جسر من شيكولاته

جسر من شيكولاته

1 reviews

جسر من شوكولاتة

كانت راجية تجلس كل مساء على شرفة منزلها المطلة على الأفق البعيد، حيث تلتقي زرقة السماء بضبابية الأرض. لم يكن الأفق هو ما تراه حقًا، بل كانت ترى هناك، في مخيلتها، بحيرة واسعة، يمتد فوقها جسر خشبي بني اللون، يلمع أحيانًا كالشوكولاتة المصقولة، ويختفي أحيانًا أخرى وكأنه مجرد سراب. وعدٌ قطعه دياب، حبيبها البعيد، أن هذا الجسر سيجمعهما مهما باعدت المسافات. "سأبني لك جسراً يوصل قلبك بقلبي، حلواً وجميلاً كحبنا، لتعبري إليّ متى شئتِ، ولن يرى أحد غيرك هذا الجسر، فقط أنتِ" هكذا قال ذات يوم، بصوت يحمل نبرة اليقين التي أسرت قلبها، ولكنها زرعت في نفسها بذرة صغيرة من التساؤل

في البداية، كانت كلمات دياب كقطع شوكولاتة فاخرة، تذوب في قلب راجية حلاوة وأملاً. كانت تتذكر تفاصيل مكالماتهما، الضحكات التي تبادلاها، وكل وعد بنهاية البعد. كانت ترى الجسر في مخيلتها يرتفع، لبنة بعد لبنة، مصنوعاً من خشب بني يلمع كالشوكولاتة تحت أشعة شمس الأمل. أحيانًا، كانت تشعر كأن الجسر يناديها، صوت خافت يهمس لها بالعبور، "تعالي يا راجية... تعالي". لكنها كانت تتجاهله، تنتظر أن يأتي دياب ليصحبها، أو تخشى أن مظهره الخادع يخفي هشاشة لم تكن مستعدة لمواجهتها.

ضغوط المجتمع وثمن الانتظار

لم تكن راجية في معزل عن العالم. كانت أقوال أهلها وجيرانها تتسلل إلى أسماعها مع كل مناسبة اجتماعية: "متى نفرح بك يا راجية؟"، "العمر يمضي، وفرص الزواج لا تنتظر!". كانت نظرات الشفقة أحيانًا، واللوم أحيانًا أخرى، تلاحقها. تارة تتهم نفسها بالغباء لتعلقها بوهم، وتارة أخرى تتهم دياب بالخيانة لإبقائها معلقة. لم يكن دياب يدرك كم كان هذا الانتظار مكلفًا لراجية؛ ليس فقط على المستوى العاطفي، بل على المستوى الاجتماعي والشخصي. لقد ضحت بفرص لقاءات وزيجات محتملة، وبتكوين أسرة، وبتقدم في حياتها المهنية، كل ذلك من أجل وعد لم يتجسد قط.

مرت الأيام، تتبدل فيها فصول السنة كصفحات متقلبة في كتاب الانتظار. الزهور تتفتح ثم تذبل، والأوراق تتساقط ثم تنبت من جديد، بينما كلمات دياب بدأت تصبح باهتة، وعوده مكررة بلا فعل. "قريباً يا حبيبتي، هذا الجسر سينتهي، وسنلتقي." كان يقولها، لكن المسافة بينهما لم تزد إلا اتساعاً. الغريب أن الجسر كان يظهر لها أحيانًا بقطع مفقودة، ثم يعود سليماً في يوم آخر، كأنه يتلاعب بعقلها. وحين سألت صديقتها عنها، لم تفهم الصديقة عن أي جسر تتحدث، مما زرع الشك في ذاكرة راجية نفسها. جسر الشوكولاتة الخشبي بدا وكأنه يتآكل ببطء في مخيلتها، كل وعد لم يتحقق كان كقطعة تنهار منه، لتختفي في مياه البحيرة الغامضة.

بدأت الأسئلة تتصارع في عقل راجية. هل ما زال دياب يتذكرها حقاً؟ هل ما زال يحبها بنفس الشغف؟ أصبحت تشك في ذاكرتها، هل كان ذلك الوعد حقيقياً بهذا القدر؟ أم أنها خلقت الجسر بنفسها من فرط أملها؟ أحيانًا كانت تخلط بين مكالماته القديمة ورسائله الأخيرة الباردة، مما زاد من ضياعها. أصبحت تكاد تنسى آخر كلمة حقيقية سمعتها منه، آخر وعد يحمل في طياته بصيص أمل. شعرت بأنها متمسكة بخيط واهٍ، بـجسر خشبي هش بني من لا شيء، يزداد طوله في مخيلتها، بينما يزداد وهنه وحقيرته في الواقع. كانت ترى صوراً متقطعة لدياب في حياته البعيدة، منشغلاً بأمور أخرى، وكأن وجودها مجرد فكرة جميلة يحتفظ بها، لا رغبة حقيقية في تجسيدها. وقبل أسابيع قليلة، وصلتها رسالة غريبة من رقم مجهول: "الجسر ليس من أجلك وحدك." ثم اختفت الرسالة من هاتفها، تاركة وراءها شعورًا مزعجًا بالخيانة والغموض.

نقطة التحول والانهيار

في إحدى الليالي الباردة، عندما كانت النجوم تتلألأ كعيون ساهرة في السماء، أدركت راجية الحقيقة المؤلمة. دياب لم يتغير؛ لقد تكيف مع هذا البعد وأنس به. هو لا يريد أن يقترب، ولكنه في الوقت نفسه لا يريد أن يأخذها غيره. يريد أن يمتلكها كفكرة، كاحتياطي، دون أن يبذل أي جهد. هذا الإدراك كان كنصل بارد اخترق قلبها، لكنه حررها من وهم كانت تعيشه. الجسر لم يكن يوماً ليعبر عليه أحد؛ كان مجرد أداة للسيطرة عن بعد، رمزاً لحب لم يكتمل، لأنه لم يقم على أساس صلب.

شعور بالاستنزاف العاطفي والنفسي تفاقم داخلها، دفعها نحو نقطة اللاعودة. لم تعد تستطيع حمل ثقل هذا الوهم. وفي صباح اليوم التالي، اتخذت قرارها. توجهت نحو البحيرة في مخيلتها، حيث كان يمتد ذلك الجسر الخشبي الذي يشبه الشوكولاتة. لم تكن هذه المرة لتقف على الشرفة وتتأمله من بعيد. بل اقتربت، خطوة بخطوة، حتى وصلت إلى الحافة. وقفت أمام الجسر الذي لطالما حلمت به، وتأملت قطعه البنية المتآكلة. كان يوماً مشمساً، والجسر بدا وكأن طبقة الشوكولاتة التي تغطيه تذوب تحت أشعة الشمس الوهمية.

لم تمد راجية يدها لتحاول العبور. لم تعد ترغب في ذلك. لكنها، وفي لحظة إدراك صافية ومريرة، مدت يدها فقط لتلمس أول قطعة منه، وكأنها تودعه. في تلك اللحظة بالذات، وبصوت خافت يشبه تكسر الشوكولاتة الهشة، انهار الجسر بالكامل أمام عينيها. لم يكن الانهيار بفعل لمستها، بل لأن أساسه كان وهماً من البداية. سقطت قطعه الخشبية الواحدة تلو الأخرى في مياه البحيرة المتدفقة، ليختفي بلا أثر، تاركة خلفها سطح الماء صافياً كمرآة تعكس سماء خالية من أي جسور. في تلك اللحظة، رأت راجية انعكاس صورتها في الماء، ابتسامة هادئة تعلو وجهها، وبعيدًا، لمحت ظلًا عابرًا يختفي بين الأشجار، كأنه دياب، وكأن سر الجسر قد انحل أخيرًا.

التحرر والبداية الجديدة

أغمضت راجية عينيها، وتنفست الصعداء. شعور بالتحرر ممزوج بألم طفيف خفق في صدرها. كان ألم فقدان ما اعتقدت أنه حب، لكنه كان أيضاً تحررًا من عبء الانتظار، ومن وهم كاد أن يستنزف روحها. ابتسمت راجية ابتسامة خفيفة، وفتحت عينيها لتنظر إلى الأفق الحقيقي هذه المرة. لم يعد هناك جسر يربطها بشيء واهٍ. لقد استعادت ذاتها، وأصبحت قادرة على السير على أرض صلبة، نحو مستقبل خالٍ من الأوهام. علمت أن القرب الحقيقي لا يحتاج إلى جسور هشة، بل إلى أرض صلبة من الالتزام والمودة، وهو ما لم يجده قلبها في دياب أبداً. لم يعد يهمها ما سيقوله المجتمع، فقد دفعت ثمن انتظارها غالياً، والآن جاء وقت حصاد السلام الداخلي.

 

 

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

2

followings

4

followings

1

similar articles