فلسطين في زمن الانتداب البريطاني (1917–1948)

فلسطين في زمن الانتداب البريطاني (1917–1948)

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

تمهيد

تُعدّ فلسطين زمن الانتداب البريطاني إحدى أكثر المراحل حساسية في تاريخ المنطقة العربية، فقد شكّلت تلك الحقبة بداية التحولات الكبرى التي أدّت إلى فقدان الأرض وتشريد الشعب الفلسطيني. كان الانتداب البريطاني، الذي استمر ما بين عامي 1917 و1948، أكثر من مجرد إدارة استعمارية تقليدية، بل كان مشروعًا متكاملًا لتفكيك البنية الاجتماعية والسياسية للشعب الفلسطيني، مقابل تمكين الحركة الصهيونية من تحقيق أهدافها الاستيطانية. ومن هنا، فإن دراسة هذه الفترة تسهم في فهم جذور المأساة الفلسطينية المعاصرة.

مقدمة حول الحقبة البريطانية

شكّلت فترة الانتداب البريطاني على فلسطين (1917–1948) مرحلة مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، إذ مثّلت الانتقال من الحكم العثماني الذي استمر أربعة قرون إلى واقع جديد رسمته القوى الاستعمارية عقب الحرب العالمية الأولى. لم يكن الوجود البريطاني في فلسطين مجرّد إدارة محايدة، بل حمل في طياته مشروعًا استعماريًا مزدوجًا: السيطرة المباشرة على البلاد من جهة، وتسهيل إقامة "الوطن القومي اليهودي" وفق وعد بلفور من جهة أخرى. هذا التداخل بين المصالح الاستعمارية والسياسات الدولية جعل فلسطين ساحة صراع مفتوح ترك آثاره العميقة حتى يومنا هذا.

خلفية الانتداب ووعد بلفور

دخلت القوات البريطانية القدس في ديسمبر 1917 بقيادة الجنرال اللنبي، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ فلسطين. وفي نفس العام، كانت الحكومة البريطانية قد أصدرت "وعد بلفور" الذي تعهّد بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، رغم أن السكان العرب شكّلوا حينها أكثر من 90% من مجموع السكان. أقرّت عصبة الأمم عام 1922 الانتداب البريطاني بشكل رسمي، مضمنة نص الوعد ضمن صك الانتداب، وهو ما منح بريطانيا غطاءً قانونيًا لتطبيق سياسات منحازة لصالح الحركة الصهيونية، وأشعل شرارة التوتر بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود.

الهجرة اليهودية وتغيير التركيبة السكانية

عملت بريطانيا على فتح أبواب فلسطين أمام موجات واسعة من المهاجرين اليهود القادمين من أوروبا الشرقية والغربية، خاصة خلال فترات الاضطهاد النازي في ثلاثينيات القرن العشرين. سمحت هذه السياسة بزيادة أعداد اليهود من نحو 56 ألفًا عام 1918 إلى أكثر من 600 ألف بحلول عام 1947. لم تقتصر السياسات البريطانية على السماح بالهجرة، بل دعمت شراء الأراضي الفلسطينية لصالح المؤسسات الصهيونية، مما أدى إلى تهجير آلاف الفلاحين الفلسطينيين من أراضيهم. هذا التغيير الديمغرافي خلق بيئة متوترة وصراعًا متصاعدًا بين السكان الأصليين والمستوطنين الجدد.

المقاومة والثورات الفلسطينية

أمام هذه السياسات الاستعمارية، لم يقف الشعب الفلسطيني مكتوف الأيدي، بل اندلعت سلسلة من الثورات والانتفاضات ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني. بدأت بثورة القدس 1920 وثورة يافا 1921، ثم أحداث البراق عام 1929، وصولًا إلى الثورة الكبرى (1936–1939) التي شكّلت أضخم حركة مقاومة مسلحة ضد الانتداب. استخدمت بريطانيا أقسى الأساليب لقمع هذه الثورات، من الاعتقالات والنفي إلى الإعدامات وتدمير القرى. ومع ذلك، أسهمت المقاومة في ترسيخ الهوية الوطنية الفلسطينية وتأكيد الرفض الشعبي لمشاريع التوطين والتقسيم.

السياسات البريطانية والكتب البيضاء

حاولت بريطانيا امتصاص غضب الفلسطينيين عبر لجان تحقيق و"كتب بيضاء" متكررة، أبرزها الكتاب الأبيض لعام 1939 الذي حدّ جزئيًا من الهجرة اليهودية. غير أن هذه السياسات غالبًا ما كانت مؤقتة وتهدف إلى تهدئة الأوضاع دون معالجة جوهر المشكلة. في الوقت نفسه، استمرت بريطانيا بتسليح العصابات الصهيونية بشكل غير مباشر، وغضّت الطرف عن توسعها العسكري والتنظيمي، في حين مارست أشد القمع بحق العرب الفلسطينيين. هذه السياسة المزدوجة جعلت الفلسطينيين يشعرون بأن بريطانيا ليست قوة انتداب، بل قوة استعمارية متحالفة مع المشروع الصهيوني.

 النهاية وانسحاب بريطانيا

مع نهاية الحرب العالمية الثانية وتزايد الهجمات الصهيونية حتى ضد القوات البريطانية نفسها، وجدت بريطانيا نفسها عاجزة عن إدارة الصراع. أحالت القضية إلى الأمم المتحدة عام 1947، التي أصدرت قرار التقسيم رقم 181 مانحةً اليهود أكثر من نصف أرض فلسطين رغم أنهم كانوا أقلية. وفي 14 أيار 1948 أنهت بريطانيا رسميًا انتدابها وانسحبت قواتها، تاركة وراءها دولة إسرائيل التي أعلنت قيامها فورًا، واندلعت حرب 1948 التي أدت إلى نكبة الشعب الفلسطيني وتشريده. وهكذا انتهت ثلاثة عقود من الحكم البريطاني تاركة وراءها جرحًا تاريخيًا لا يزال ينزف حتى اليوم.

الخاتمة

في المحصلة، لم يكن زمن بريطانيا في فلسطين مجرد مرحلة عابرة، بل كان حجر الأساس لولادة الصراع العربي–الإسرائيلي الذي ما زال مستمرًا حتى اليوم. فمن خلال وعد بلفور وسياسة فتح الأبواب أمام الهجرة اليهودية، أسست بريطانيا لواقع ديمغرافي جديد غيّر ملامح فلسطين التاريخية. وعلى الرغم من المقاومة الفلسطينية التي حاولت بكل الوسائل الدفاع عن الأرض والهوية، إلا أن السياسات البريطانية المنحازة والانسحاب المفاجئ عام 1948 مهّدت الطريق لإعلان دولة إسرائيل ووقوع النكبة. إن استحضار هذه المرحلة ليس فقط ضرورة تاريخية، بل هو أيضًا تذكير بواجب الأجيال القادمة في الحفاظ على الذاكرة الوطنية ومواصلة النضال من أجل الحرية والعدالة.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

4

متابعهم

6

متابعهم

6

مقالات مشابة
-