفيّة عنه ، اتصلت به : أدهم هناك شيئاً هاماً أريد أن أخبرك به فلنلتقي غداً صباحاً إن كنت لا تمانع ،
حسان : حسناً عزيزتي فليكن ذلك سآتي غداً صباحاً وأجلب معي فطور لنتناوله معاً .
كان أدهم يشعر تجاه منى بارتياح شديد واعجاب كبير ولكنه لم يفصح لها عن مكنونات مشاعره لأن كل مايخص حقيقة منى مجهول بالنسبة له .
وفي اليوم التالي لم يكذّب أدهم خبر فقد جاء في الصباح ومعه معجنات كانت منى قد أخبرته بأنها تحبها جداً ، حضّرت منى الشاي وجلسا معاً على الطاولة لتناول الفطور ، كان أدهم يأكل بشهية ومنى لا تكاد تأكل بعض اللقيمات وكأنها طائر مكسور الجناح يأنُّ من ألم فقد حريته ، مالبث أن انتبه أدهم لمنى واضطرابها ، فقال لها : مابكِ يا عزيزتي لماذا لا تأكلين فأنتي تحبٌي هذه كثيراً ، وماهو الموضوع الضروري الذي تريدين الحديث معي به ، 
كان أدهم قد خطر في باله أمور كثيرة ومتنوعة لكنه لم يتوقٌع أبداً ماستقوله منى 
منى وهي تشهق وتزفر بتوتر وقلق مرتجفة باكية : لقد عادت اليٌ ذاكرتي كلٌها وأريد أن أخبرك قبل الجميع من أكون وماهي حقيقتي ، سكتت لبرهة تنفست بعمق ثم تابعت : بعد أن أخبرك الحقيقة أريد منك أن ترشدني الى الطريق الصحيح وسأقبل بحكمك مهما كان فلولا وجودك بجانبي لما استطعت أن أكون على قيد الحياة إلى الآن .
كان أدهم ينظر إليها بنظرات خوف وقلق وحيرة وحب في ذات الوقت ترى ماذا يخبىء هذا الوجه الملائكي من أسرار .
أدهم : تفضلي تابعي أنا أسمعك .
منى : أول شيء أنا اسمي منى القحلاوي من دولة الجزائر
لقد توفيت أمي وأنا في الرابعة من عمري وبعد فترةٍ وجيزة تزوج أبي بسعاد ، وكانت ظالمة جداً معي أنجبت لأبي أربعة أولاد غيري ، 
لن أطيل عليك الحديث بعد وفاة والدي كانت خالتي سعاد قد نقلت كل أملاك وأموال أبي الى اخوتي الذين لا يقلٌون ظلماً عن أمهم ، 
كنت اثناءها أعمل وأدرس في كلية الهندسة المعمارية وبعد أشهر تخرجت من الكلية ولأنني الأولى على الدُفعة جاءتني منحة لأكمل دراستي في هذه الدولة ، أتيت إلى هنا غريبة لاجئة مواطنة في ذات الوقت لأنني كنت في وطني غريبة ولاجئة ولم أشعر ذات يوم بدفء ذلك الوطن ، 
أكملت دراستي  هنا وتخرجت بامتياز وحصلت فوراً على وظيفة في شركة هندسية كبيرة وخلال ثلاث سنوات انتقلت من نجاح الى آخر حتى أصبحت رئيسة قسم الانشاءات في الشركة ، 
عندها سلمتني الشركة مشروع منتجع ضخم بمواصفات عالمية ورأسمال جداً مرتفع ، وكان زميلي حسان مدير قسم التنفيذ مسؤول معي عن المشروع ، 
ثم تابعت قائلة : بدأت العمل بشغف وحب وتفانٍ وإخلاص وخلال هذه الفترة كان حسان يتقٌرب منّي مستخدماً كل الأساليب الملتويٌة من حب واهتمام وإخلاص وغيرة للإيقاع بي في شِباك الحب وكان كل ذلك زائفاً مع الأسف لكني لم أشعر بذلك ، 
تنهدت قليلاً ثم تابعت : بعد فترة سنة ونصف تزوجنا بالسٌر لأن الشركة تمنع التقارب العائلي بين موظفي الشركة المدراء ، كان هذا الشرط من الشركة ذريعة حسان للإيقاع بي في شباكه الشيطانية وأصبح حسان يتحمل عنٌي نصف أعباء العمل بحجة أنه لا يريد أن يتعبني 
وهكذا مضت عدة شهور وشارف المشروع على الانتهاء بقيت التشطيبات الأخيرة عندما اكتشفت أنني حامل في شهري الأول وعندما علم حسان بحملي هنا أسقط القناع الذي كان يرتديه وأخرج وجهه الحقيقي ،
جاء إلى منزلي وعيناه تشعان الغضب والشر أخرج من جيبه صوراً لأوراق ومستندات عليها ختمي وتوقيعي تثبت عليَّ جُرم الاختلاس بأموال طائلة من ميزانية المشروع طبعاً كان هو المختلس الحقيقي تحت اسمي وختمي ، 
وقال لي : اذا لم تقدّمي استقالتك  من الشركة وتجهضي الطفل فسأقدم هذه الأوراق للأمن وستسجنين بتهمة الاختلاس لسبع سنوات على أقلّ تقدير أراد إبعادي عن المشروع في نهايته لينفرد هو بنجاح المشروع ويصبح مديراً عاماً لفرع الشركة في تلك المدينة . 
أُجبُرت على الاستقالة وسافرت إلى هذه المدينة بملابسي التي أرتديها ونقودي التي في الحقيبة وأوراقي وبطاقتي البنكية لم أجلب معي أي شيء يذكّرني بحسان وحقارته كنت أريد اجهاض الطفل وبدأ حياة جديدة بعيداً عن شرور حسان وعند وصولي إلى هنا دخلت مطعماً لاتناول بعض الطعام وعندها سرقت حقيبتي من على الطاولة ، 
يالهذا القدر السيء لم يعد معي ولا حتى هاتف جوال خرجت مسرعة لأذهب الشرطة وأقدّم بلاغ عن السرقة عندها حدث ماحدث وأنت تعرف البقية .
كان أدهم يستمع إليها وهو مستدير الظهر ينظر عبر النافذة بعينين باكيتين ومنى وكأن عينيها صحراء قاحلة جافة متشققة من العطش .
ساد الصمت لدقائق وكأن الزمن قد توقف ، أدهم مازال ينظر عبر النافذة وكأنه في عالمٍ آخر ومنى مطأطأة الرأس تنظر إلى الأرض بعيون الأرق والخوف 
أدهم : استريحي الآن وتعالي تناولي الشاي ، 
اقترب منها مسكها من يدها وأوقفها ضمها بحنان وقال لها : أنتي من الآن لستِ بمفردك أنا هنا بجانبك لن أدعك تعودين إلى حياة الظلم والبؤس تلك ، ولكن يجب أن تستعيدي هويتك وكل أوراقك الرسمية وشهاداتك الجامعية ومكافئاتك المهنية فهذا فقط ما سنحتاجه من ماضيكي وسنرمي كل ماتبقى ، لن تخبري حسان بأمر الطفل ولن تتواصلي معه أبداً .
قالت منى حزن :
ماذنبك أنت ياأدهم لتتحمل أعبائي وماضيٌ الحزين وطفلٌ في أحشائي من أبٍ شيطاني ، 
قال أدهم ذنبي الوحيد أنني أحبك بل واعشقك خلال هذه الشهور أدركت أنكِ ملاك في زمن الشياطين ، أدركت أنكِ مثال الإخلاص في زمن الغدر والخيانة ، 
إذا كنتي لا تمانعين أريد أن أكمل مابقي من حياتي معكِ وأريد أن أكون أباً لهذا الطفل الذي لا أشك لوهلة سوى أنه سيكون ملاكا مثل أمه ،
تجمد الدم في عروق منى ويبست أطرافها وارتجفت يداها اضطرب نبضها وبدأت تتلعثم لا تعرف ماذا تقول 
"أحياناً يضعنا القدر في مصادفات غريبة لحظة واحدة كفيلة أن تحوّل حياة إنسان من مجرى إلى مجرى آخر ". 
بعدها أخذت منى تصرخ بشدّة وكأن آلام الولادة قد بدأت .
في المشفى وبعد مرور ساعتين او ثلاث أنجبت منى طفلاً ملائكياً أبيض الوجه أزرق العينين ، كان يشبه أدهم بلون عينيه احتضنه أدهم بين ذراعيه وكأنه قطعةٌ من قلبه .
وبعد مرور شهرين من الولادة أقاموا حفل زفاف كبير وكانوا سعداء جداً وذهبوا لقضاء أجمل شهر عسل في عمرهما. 
وعندما عادوا من شهر العسل فتح أدهم لحبيبته وزوجته وأم طفله منى شركة هندسية أسموها شركة وطن باسم طفلهما الذي كانت ولادته نهاية لغربة أمه وأبيه الطويلة ،
بعد سنوات أصبح لأدهم ومنى ثلاث أولاد وطن وشام ولؤي وأصبحت شركة وطن من أنحج الشركات الهندسية الاستثمارية في المدينة كلها ، وعائلتهم تكاد تكون العائلة المثالية .

"هكذا هو القدر ، يأخذ منّا كلّ شيء دفعةً واحدة نظنها النهاية ، ولكنٌه يأخذ ليعطينا ماهو الأجمل "

مصادفات القدر لا تأتي عن عبث

 

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

articles

1

followers

1

followings

3

مقالات مشابة