الجزئ الثاني قصة معبرة تغير نظرتك للحياة وعسى أن يدبر الله بعد ذلك أمرا
تابع الرجل العجوز كلامه لخالد قائلا: بالمناسبة يا بني إن السيارات الأحدث من سيارتك أسعارها ليست مرتفعة كثيرا.
ظهرت على محيا خالد ابتسامة هادئة وقال بنبرة يملؤها الرضا : الحمد لله على كل حال ، لو استطعت أن أشتري سيارة أفضل لفعلت ولكن ظروف الحياة صعبة .
فقال له الرجل العجوز : أبشر يا بني ، كم تريد أجرة مني حتى توصلني؟
فال خالد : مئتان ريال يا والدي.
قال الرجل العجوز : لا ، سوف أعطيك خمسمئة ريال.
فرح خالد فرحا غامر ، فهذا المبلغ بالنسبة له ربع راتبه ، أحس أن الدنيا تبتسم له وأن كل شيء سوف يكون بحال أفضل .
استمر خالد بطريقه ووجهه تعلوه ابتسامة جميلة وأفكاره أبحرت به بعيدا عند أولاده وما سوف يشتري لهم بهذا المبلغ الإضافي ، كما أنه عندما يعود سوف يأخذ طلب آخر .
و فجأة ، قطع حبل أفكاره صوت أنين الرجل العجوز المسكين .
التفت إليه خالد وإذا به يضع يده على صدره و يإن من شدة الألم ، أوقف خالد سيارته على جانب الطريق وسأله: ما بك يا والدي ؟
أجابه الرجل العجوز بصوت خافت لا يكاد يُسمع: أحس بألم شديد في صدري يا بني.
فأخرج خالد زحاجة ماء من جانبه وأخذ يمسح به على وجه الرجل العجوز و يسأله عن حاله،
طمأنه الرجل العجوز قائلا: الحمد لله يا بني أنا أشعر بأنني أفضل حالا الآن ، لا داعي للقلق خذني إلى بيت ابنتي أرجوك.
فقال له خالد : حاضر يا والدي حاضر .
انطلق خالد مسرعا على الطريق ،وهو خائف على الرجل المسكين ، يلتفت عليه تارة وعلى الطريق تارة أخرى وبعد مدة قليلة التفت خالد إلى العجوز المسكين فلاحظ أنه لم يعد يتأوه من الألم فناداه خالد : يا عم .. يا عم .. ياوالدي رد علي أرجوك .
أوقف خالد سيارته على جانب الطريق بسرعة ، وأخذ يحرك الرجل و يحاول أن يوقظه ولكن دون جدوى ، إنه لا يحرك ساكنا ، انطلق خالد مسرعا بسيارته باحثا عن مستشفى أو مركز صحي لعله ينقذ العجوز المسكين ، وصل إحدى القرى ولمح مركزا للهلال الأحمر ،فطار إليه مسرعا وأوقف سيارته وحمل الرجل العجوز بين ذراعيه وأخذ يصرخ بأعلى صوته طالبا المساعدة.
ركض إليه مجموعة من المسعفين وأدخلوا الرجل العجوز لغرفة الفحص ولكن للأسف لم يتمكنوا من إسعافه فقد كان مفارقا للحياة قبل أن يصل إليهم.
خرج الدكتور من غرفة المعاينة وتوجه إلى خالد قائلا : الرجل متوفي لم نستطع أن نفعل له شيء رحمه الله.
قال خالد بحزن وحسرة : لا حول ولا قوة إلا بالله، رحمك الله يا عم ،
سأل الدكتور خالد : مالذي حدث مع الرجل و ما صلة قرابتك به ؟
رد خالد قائلا : والله أنا رجل أعمل على سيارتي ، وأنقل الناس بالأجرة ، وأوقفني هذا الرجل و أثناء الطريق بدأ يشتكي من ألم في صدره وفجأة لم يعد يصدر عنه أي صوت فأخذت أبحث عن أقرب مكان لأسعفه .
قال الدكتور لخالد : يجب أن نبلغ السلطات الأمنيه بما حدث كإجراء روتيني في مثل هذه الحالات.
وفعلا قاموا باستدعاء رجال الشرطة وحضروا على الفور ، و أخذوا خالد معهم ليحققوا معه وقاموا بتحويل جثة الرجل العجوز إلى الطب الشرعي ليتأكدوا من أسباب الوفاة.
وفي أثناء التحقيق مع خالد سألوه : من أين أحضرت هذا الرجل؟
فأخبرهم خالد بكل القصة وأقسم لهم أن لا يد له بموت الرجل العجوز. ولكنهم رفضوا أن يخلوا سبيله حتى يتأكدوا من صحة أقواله و إلى أن يصدر تقرير الطبيب الشرعي بسبب الوفاة.
وجلس خالد بالحجز حزينا مهموما يفكر في هذه المصيبة الجديدة التى حلت عليه ، وماذا سيفعل ؟
ممكن أن يقوموا بفصله من العمل إذا تأخر بالحجز، و بماذا سوف يخبر أولاده إذا تم حبسه لمدة أطول ، جميع هذه الأفكار دارت في رأسه المثقل أساسا بالهموم .
وبعد ثلاثة أيام مرت على خالد كأنها ثلاثة سنين جاءت نتيجة فحص الطبيب الشرعي بأن وفاة الرجل العجوز كانت وفاة طبيعية أثر أمراض عديدة ومشاكل سابقة بالقلب ، وليس لخالد أي علاقة بوفاته.
كما استطاع رجال الأمن التوصل إلى أبناء المرحوم ونقلوا لهم نبأ وفاة والدهم و الذين اخبروا رجال الأمن بدورهم أن والدهم كان يعاني منذ زمن من مشاكل في القلب ،
وأخلى رجال الأمن سبيل خالد الذي كان منهارا مما حل به من مصائب متتالية، واعتذر منه أبناء المرحوم وأخبروه بأن هذه اجراءات روتينية ليتأكدوا أنه لا علاقة له بوفاة والدهم ، و سألوه كم يريد أجرة مقابل توصيل والدهم رحمه الله.
قال خالد بحزن : الله يسامحكم ولا أريد متكم أي أجرة ، أريد فقط أن أعود لحجرتي و عملي وأرتاح.
سأل ابن المتوفي : حسنا ، نحن لن نضغط عليك ولكن ألم يطلب منك والدي شيء الم يبلغك يشيء لتخبرنا به؟
أجاب خالد : لا والله ولكن أعطاني ورقة مكتوب عليها عنوان وطلب مني أن أوصله إليه، والورقة لا تزال معي في السيارة ، هل احضرها لكم.
قالوا له : لا لاداعي لذلك ، أرجوك سامحنا مرة أخرى يجب أن نذهب الآن فلدينا إجراءات طويلة ، علينا إحضار جثة والدنا من الطب الشرعي و تغسيله ودفنه وتجهيز بيت العزاء له.
سلم عليهم وخالد و خرج من المركز الأمني متجها إلى سيارته ، جلس في سيارته وأخذ نفسا عميقا وحمد الله على أن مرت هذه المحنة عليه بسلام.
و انطلق خالد بسيارته فرحا عائدا إلى مدينة الرياض ،وفي خلال الطريق تذكر فجأه شيئا، لقد نسي أن حقيية الرجل العجوز وصرته في صندوق السيارة.
ضرب بيديه على رأسه قائلا لنفسه : لا حول ولا قوة إلا بالله ، بعد كل هذه المسافة يجب أن أعود إلى مركز الشرطة لأعيد أغراض المرحوم، ولكن أخاف أن اتورط مع الشرطة ويقوموا بحجزي من جديد حتى يتأكدوا من أغراض الرجل العجوز،من الأفضل أن أذهب إلى عنوان أبنته المدون على الورقة وأسلمها أغراض والدها وأعود إلى بيتي.
و بعد مدة من البحث وصل إلى العنوان وسأل عن ابنة الرجل العجوز ولكنه لم يجدها في البيت لأنها عند اخويها لحضور مراسم عزاء والدها.
قال خالد لنفسه بما أنني هنا الآن ، لماذا لا أذهب أنا أيضا إلى عزاء الرجل المسكين رحمه الله وأعود لاحقا لإعطائهم الأمانة.
سأل عن العنوان وذهب إليه فإذا هم يريدون أن يصلوا على المرحوم ، صلى مع الجماعة عليه و حضر الدفن وذهب مع المعزين إلى خيمة كبيرة يستقبلون فيها المعزين .
لاحظ أولاد المرحوم وجود خالد بين المعزين فرحبوا به وشكروه على حضوره وقدروا له حضوره للجنازة ومشاركتهم الصلاة على والدهم رغم تعبه وانشغاله.
خجل خالد أن يفتح موضوع حقيبة المرحوم في هذا الوقت ، ولكنه يجب أن يعود لمدينته ليرى ماذا حدث عليه بالنسبة لوظيفته وليطمئن اطفاله ، ولكنه لا يستطيع فعل أي شيء حتى يطمئن أن الأمانة وصلت إلى أصحابها فقرر أن يعود في اليوم التالي.
خرج خالد من العزاء وكان يجول في خاطره كلام العجوز الذي أراد الذهاب إلى بيت ابنته ، لماذا لم يرد المرحوم الذهاب لبيت أحد ولديه؟ هل أرادها بموضوع خاص ، وهنا خطر في بال خالد أنه يجب أن يسلم أغراض المرحوم في حضور ابنته ، ظنا منه أن هذه ستكون رغبة العجوز المسكين، ولكن خلال أيام العزاء لن يكون فتح هذا الموضوع ممكنا ، خصوصا وأن مكان العزاء يعج بالمعزين ، لذلك ذهب خالد واستأجر غرفة لمدة يومين في نفس الحي الذي يقيمون به .
في اليوم الثاني للعزاء عاد خالد إليهم مرة أخرى وجلس مع المعزين ، ولاحظ نظرات الإستغراب في عيون إبني المرحوم لكنه لم ينبس ببنت شفة وغادر عائدا إلى غرفته .
و في اليوم الثالث للعزاء جلس خالد بين المعزين وبقى في مكانه حتى المساء ، ومازالت نظرات الإستهجان تتجه نحوه من ابني المرحوم ، لكنه تجاهلها حتى يحين الوقت المناسب ، وعندما خرح آخر المعزين من المجلس ، توجه إليه أحد ابني المرحوم ، سلم عليه و رحب به ثم أردف قائلا : اعذرني يا أخي ولكنني مستغرب من مكوثك في البلدة طوال أيام العزاء رغم أنك كنت على عجلة من أمرك للعودة إلى مدينتك ، هل تريد شيئا ، هل تريد أن نعطيك أجرتك التي رفضت أن تأخذها سابقا وتستحي أن تقول ؟ أخبرني أرجوك .
أجاب خالد بهدوء بابتسامة لطيفة على فضول الشاب قائلا : بالحقيقة يا أخي أنا لدي ما أقوله لكم ولكن بالبداية أريدكم أن تحضروا أختكم لأتكلم معكم أمامها ، استغرب الشاب من طلب خالد وسأله : لماذا تريد أن تكون أختنا معنا ، وما علاقتها بما تريد أن تقوله ؟
قال خالد : لأن والدك رحمه الله كان يريد أن يذهب إلى بيتها ،و معي أغراضه في سيارتي و من هول المصيبة التي حلت على رأسي كما تعلم ، نسيت موضوع الحقيبة والصرة تماما ، و لكن أرجوك أن تحضر أختك لتستلموا مني أغراض والدكم رحمه الله ، والله لا أريد منكم شيئا ، إلا أن أزيل هذا الحمل الثقيل عن ظهري لكي أستطيع العودة إلى مدينتي وأولادي وأنا مرتاح.
ذهب الشاب وأخبر أخاه بما دار بينه وبين خالد من حديث ، قدر الأخوان موقف خالد و أمانته و أرسلوا بطلب شقيقتهم ، و عندما حضرت جلسوا جميعا في المجلس و استأذن خالد ليذهب إلى سيارته وعاد حاملا في يده حقيبة صغيرة وصرة ملابس ، وجلس أمامهم وقال : هذه الصرة فيها ملابس كما هو ظاهر ولكن هذه الحقيبة يشهد الله أني لم أفتحها وهذه أمانة ويجب أن تصل لأصحابها كما أراد صاحبها وهو أراد أن أوصله إلى بيت ابنته ، تفضلي يا أختي استلمي أغراض والدك افتحيها وتأكدي منها حتى أكون قد برأت ذمتى و أمضي بسلام .
أخذت ابنة الرجل العجوز الحقيبة وفتحتها أمام أخويها وخالد ، وإذا بها مليئة بأوراق صكوك ملكيات الأراضي التي يملكها المرحوم بالإضافة إلى ثلاثة مليون ريال ومجموعة من الساعات الثمينة .
انصدم الأبناء من هول المنظر ، فهم كانوا يعلمون أن والدهم يملك بعض الأراضي ولكنه كان رجلا كتوما لم يخبرهم ابدا بتفاصيل ما يملك وكميته .
قاطع خالد هذا الإستغراب قائلا : الحمد لله ، الأمانة وصلت لكم و سامحوني إذا بدى مني ما يزعجكم .
قال له أحد الأخوين : انتظر يا أخي ، خذ هذه الخمسة آلاف ريال هدية منا لك.
رفض خالد بإصرار وأخبرهم أن ما عمله هو واجبه و هو ما يمليه عليه دينه وضميره من ايصال الأمانه إلى أهلها .
و فجأة وقفت الأخت و أخذت تصرخ في وجه أخويها قائلة : تعالوا إلى الداخل الآن وانتظر يا أخي هنا قليلا ولا تذهب حتى نعود.
دخل الثلاثة إلى غرفة في المنزل وتركوا خالد وحيدا في المجلس قلقا لا يعلم ماذا يحدث.
وفي الغرفة المجاورة سأل الأخ أخته : ماذا حدث لماذا هذا الغضب والصراخ يا أختاه ؟
قالت الأخت : ألا تخجلون من أنفسكم ، ألا تستحي يا أخي ؟ لقد أحضر الرجل لكم ثلاثة ملايين ريال وصكوك لأراضي بالملايين وتمد أنت يدك له بخمسة آلاف ريال . والله لو كان رجلا آخر لأخذ المبلغ الكاش له وأعطانا الصكوك حتى لا ينكشف ولكنه رجل أمين أوصل لنا حقنا كاملا ولم يفتح الحقيبة ليرى ما بداخلها ، والله لا أهدأ حتى يخرج من عندنا راضيا سعيدا وإذا كنتم لا تريدون أن تعطوه من مالكم أعطوه من حصتي . أجابها أخوها قائلا : بالعكس يا أختي يسعدنا أن نعطيه من مالنا جميعا .
خرج الثلاثة من الغرفة واتجهوا إلى خالد الذي تملكه القلق و الخوف مما يجري .
أخذ الأخ الكبير خمسمئة ألف ريال وأعطاها لخالد وقال له لن تذهب حتى تقبل منا هذا المال و مد يده إلى الصكوك وأخرج صكا لقطعة أرض في الرياض وناولها لخالد قائلا له : جزاك الله كل خير على أمانتك و هذا مما أعطاك الله ليس لنا فيه منة عليك .
أمسك خالد بالمال والصك بيديه و هو مذهول مما يرى ويسمع ، إنه لا يستطيع أن يصدق ، شكرهم على كرمهم و التف عائدا إلى سيارته المهترئة والدموع تنهمر على وجنتيه كالمطر ، يااا الله ، ما أعظم تدبيرك يا الله . يااا الله لك الحمد الكثير على عطائك .
سبحان الله مدبر الأمور ، حقا من يدبر هذا الكون الشاسع بما فيه لن يعجز عن تدبير أمري وأمرك ولكن الله سبحانه وتعالى يختبرنا ويمتحننا ويرى مدى صبرنا ويجزينا خير الجزاء ويقودنا إلى الفرج والسعادة عبر طريق الألم والمعاناة ، كل ما علينا فعله هو الصبر وعدم اليأس و الإتكال عليه وحده ، كن مع الله ولا تبالي وسوف يكون الله معك في كل وقت وفي كل كرب .
بلمحة بصر أصبح خالد يملك نصف مليون ريال وقطعة أرض في أفضل أماكن مدينة الرياض، وبمجرد وصوله إلى الرياض ذهب يبحث عن منزل جميل ، اشتراه بأربعمئة ألف ريال ، وفرشه بمئة ألف وقام بتسجيله بإسم اولاده ، وأرسل الصك إلى طليقته، حتى تسكن مع أبناءها في هذا البيت ، و قام ببيع قطعة الأرض بمليون ريال ،اشترى بجزء منه لنفسه بيتا صغيرا ليعيش به ، و استثمر الباقي بافتتاح مؤسسة في مدينة الرياض يعمل بها الآن عشرات من الموظفين ، وفقه الله و أصبحت مؤسسته من أكبر وأنجح المؤسسات في المملكة العربية السعودية.
حاولت طليقته أن تقنعه بالعودة لها ولكنه قال : لا استطيع الرجوع إليك فمن تركني وأنا في أمس الحاجة له لا أستطيع أن أعود إليه بوقت الرخاء، و تزوج خالد بامرأة لطيفة و رزقه الله منها بأطفال وهو الآن من رجال الأعمال المرموقين ويعيش في سعادة وهناء من فضل الله وكرمه .