تعرف أي عن البافوميت ؟!
ما لا تعرفه عن البافوميت!
يُعدّ البافوميت واحدًا من أكثر الرموز الغامضة التي أثارت جدلاً واسعاً عبر التاريخ، إذ ارتبط اسمه بالطقوس السرية، والهرمسية، ومحاكمات فرسان الهيكل، والماسونية، والشيطانية الحديثة، والفلسفات الباطنية. وعلى الرغم من انتشاره اليوم كرمز مظلم أو "شيطاني" في الثقافة الشعبية، فإن جذوره الفكرية والتاريخية أكثر تعقيدًا بكثير من الصورة التي رسمتها عنه السينما والكتب المعاصرة. فالبافوميت تطوّر من كلمة غامضة وردت في محاضر محاكمات في القرن الرابع عشر، إلى رمز فلسفي ابتكره مفكر من القرن التاسع عشر، ثم أصبح علامة تجارية للثقافة البديلة وحركة السحر الغربي.
في هذا المقال، نعرض دراسة موسعة وشاملة عن البافوميت، أصوله، تطوره التاريخي، رمزيته، وكيف تحول من اتهام بلا دليل إلى رمز عالمي مثير للجدل. سنسرد القصة كنص واحد متصل، مقسم فقط إلى عناوين فرعية، بحيث يستطيع القارئ تتبع تطور هذا الرمز من بداياته الغامضة إلى حضوره البارز في العصر الحديث.
---
أصل كلمة “بافوميت”
أصل كلمة “بافوميت” لم يُحسم حتى اليوم، وقد تباينت آراء الباحثين في تفسيرها. ظهرت الكلمة لأول مرة في الوثائق الأوروبية خلال القرن الحادي عشر، وكانت مكتوبة بصيغ متقاربة مثل Bafomet أو Baphomet. يرى بعض المؤرخين أن الكلمة مجرد تحريف خاطئ لكلمة “محمد”، كما كان يحدث كثيرًا في كتابة أسماء المسلمين خلال فترة الحروب الصليبية. ففي بعض المصادر اللاتينية القديمة، كان الأوروبيون يتصورون أن المسلمين يعبدون النبي محمد كإله، وهو تصور خاطئ بطبيعة الحال، مما جعلهم يستخدمون كلمة “Bafomet” في وصف “إله السارازين”، أي المسلمين.
وتوجد قرائن أخرى تشير إلى أن المصطلح ربما كان شتيمة أو وصفًا تحقيريًا استخدمه الأوروبيون ضد المسلمين وليس له علاقة بأي صنم. كما ظهرت فرضيات أخرى تربط الكلمة باليونانية القديمة، حيث فسّر بعض الباحثين الكلمة على أنها مشتقة من عبارة “Baphe Metous” أي “الانغماس في الحكمة”، لكن هذه الفرضية ظهرت لاحقاً مع علماء الباطنية ولا وجود لها في المصادر القديمة.
وبين هاتين النظريتين تبقى الحقيقة ضائعة، لكن الثابت أن الكلمة ظهرت في البداية داخل سياق صراع ديني وثقافي، قبل أن تتحول لاحقاً إلى رمز مستقل.
---
البافوميت في اتهامات فرسان الهيكل
أشهر ظهور تاريخي لكلمة البافوميت كان في محاضر محاكمات فرسان الهيكل عام 1307. فقد اتهمت محاكم التفتيش الفرنسية الفرسان—بأمر من الملك فيليب الرابع—بعبادة صنم غامض اسمه “البافوميت”. هذه التهمة كانت جزءًا من حملة سياسية واقتصادية ضد التنظيم الذي أصبح ثرياً وقوياً بشكل يهدد الملك والكنيسة. ومن أجل إسقاطهم، وُجّهت لهم اتهامات خطيرة منها: إنكار المسيح، ممارسات لا أخلاقية، طقوس سرية، وعبادة صنم.
لكن عند تحليل المحاضر، نجد أن وصف هذا “الصنم” كان متناقضاً للغاية. بعض الشهود قالوا إنه “رأس رجل ملتحٍ”، آخرون وصفوه بأنه “رأس قطة”، بينما قال آخرون إنه “لوح صغير به كتابة”. هذا التضارب يكشف أن الاعترافات انتُزعت تحت التعذيب، وهو أمر موثق في محاضر التحقيق. فلم يُعثر قطّ على أي صنم، ولا على أي أثر يدل على وجود عبادة من هذا النوع داخل تنظيم فرسان الهيكل.
ويرى المؤرخون أن البافوميت هنا لا يمثل صنمًا حقيقياً، بل مجرد تهمة سياسية ودينية استُخدمت لتبرير القضاء على التنظيم. حتى البابا كليمنت الخامس نفسه لم يكن مقتنعًا بالاتهامات، لكنه خضع لضغوط الملك الفرنسي. ومع سقوط فرسان الهيكل عام 1312، لم يعد للبافوميت وجود واضح في السجلات إلا بعد عدة قرون، عندما أعاد إحياءه مفكرو الباطنية الأوروبية.
---
كيف عاد البافوميت إلى الظهور بعد قرون من الاختفاء؟
بعد انهيار فرسان الهيكل، اختفت كلمة "بافوميت" تقريبًا من السجلات الأوروبية قرابة خمسة قرون. لم يعد لها ذكر في الأدب أو الفلسفة أو الدين، ولم ترتبط بأي طقوس أو جماعات معروفة. لكنها عادت بقوة في القرن التاسع عشر، وتحديدًا مع المفكر الفرنسي إليفاس ليفي، الذي لعب دورًا أساسيًا في إعادة صياغة مفهوم البافوميت من جديد.
كان القرن التاسع عشر عصر نهضة في علوم السحر الغربي، الهرمسية، القبّالة، الروحانية، علوم الأثير، والرمزية الماسونية. وسط هذا المناخ الغني بالأفكار الغنوصية، قدم ليفي تفسيرًا جديدًا للبافوميت، حيث اعتبره رمزًا فلسفيًا يعبر عن اتحاد الأضداد في الكون، وليس "شيطانًا" كما اعتقد الناس. وهنا بدأ البافوميت يتخذ الشكل الذي نعرفه اليوم.
---
البافوميت بصياغة إليفاس ليفي
إليفاس ليفي، الذي يُعد أحد أبرز منظّري السحر الغربي الحديث، ابتكر عام 1854 الرسم الشهير للبافوميت الذي أصبح لاحقاً رمزًا عالميًا. في هذا الرسم قدم ليفي كائنًا مركبًا يجمع عناصر بشرية وحيوانية وروحية.
ملامح الرسم الشهير للبافوميت:
رأس ماعز له قرنان طويلان
جسد بشري
صدر أنثوي يمثل المبدأ الأنثوي
أجنحة صغيرة ترمز للعلو والتحرر
شعلة فوق الرأس تمثل العقل والنور
ذراعان بشريتان مكتوب عليهما “حل” و“ربط” (Solve et Coagula)
أرجل على هيئة عنزة، رمز الأرض والطبيعة
وضع البافوميت يده اليمنى إلى الأعلى واليسرى إلى الأسفل في إشارة إلى المبدأ الهرمسي الشهير:
“كما في الأعلى، كذلك في الأسفل”
وهو مبدأ يرمز إلى وحدة الكون والترابط بين الروح والمادة.
هل كان ليفي يقصد الشيطان؟
على الإطلاق، بل كتب بوضوح أن البافوميت ليس شيطانًا، بل رمزًا لفلسفة كونية تقوم على:
التوازن
الوحدة
العقل
الطبيعة
الروح
الجسد
الضوء والظلام
لكن مع الوقت، انتقل هذا الرمز من الكتب الباطنية إلى الثقافة الشعبية، وتحول إلى صورة “شيطانية” بسبب سوء الفهم.
---
معاني رمزية في تصميم ليفي
1. اتحاد الذكر والأنثى
البافوميت يحمل صفات تجمع الغ Masculine & Feminine، مما يرمز إلى اكتمال النفس البشرية التي تشمل كل الأضداد داخلها.
2. الشعلة فوق الرأس
ترمز لفكرة العقل المستنير، والمعرفة التي تعلو الغرائز الحيوانية.
3. الرأس الحيواني
ليس دلالة على الشر بل رمز للغريزة والطبيعة البدائية التي يجب تهذيبها بالعقل.
4. الجناحان
يرمزان للحرية والتحرر من القيود المادية.
5. النور والظلام
اتحاد الأضداد يشكل الانسجام الكوني، وفق فلسفة ليفي.

---
البافوميت والماسونية – حقيقة أم أسطورة؟
على الرغم من انتشار فكرة ربط البافوميت بالماسونية، فإن الماسونية لا تحتوي في رموزها أو طقوسها على أي ذكر للبافوميت.
جاء الربط أساساً من كتابات مغرضة في القرن التاسع عشر، أبرزها كتابات ليو تاكسيل، الذي اعترف في النهاية أن كل ما كتبه كان كذبًا بهدف السخرية من الكنيسة وكسب المال.
ورغم ذلك، استمرت الأسطورة وانتشرت، خاصة مع الشعبية الواسعة لرسم ليفي.
---
البافوميت والشيطانية الحديثة
عندما أسس أنتون لافي كنيسة الشيطان عام 1966، لم يعتمد رسم ليفي، بل استخدم رمز رأس الماعز داخل نجمة خماسية، ومعه كتابة عبرية. سُمّي الرمز بـ:
“Sigil of Baphomet”
لكن هذا الرمز مختلف تمامًا عن بَافُومِيت ليفي، فهو:
ليس له علاقة بتاريخ فرسان الهيكل
وليس مشتقًا من الرسم الهرمسي
بل هو شعار حديث اختارته كنيسة لافي للتعبير عن التمرد على المسيحية الغربية
ومع ذلك، ساهم الشعار الجديد في تثبيت الربط بين رأس الماعز والبافوميت، حتى أصبحا يبدوان شيئاً واحداً رغم اختلاف الأصل.
---
البافوميت في الثقافة الشعبية
أصبح البافوميت اليوم رمزًا شائعًا في:
الموسيقى
الألعاب
السينما
الروايات
ملفات “المؤامرة”
ثقافة الميتال
الملابس والإكسسوارات
لكن الغالبية الساحقة من مستخدمي الرمز لا يعرفون جذوره الفلسفية، بل يرونه مجرد شعار “مرعب” أو “غامض”.
---
هل البافوميت شيطان؟
من الناحية التاريخية والفلسفية: لا.
أن فكرة البافوميت شيطان جاءت من:
1. الربط المتأخر مع الشيطانية الحديثة
2. الرأس الحيواني الذي يذكّر بالصور الدينية للشياطين
3. الثقافة الشعبية التي تحبّ تضخيم الرموز
لكن في أصل المفهوم:
البافوميت لم يكن شيطانًا
لم يكن صنمًا حقيقيًا
لم يعبدْه فرسان الهيكل
لم يكن جزءًا من أي ديانة قديمة
هو مجرد رمز فلسفي أُعيد تشكيله عبر الزمن.
---
البافوميت كرمز للمعرفة
في تفسيراته العميقة، البافوميت يمثل:
المعرفة التي تُولد من اتحاد المتناقضات
التوازن بين العقل والغريزة
النور الذي يأتي من فهم الظلام
الوحدة بين الروح والمادة
الحكمة الهرمسية
ولهذا استخدمه ليفي كرمز فلافي لطاقة الكون المشتركة وليس كرمز ديني.
البافوميت بين الحقيقة والخيال
ما بين الاتهامات القديمة، والرسوم الحديثة، والصور السينمائية، أصبح البافوميت أشبه بـ"مرآة" تعكس أفكار كل عصر.
في العصور الوسطى: كان تهمة سياسية ضد فرسان الهيكل.
في القرن التاسع عشر: أصبح رمزًا فلسفيًا عند ليفي.
في القرن العشرين: تحول إلى شعار للتمرد الثقافي.
في القرن الحادي والعشرين: صار رمزًا شائعًا في الفنون والبوب كالتشر.
لكن الحقيقة الأساسية هي أنه ليس كيانًا حقيقيًا، بل فكرة تطورت عبر الزمن.
---
الخاتمة
البافوميت ليس شيطاناً ولا صنماً ولا إلهاً قديمًا، بل رمز معقد تشكل عبر سلسلة من التحولات التاريخية. بدأ ككلمة غامضة في سجلات محاكمات فرسان الهيكل، ثم أعاد إليفاس ليفي ابتكار معناه بشكل فلسفي، ثم لحقته الماسونية والشيطانية الحديثة والثقافة الشعبية، ليصبح رمزًا متعدد الوجوه. ويكشف تتبع تاريخه أن الكثير مما يُقال عنه اليوم مبني على سوء فهم وتراكب الأساطير، وليس على حقائق تاريخية.