
فتاه من حي الزمالك
بقلم د.أميره أبوبكر سالم
في القاهرة الصاخبة، عام 2015، حيث تختلط زحمة الشوارع بأصوات الأمل والترف، وفي قلب حي الزمالك الراقي، كانت ليلى تعيش حياتها كظل باهت، تتحرك بصمت في زوايا غرف شقتها المتواضعة، تخشى أن تشغل حيزًا أكبر مما يسمح به الآخرون. لم تكن ترى قيمتها في عينيها، بل في انعكاسها على وجوه من حولها. كلما تلوح وحشة الوحدة، تمد يدها بلهفة لأي طوق نجاة، لكنها كانت تكتشف في كل مرة أنها لا تلوذ إلا بيد قابضة، خادعة، أو مهملة. قلبها، يا له من وعاء مثقوب، يسعى للاحتواء فلا يجد إلا الاستغلال.
توهمت ليلى أن السعادة تكمن في وجود الآخرين حولها، فتشبثت بكل خيط، حتى لو كان واهيًا. كانت أولى تلك الخيبات الموجعة مع صديقتها المقربة، "مها"، التي تعرفت عليها في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. في البداية، كانتا تتقاسمان الأسرار والضحكات الصاخبة في مقهى الجامعة الصغير. لكن سرعان ما بدأت طباع مها الحقيقية تتجلى كظل طويل. "ليلى، هذا الفستان لا يناسبكِ أبدًا، يجعلكِ تبدين أكبر من عمركِ بكثير،" قالت مها ذات يوم، وهي تقلب شفتيها بازدراء، بينما كانت ليلى تجرب فستانًا أعجبها في أحد محلات وسط البلد. "فكرة مشروعكِ هذه سخيفة جدًا يا ليلى، لن تنجحي فيها أبدًا، أنتِ درامية جدًا على الإطلاق،" هكذا كانت كلمات مها تتكرر، تزرع بذور الشك، وتحول آراء ليلى ومشاعرها إلى نكتة أمام صديقات أخريات. كانت ليلى تتألم، تشعر بلسعات باردة في قلبها، لكنها كانت تخشى أن تفقد الصديقة الوحيدة التي تملكها، فابتسمت ابتسامة باهتة، وتوارت في صمتها، تاركةً صوتها الداخلي يتلاشى.
بعد سنوات من هذا الاستنزاف الخفي، وتحديدًا في أواخر عام 2017، دخل حياتها "كريم"، الرجل الساحر بكلماته المعسولة ووعوده الرنانة. في البداية، كان فارس الأحلام الذي أنقذها من وحدتها. أغدق عليها المديح والاهتمام، وأشعرها بأنها مركز عالمه. "أنتِ الوحيدة التي تفهمني يا ليلى، أنتِ نادرة، لم أقابل مثلكِ قط." قالها لها ذات أمسية رومانسية في مركب على النيل، وشعر قلب ليلى بفرحة غامرة، كأنها اكتشفت كنزًا. لكن هذا الاهتمام سرعان ما تحول إلى سيطرة خانقة. "مع من كنتِ تتحدثين في الهاتف؟" يسألها بغضب إذا تأخرت في الرد على مكالماته أثناء وجودها في عملها كمسؤولة علاقات عامة. "لا تخرجي مع صديقاتكِ اليوم، أريدكِ أن تبقي معي فقط،" يفرض عليها قيودًا، ثم يحول نفسه إلى ضحية إذا أبدت اعتراضًا. ذات مرة، عندما حاولت التعبير عن رأي مخالف في خططه للمستقبل، صرخ فيها: "كيف يمكنكِ أن تقولي ذلك بعد كل ما فعلته لأجلكِ؟ أنتِ تظلميني يا ليلى! أنتِ لا تقدرين تضحياتي!" كانت كلماته تتسلل إلى أعماق روحها، فتجد نفسها تعتذر مرارًا، حتى على أشياء لم ترتكبها. عاشت ليلى في دوامة من الشعور بالذنب والظلم، محاولةً إرضاء كريم الذي كان يتقن فن التلاعب بمشاعرها، ليجعلها تشعر أنها المخطئة دائمًا، وأن عليه أن يسيطر ليحميها من نفسها.
وبعد انتهاء تلك العلاقة المؤذية التي تركتها منهكة ومكسورة في منتصف عام 2020، وجدت ليلى نفسها في دوامة أخرى، هذه المرة مع "وجيه". كان وجيه يبدو الملاذ الآمن الذي تحتاجه بعد كل تلك التجارب المريرة. كان يستمع إليها باهتمام بالغ في مقاهي المعادي الهادئة، وعيناه تفيضان حنانًا. في إحدى الأمسيات الشتوية، وهي تبكي على كتفه بعد يوم عمل مرهق، قال لها بصوت رقيق: "أنتِ تستحقين كل الحب والتقدير يا ليلى، وسأمنحكِ إياه، لن تدعي الوحدة تجرفكِ بعد اليوم." كانت ليلى متعطشة لهذا الاحتواء، فتشبثت به بكل كيانها، تظنه منقذها. لم تدرك أن هذا الحنان كان قناعًا يخفي وراءه مآرب أخرى. كان وجيه يرى فيها فرصة لتحقيق مكاسب شخصية، سواء كانت مادية أو اجتماعية. استغل طيبتها وعطشها للعاطفة، في استنزفها عاطفيًا وربما ماديًا بطرق خفية. وعندما نال ما يريد، تحول فجأة إلى شخص بارد، غريب الأطوار، وكأنه لم يعرفها قط. انسحب فجأة من حياتها في ربيع 2023 تاركًا إياها في صدمة عميقة، تشعر بالاستغفال، بالضحك عليها، بوحدة مضاعفة، كأنها في غرفة زجاجية لا يسمع فيها صوتها ولا تُرى فيها مشاعرها.
في ليلة صيفية خانقة من عام 2023، بعد انهيار عاطفي كامل تركها ترتجف على الأرض الباردة في شقتها شبه المظلمة، لم تستطع ليلى النهوض. زحفت ببطء نحو المرآة المعلقة على الحائط المقابل لسريرها. لم ترَ فيها وجهها الشاحب والمنهك فحسب، بل رأت سرابًا، صورة لشخص ينتظر الخلاص من الخارج، شخص لا يملك زمام أمره. همست لها روحها المتعبة، من أعماق كيانها المكسور، بصوت يكاد لا يسمع: "كفى يا ليلى... المفتاح ليس لديهم، بل لديك أنتِ." كانت تلك الشرارة الأولى، نقطة التحول التي ستغير مجرى حياتها إلى الأبد.
لم يكن الطريق سهلًا. بدأت ليلى رحلة اكتشاف الذات، وهي رحلة لم تخطط لها يومًا. توقفت عن مطاردة الآخرين والبحث عن القبول في عيونهم. بدأت في قضاء الوقت مع نفسها، تستكشف ما تحبه وما يجعلها سعيدة حقًا، بعيدًا عن توقعات أي شخص آخر. وجدت عزاءها في الرسم، حيث كانت ألوانها تعبر عن مشاعر لم تستطع الكلمات وصفها. بدأت في كتابة يومياتها، تسجل فيها أفكارها ومخاوفها وأحلامها، وهي عملية ساعدتها على فهم نفسها بشكل أعمق.
تعلمت ليلى أن تحتفي بإنجازاتها الصغيرة، مهما بدت تافهة للآخرين. كانت تثني على نفسها، تقدر صمودها، وتثق بحدسها الذي لطالما تجاهلته. تخلصت من فكرة أنها "ناقصة" بدون وجود الآخرين، وبدأت تشعر بالاكتفاء من داخلها، كسعادة تنبع من بئر لا ينضب. أصبح "لا" كلمة قوية تحمي بها حدودها، تحمي بها طاقتها، وتحمي بها ذاتها من أي محاولة استغلال جديدة. أدركت أن قوة الأنوثة الكامنة بداخلها لا تكمن في الجمال الخارجي أو في جذب الآخرين، بل في احتضان ذاتها وعالمها، في قدرتها على التسامح مع نفسها وحبها غير المشروط.
علاقات من نوع آخر: السلام الحقيقي وإشراقة جديدة
ومع هذا التحول الداخلي العميق، لم تعد ليلى تنتظر المدح أو الإطراء من أحد، لأنها كانت تثق بنفسها حقًا. لم تعد تنتظر التقدير، لأنها أصبحت تقدر ذاتها بكل ما فيها من قوة وضعف. لم تعد تبحث عن الاحتواء من الخارج، لأنها كانت محتوية ومحبة لذاتها وللعالم أجمع.
لقد تعلمت ليلى أن تتعامل مع من يشبهها حقًا، مع الأرواح الصادقة التي تحمل بداخلها ذات التقدير لذاتها وللآخرين. أصبحت عيناها ترى بوضوح، قادرة على تمييز الأصالة من الزيف. لم تعد تقع فريسة الكلمات المعسولة والوعود البراقة. بل أصبحت تبحث عن العلاقات التي تبنى على الاحترام المتبادل، والتقدير الصادق، والحب غير المشروط. لم تعد تجذب إليها من يستنزفها عاطفيًا أو ماديًا، بل أصبحت تنجذب، وتنجذب إليها، العلاقات الهادئة والمريحة التي تقوم على التوازن، العطاء المتبادل دون قيود أو حسابات، والنمو المشترك.
شاهد التغيير فيها كان مذهلاً، وكأن حجابًا أزيح عن عيونها وروحها. لم تعد ليلى تلك الفتاة ذات الأكتاف المنحنية والرأس المنخفض. الآن، كانت تمشي بظهر مستقيم، كتفين مفرودين، ورأس مرفوع بثقة، وخطواتها ثابتة هادئة كأنها تملك الأرض التي تمشي عليها. اختفت علامات القلق الدائم من وجهها، وحلت محلها ابتسامة حقيقية وإشراقة رضا، وعيناها تلمعان ببريق من الوعي، تلتقيان بالآخرين بثبات وهدوء دون أي تردد. كانت تختار ملابس تعكس شخصيتها الواثقة والمريحة، لا تتبع الموضة بل ما يجعلها تشعر بالقوة والجمال من الداخل. صوتها لم يعد خافتًا أو مترددًا، بل أصبح أكثر وضوحًا وثباتًا، ونبرتها تعكس الهدوء حتى عندما تعبر عن رأي مخالف. أصبحت ليلى تبادر بالحديث، وتشارك أفكارها بوضوح، فلم يعد لديها حاجة لإثبات نفسها، بل رغبة في مشاركة ذاتها الحقيقية.
اكتشفت ليلى أن السعادة الحقيقية ليست في الامتلاك أو السيطرة، بل في الحرية من القيود، وفي الشعور بالأمان الداخلي الذي ينعكس على كل علاقاتها. تدفقت المحبة والتقدير والاحتواء إليها من كل صوب، ليس لأنها سعت إليه، بل لأنه انعكاس لما أصبحت عليه. لقد أدركت ليلى أخيرًا أن سرها الأعظم يكمن في مكان واحد: في قلبها. في احترامها لذاتها، في إيمانها بأنها اللغز وهي المفتاح في آن واحد. وأن كل ما تحتاجه هو إيمان قلبي وتصديق عقلي بأنها تستحق السعادة والسلام الذي سكنها أخيرًا. لكن هل تستطيع ليلى الحفاظ على هذا السلام في عالم لا يتوقف عن اختبارها، أم أن تحديات جديدة ستظهر لتكشف عن قوة ثباتها الحقيقية في حي الزمالك الذي لا ينام؟