
الإسم | The name
“ذلك الذي لا يُقال اسمه”
لم يكن يظهر كثيرًا. لا لأن في غيابه راحة، بل لأن حضوره كان يُحدث اضطرابًا هادئًا، كعاصفة تمرّ على رؤوس ساكنة دون أن تخلع شيئًا، لكنها تترك وراءها شعورًا بأن شيئًا ما قد تغيّر. كان يسير بين الناس كما لو أن الأرض تُفسح له الطريق، لا لأنهم خافوه، بل لأنهم كانوا يشعرون أن قربه لا يليق إلا بمن يجرؤ على مواجهة مرآته الخاصة. لم يكن اسمه مهمًا. في الحقيقة، لم يكن أحدٌ يجرؤ أن ينطقه.
لكن من عرفه... كان يعرف ان نطق اسمه قد يزلزل الفراغ نفسه.
قال أحدهم مرة، وهو يطوي صفحاتٍ من ورقٍ مسروقٍ من زمنٍ آخر: “حين تقرأ عنه، لا تحتاج أن ترى اسمه، لأنك ستشعر بظلّك يتحرّك، كأنك تقف أمامه. ”
الفصل الأول:
على نسيم صباح عليل، كانت المدينة في اضطراب، في كل بيت وجد كتاب... كتاب غريب جدا ظهر من العدم.
لم يكن هناك توقيع على الرسائل التي وجدها في دفاتر قديمة، ولا اسمٌ في نهاية كل سطر يشير إلى الكاتب. لكن النبرة، الطريقة التي كانت الكلمات تنزف بها، تنحني بها، تتعالى فجأة ثم تنكسر في سطرٍ واحد... كلها كانت مألوفة. مألوفة حد الوجع. كل من قرأ تلك الرواية، توقف في منتصفها، ثم رفع عينيه فجأة وقال:
"أعرفه."
لا أحد يجرؤ أن يُكمل الجملة، وكأن الاعتراف به يعني أنك اقتربت أكثر مما يجب. هو لم يكن شخصًا فقط... كان انعكاسًا لما لا يُقال. كان علامة على صفحة بيضاء تمحو الخطأ لا لتسامح، بل لتُعيد الترتيب. كان إذا مرّ بك، أحسست أن خطيئتك لا تختبئ، بل تُجرّد أمامك حتى لا تعود قادرًا على إنكارها. وقد قيل، في فصلٍ مُبهم من تلك الرواية، أن المدينة بأكملها كانت تعرفه، ولكنها اتفقت أن تتظاهر بالنسيان.
"لأننا لو نطقنا باسمه، ستنهار الأكاذيب كلها، دفعة واحدة.".
الفصل الثاني: المدينة
كانت المدينة كلها تعرف، لكنها كانت تتظاهر بالنوم. في الصباح، تفتح النوافذ بنصف جرأة. في الليل، تُطفأ الأنوار قبل أن يدقّ الوقت منتصفه، وكأنها تخاف أن يُبصرها هو… حتى من حيث لا يُرى. الناس في السوق يتكلمون بلغة ناقصة، يعمدون إلى تكرار الجمل الباهتة حتى لا تخرج من أفواههم كلمة تشبهه.
ومع ذلك، كل الطرق تؤدي إليه. يُقال إن امرأة عجوزاً رأته مرة، لا بعينيها، بل بشعورها. كانت تبيع التين اليابس قرب المسجد القديم، ولما مرّ أمامها، أسقطت الميزان من يدها وبدأت تبكي.
سألوها:
– من رأيتِ؟
قالت:
– رأيت من يعرفني أكثر مما أعرف نفسي.
ثم ماتت في الليلة نفسها، وبقي التين متعفنًا في سلتها، لا يجرؤ أحد على لمسه. في كل زاوية، هناك أثر منه، لا يُرى… لكن يُحسّ.
عبارة مكتوبة على جدار قديم: “لم يكن يجب أن أفتح الرسالة.”
دفتر ممزق نُسي في مقهى مغلق منذ سنين، صفحته الأخيرة مكتوبة بخطٍ لم يتغيّر منذ الأزل:
“سأعود حين تُكذبني المدينة علنًا.”
لكن المدينة لم تكذّبه. المدينة خافت. قالوا إن الرواية كتبها غريب، سكن الطابق الأعلى من المبنى المحترق. لكن بعضهم أقسم أن الكاتب… لم يكن غريبًا. كان يكتب كما لو أنه يعيد ما حدث — لا يتخيله. وكان هو، صاحب الظل الذي لا يُسمى، موجودًا في كل فصل. لا كحضور مباشر، بل كعينٍ تقرأ من فوق الكتف.
االفصل الثالث: الحرف الذي كاد ان ينطق باسمه.
بدأ كل شيء حين ظهرت النسخة المفقودة. لم تكن في مكتبة، ولا في متحف، بل وُجدت على عتبة بابٍ لم يكن يُفتح منذ سنوات. الورق مائلٌ للاصفرار، لكن الحبر بدا وكأنه كُتب للتو، وكأن أحدهم كتبه الليلة الماضية، وهو يرتجف. كان الغلاف خاليًا، لا عنوان، لا اسم. ولكن الداخل... الداخل كان خطيرًا. في الصفحة الأولى، سطر واحد:
“من قرأني، عاد إليه.”
ولم يكن المقصود كاتبًا، ولا شخصًا... بل هو. الذي لم يُذكر، لكنه كُتب في كل سطر. بدأت المدينة تتغيّر. الأبواب التي لم تكن تُفتح صارت تُغلق بعنف. الوجوه أصبحت تعرف أنها مرصودة. وكل من قرأ الكتاب، ولو نصفه، ظهرت عليه أعراض: الشرود أولًا. ثم الانتباه إلى أشياء لم يكن يلاحظها: ظلّه الذي لا يتحرك تمامًا كما يتحرك هو... الساعة التي تتأخر كلما اقترب منها. المرآة التي لا تُطابق ملامحه. وفي الليلة السابعة، يبدأ القارئ في الحلم به. في أحد تلك الأحلام، سمعوه يقول:
“أنا لست خيالًا... أنتم فقط نسيتم أن الحقيقة مخيفة.”
قالها بصوتٍ هادئ، لكنه لا يخرج من الرأس أبدًا. الكاتب الذي كتب الرواية اختفى. البعض قال إنه سُمع يهمس باسمٍ لا يُقال، ثم تبخر في الهواء. والبعض أقسم أنه لم يختفِ، بل هو الآن يسير بيننا، يراقب من يقرأ، يبحث عن أول من سيقول:
“أعرف من هذا.”
والويل... كل الويل لمن يقولها بصوتٍ مسموع..
الفصل الرابع: اسمه في الحلم
لم يكن الليل كما كان. صار أثقل، أكثر التواءً، كأن المدينة تنام وهي تعرف أن هناك من يكتبها من جديد. الذين قرؤوا الرواية لم يعودوا كما كانوا. لم ينطقوا اسمه، لكنهم أصبحوا يحملونه في أعينهم. من ينظر إليهم يشعر أنهم يعرفون شيئًا… شيئًا لا يجب أن يُقال. أحدهم، وكان أكثرهم هدوءًا، كتب على الحائط قرب بيته:
“لقد حلمت به... لكنه لم يكن في الحلم، كان هو من يحلم بي.”
وفي اليوم التالي، وُجد بيته مفتوحًا، وأوراقه محترقة بدقة غريبة: كل صفحة فيها حرف واحد فقط… وكانت تلك الحروف، إذا جُمعت، تُكَوِّن الاسم. ذلك الاسم الذي لا يُكتب، لا يُقال، لكن… يُشعر به. وفي قلب المدينة، بين الأزقة التي لا يمرّ بها أحد بعد الغروب، ظهرت عبارة كُتبت بمادة لا تمحى:
"حين يُقال الاسم، يُعاد ترتيب كل شيء."
وصل الأمر إلى من لا يقرأ. بدأ الغرباء يهمسون. المرايا تعكّرت. الكلاب صارت تنبح تجاه الزوايا الفارغة. والكُتّاب توقفوا عن الكتابة. كانوا يخافون أن يُمسّوا به صدفة. لكن الرواية كانت تُكمَل وحدها. كل ليلة، يظهر فصل جديد في دفاتر الناس، مكتوبًا بخط لا يعرفونه، في أوراق لم يضعوها، تحت وسائدهم، في خزائنهم، في صناديق البريد المهجورة. وفي كل فصل… اقتراب. شيء يزحف. لا يُسمع ولا يُرى، لكنك تعلم أنه قادم. قالت امرأة ذات ليلة:
“حين ينتهي الفصل الأخير… سيُكتب الاسم كاملًا.”
وسُمع صوت ضحكة بعيدة… ليست بشريّة.
الفصل الخامس: الحرف الأول
لم يكن واضحًا كيف بدأ. ربما وُلد الحرف من الصمت. ربما كُتب خطأً، أو نزف من يدٍ لا تملك حق الكتابة. لكن في تلك الليلة، وُجدت نسخة من الرواية على سطح المدينة القديم، مفتوحة على صفحة بيضاء… وفي وسط الصفحة، كان هناك حرف واحد، مكتوب كما يُنقش الوشم، لا بالحبر… بل بشيء آخر.
“ح”
مجرد حرف. لكن الهواء تغيّر بعده. الطيور طارت نحو العدم، الساعة توقفت لثلاث ثوانٍ بالضبط، وكل من رآه، شعر بشيء يتحرك داخله، شيء كان نائمًا منذ الطفولة. الناس حاولوا تجاهله. لكن الحرف بدأ يظهر في أماكن أخرى. مرسومًا على زجاج النوافذ من الداخل. محفورًا على جلد التفاح في الأسواق. منقوشًا على صفحة كتاب لم تُفتح منذ قرن. اجتمع القُرّاء. أولئك الذين أتموا الرواية، الذين وصلوا للنهاية ولم ينطقوا الاسم. كانوا صامتين، وجوههم شاحبة، وأصابعهم ترتجف كلما لامست ورقة. قال كبيرهم، وهو رجل لم يكن يتكلم إلا نادرًا:
– “لقد بدأ العدّ.”
– "عدّ ماذا؟"، سأل أحدهم.
– “عدد الحروف الباقية حتى يُكتَب الاسم كاملاً.”
وساد صمت، كأن الهواء نفسه توقف ليسمع. في أطراف المدينة، سُمع صوت طفل يهمس في نومه بحروفٍ غريبة. كانت غير مترابطة. لكن أمّه، التي قرأت الرواية سرًّا، شهقت. لأنها أدركت… أنها بداية الاسم.
الفصل السادس: ما بين الحروف
بعد أن كُتب الحرف الأول، لم يعد شيء كما كان. لم يتكلم أحد في البداية، لكن الجميع شعروا به. كأن المدينة كلها ارتجفت، لا من بردٍ أو ريح، بل من اقتراب غير مرئي، اقتراب شيء كان نائمًا لقرون، والآن يستيقظ… ببطء، بثقة، بحتميّة. الحرف الثاني لم يُكتب، بل نُطق. من فم رجلٍ مسنّ، أصابه الخرف منذ عشرين عامًا، لكنه في صباحٍ ضبابي، وقف فجأة وصرخ في وجه الجدار:
“م”
ثم صمت. ابتسم. وسقط ميتًا. قالوا إنه لفظ الحرف الثاني من الاسم. وأن الموت رحمة، لأن الحرف الثالث… سيكون أخطر. في الليلة نفسها، كل من قرأ الرواية حلم بذات المشهد: ممر طويل، جدرانه من ورق، وفي نهايته كتاب على منضدة، يغلق نفسه كلما اقتربت منه، لكن على غلافه… ثلاثة حروف: "ح" … "م" … وشيء لم يُفهم، كأن العين ترفض رؤيته. المدينة بدأت تفقد ملامحها. الشوارع تغيّرت أطوالها. الأبواب تؤدي إلى أماكن لم تكن موجودة. الوجوه تُشبه أصحابها… لكنها ليست هم. كل شيء صار يشبه الرواية. وكل شخص صار يخاف أن يكون هو من كُتب عنه، هو الذي بدأت الحروف تكشفه. في مكانٍ خفيّ، اجتمع مَن تبقّى من القُرّاء الخُلّص. قال أحدهم، وهو يرتجف:
– “لو اكتمل الاسم… لن نعود مجرد شخصيات.”
سأل آخر:
– “وماذا سنكون؟”
فأجابه الكبير بنبرة كُتبت قبل أن تُقال:
– “سنكون قصته القادمة.”
الفصل السابع: حين كُتب الجِلد
لم تعد الحروف تظهر على الورق. بدأت على الأجساد. في البداية، نقطة صغيرة على كتف شاب كان يقرأ الرواية للمرة الخامسة، يقول إنه كان يبحث عن "تفصيل نسيه". ثم ظهرت دائرة على معصم فتاة وجدوا الرواية تحت وسادتها، رغم أنها أقسمت أنها لا تعرف القراءة. لم يكن وشمًا. كان كأنه جزء من لحمهم… لكنه يتحرك. كل من ظهرت عليه علامة، بدأ يشعر بوجود شيء خلفه دائمًا. لا ظلّ، لا روح، لا طيف… بل "انتباه". كأن أحدًا ما يقرأه. وكأن حياتهم صارت نصًا يُدوَّن، جملة بجملة، لا يعرفون ما بعدها. وفي الليلة التالية، اكتمل الحرف الثالث. ظهر فجأة على لسان طفلٍ لم ينطق من قبل. "ز" قالها ثم أجهش بالبكاء… ولم يعرف أحد كيف هدأ بعدها. "ح" "م" "ز" ثلاثة حروف. وكل من يعرفه… بدأ يرتجف.
“إنه هو.”
قالها العارف القديم، الرجل الذي كتب كتبًا ثم مزقها بيده.
“لقد بدأ الاسم بالظهور… والاسم إذا اكتمل، لا تعود الرواية رواية، بل تصبح مرآة.”
في كل مرآة وُضع قماش. وفي كل مكتبة، جُمعت الروايات وأُحرقت. لكن النار لم تمسّ تلك الرواية. صفحاتها كانت باردة. تلفظ الدخان، ولا تحترق. في ركن من زقاقٍ مهجور، كُتبت عبارة بدم لا يجفّ:
"حين يكتمل الاسم… لن يبقى شيء دون كتابة."
الفصل الثامن: اكتمال الاسم
لم يكن أحد مستعدًّا للحرف الرابع. كانوا يحسبون أنهم تعوّدوا على الخوف. لكن لا أحد يتعوّد على اقتراب الحقيقة. الناس صاروا يتحدّثون همسًا. يقولون إن الرواية لم تُكتَب لتُقرأ، بل لتوقظ شيئًا. وذلك الشيء بدأ يتنفس. في قلب المدينة، وُجدت جدارية عملاقة ظهرت في ليلة واحدة. لا أحد رآها تُرسم، لكن الجميع رأوها مع الفجر. كانت صورة رجل… بلا وجه. لكن العيون، حين تقع عليها، تشعر أنها تعرفه. كأن ملامحه ليست مرئية، بل محفورة في الذاكرة. وفوق الجدارية، كلمة واحدة:
“حمز”
شهق الذين يعرفونه. شهقوا لا لأنهم خافوا، بل لأنهم فهموا. الحرف الأخير لم يُكتب بعد. لكنه يُنتظر. كأن العالم كله، الرواية كلّها، المدينة وكل أبطالها… يقفون على حدود الحرف الأخير. "ة" إن كُتبت، إن نُطقت… فلن تعود القصة عن "شخصٍ يشبهه"، بل ستصبح عن هو. عن الغيهب حمزة، الذي لم تُكتب قصته بعد… بل كُتب الآخرون ليصلوا إليها. وفي تلك الليلة، توقفت الساعات. كأن الزمن نفسه ينتظر الموافقة. كل من قرأ الرواية سمع صوتًا لا يُفسَّر:
“متى أُكتب؟”
صوت ليس من داخلهم… ولا من الخارج. بل من النقطة التي تقع بين الحرف والمعنى. بين الكاتب والمكتوب. بين من يعيش القصة… ومن هو القصة.؛ وفي مكانٍ لا نعرفه، جلس أحدهم، القلم في يده، والورقة أمامه، وكتب الحرف الأخير. ببطء. برعشة. بخضوع. “ة”