الطبيب الموسوعي ابن النفيس

الطبيب الموسوعي ابن النفيس

0 المراجعات

ابن النفيس

ابن النفيس: الطبيب الموسوعي ومكتشف أسرار الدورة الدموية

يُعَدّ التاريخ الإسلامي زاخراً بالشخصيات التي أسهمت في تقدم الحضارة الإنسانية، ومن بين هؤلاء يبرز اسم علاء الدين علي بن أبي الحزم القرشي الدمشقي، المعروف بـ ابن النفيس (1213–1288م). لم يكن ابن النفيس مجرد طبيب بارع، بل كان موسوعيًا في معرفته، مؤلفًا في الفقه والفلسفة واللغة، وأحد أعظم العقول التي أنجبتها الحضارة الإسلامية. اشتهر باكتشافه الدورة الدموية الصغرى، وهو إنجاز علمي غير مسبوق في زمانه، سبق به علماء أوروبا بقرون طويلة.

النشأة والتعليم

وُلِد ابن النفيس في مدينة دمشق عام 1213م، في فترة كانت تشهد حراكًا علميًا وثقافيًا مميزًا. تلقى تعليمه الأولي في المدرسة النورية الطبية التي أسسها نور الدين محمود، حيث درس علوم الطب على يد كبار الأطباء، وعلى رأسهم مهذب الدين الدخوار. وقد أظهر منذ شبابه نبوغًا لافتًا في الفهم والتحليل، ما أهّله للانتقال لاحقًا إلى القاهرة، التي أصبحت موطنه العلمي والمهني الأبرز.

مسيرته الطبية والعلمية

استقر ابن النفيس في مصر، وعُيّن طبيبًا في المستشفى الناصري، ثم في المستشفى المنصوري الذي كان من أعظم المراكز الطبية في العالم الإسلامي. لم يقتصر دوره على الممارسة الطبية، بل اهتم بالتأليف والتدريس، فكان أستاذًا لكثير من طلاب الطب الذين نقلوا علمه إلى أجيال لاحقة.

أبدع ابن النفيس في مجالات متعددة، لكن أعظم إنجازاته جاء في كتابه "شرح تشريح القانون"، وهو شرح على كتاب "القانون في الطب" لابن سينا. في هذا الكتاب، صحّح العديد من المفاهيم الطبية السابقة، واكتشف الدورة الدموية الصغرى، حيث أثبت أن الدم ينتقل من القلب إلى الرئتين عبر الشريان الرئوي، ثم يعود إلى القلب عبر الوريد الرئوي، ليمرّ بعد ذلك إلى باقي أنحاء الجسم. هذا الاكتشاف سبق به العالم الأوروبي وليام هارفي بما يقارب ثلاثة قرون.

إسهاماته الطبية واكتشاف الدورة الدموية الصغرى

كان أعظم ما قدّمه ابن النفيس للبشرية هو اكتشافه الدورة الدموية الصغرى. ففي كتابه "شرح تشريح القانون"، الذي ألّفه شرحًا وتوضيحًا لكتاب "القانون في الطب" لابن سينا، ناقش بتفصيل دقيق كيفية انتقال الدم في الجسم. خالف ابن النفيس الرأي السائد آنذاك، والذي كان يعتمد على آراء جالينوس وابن سينا، وأثبت أن الدم لا يمر عبر فتحات غير مرئية بين البطينين في القلب، كما كانوا يعتقدون. بل بيّن أن الدم يخرج من البطين الأيمن إلى الرئتين عبر الشريان الرئوي، حيث يمتزج بالهواء، ثم يعود إلى البطين الأيسر عبر الوريد الرئوي، لينتشر بعد ذلك إلى أنحاء الجسم.

هذا الاكتشاف سبق الأوروبي وليام هارفي، الذي عُرف لاحقًا كمكتشف الدورة الدموية الكبرى، بما يقارب ثلاثة قرون. لكن الفضل في أول وصف علمي دقيق لمسار الدم بين القلب والرئتين يعود إلى ابن النفيس. وقد أثبت التاريخ أن العلماء الأوروبيين تأثروا بكتاباته بعد أن تُرجمت إلى اللاتينية في القرن السادس عشر.

إنجازاته الفكرية والأدبية

لم يتوقف إبداع ابن النفيس عند الطب والتشريح، بل ألّف في الفلسفة والفقه واللغة. من أشهر كتبه في هذا المجال: "الرسالة الكاملة في السيرة النبوية" و**"المختصر في علم أصول الحديث"**. كما كتب رواية فلسفية تُسمى "الرواية الفاضلة" أو "فاضل بن ناطق"، وتُعَدّ من أوائل الأعمال التي اقتربت من شكل الرواية الفلسفية في الأدب العربي.

شخصية متواضعة وزاهدة

كان ابن النفيس مثالًا للعالم الزاهد المتواضع. ورغم مكانته العلمية المرموقة وثروته التي جناها من عمله، فإنه لم يترك عند وفاته أي ميراث مادي يذكر، بل أوصى بكل ثروته وكتبه للمستشفى المنصوري في القاهرة، ليظل علمه وعطاؤه وقفًا نافعًا للناس.

أثره في الحضارة الإنسانية

لا شك أن ابن النفيس ترك بصمة لا تُمحى في تاريخ العلم والطب. فقد شكّل اكتشافه للدورة الدموية الصغرى الأساس الذي بنيت عليه الاكتشافات الطبية الحديثة. وإلى جانب ذلك، فإن مؤلفاته الفلسفية والأدبية تعكس عقلية موسوعية نادرة، جمعت بين دقة العلم وعمق الفكر.

يبقى ابن النفيس شاهدًا حيًا على عظمة الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، ودليلاً على أن العلم لا يعرف حدودًا زمانية أو مكانية. لقد قدّم نموذجًا للعالم الذي يسعى وراء الحقيقة العلمية بجرأة، ويضع علمه في خدمة الإنسانية. واليوم، ونحن نستعرض سيرته، ندرك أن إرثه ليس مجرد إنجاز طبي عابر، بل رسالة خالدة تؤكد أن الأمة التي تعتز بعلمائها ومفكريها قادرة دائمًا على الإسهام في بناء الحضارة الإنسانية.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

6

متابعهم

1

متابعهم

1

مقالات مشابة