غريب عند أبواب القرية

غريب عند أبواب القرية

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

  image about غريب عند أبواب القرية

     "غريب عند أبواب القرية"

المقدمة:

في مساء غائم، حين بدأت الشمس تميل نحو الغروب وتغطي السماء سحب رمادية كثيفة، ظهر رجل غريب يسير ببطء على الطريق الترابي المؤدي إلى القرية. كانت خطواته مترددة أحيانًا، واثقة أحيانًا أخرى، كأنه يتصارع مع نفسه. حمل حقيبة صغيرة بيده اليمنى، فيما شد معطفه البالي حول جسده كمن يحاول إخفاء سر دفين. لم يعرفه أحد من أهل القرية، ومع ذلك بدا وكأنه يعرف الطريق جيدًا، وكأن هذه ليست زيارته الأولى. كانت القرية صغيرة محاطة بالحقول الخضراء، وبيوتها مبنية من الطين والحجر، تتناثر بينها أشجار النخيل والليمون، فيما ينساب جدول ماء ضيق يروي الأرض العطشى. الهواء كان ثقيلاً، والهدوء يلف المكان إلا من نباح بعيد لكلب وحفيف أوراق النخيل.

اللقاء الأول:

اقترب بعض الأطفال منه بفضول، يسألونه عن اسمه وعن مكان قدومه، لكنه لم يُجبهم سوى بابتسامة غامضة. كان شعره أشعث وذقنه طويلة تدل على رحلة شاقة. لاحظ "العم سالم" شيخ القرية الموقف، فتقدم وسأله: — من تكون يا بني؟ رفع الرجل رأسه ورد بهدوء: — مجرد مسافر يبحث عن مكان يستريح فيه. نظر الشيخ إلى عينيه فوجد فيهما بريقًا غريبًا يجمع بين الحزن والخوف. اصطحبه الشيخ إلى بيته ضيفًا، مرحبًا به كما اعتاد أن يفعل مع الغرباء. وعلى الطريق، كان بعض النسوة يراقبن المشهد من النوافذ، يتحدثن همسًا عن هذا الطارق الغامض.

الليلة الغامضة:

في بيت الشيخ جلس الغريب إلى المائدة، لكنه لم يذق سوى لقيمات قليلة. عيناه كانتا لا تهدأ، تتنقل بين الباب والنافذة، كأنه ينتظر قدوم شخص ما أو يخشى أن يلاحقه أحد. لاحظت زوجة الشيخ اضطرابه، لكنها آثرت الصمت احترامًا للضيف. بعد العشاء، جلسوا يتبادلون أحاديث بسيطة عن القرية وأهلها، عن الأسواق والاحتفالات القديمة، وعن المطر الذي غاب عنهم منذ أشهر. الغريب كان يشاركهم بكلمات قليلة ثم يعود إلى صمته. بدا وكأنه يحمل ثِقلاً على قلبه، لا يريد أن يبوح به. لاحظ الابن الأكبر للشيخ ذلك، فسأله: «هل تبحث عن شخص هنا؟» لكنه لم يرد سوى بعبارة غامضة: «ربما، أو ربما أهرب من شخص.»

وفي ساعة متأخرة من الليل، خرج الغريب إلى فناء البيت. ظل واقفًا هناك طويلاً يحدق في القمر، يتنفس ببطء، ثم همس بكلمات لم يسمعها أحد: «لن يتركوني وشأني.» شعر أحد أبناء الشيخ الذي تبعه خلسة برعشة خوف تسري في جسده وعاد مسرعًا إلى الداخل.

رسالة غير متوقعة:

قرابة منتصف الليل، دوّى طرق خفيف على الباب. فتح الشيخ فلم يجد أحدًا، غير ورقة صغيرة وُضعت على العتبة. حملها وسلمها للغريب. ارتجفت يده وهو يفتحها، وما إن قرأ كلماتها حتى تغيّر وجهه، وصار أشحب من القمر المعلق في السماء. لم ينطق بكلمة، فقط طوى الورقة ووضعها في جيبه، ثم أخذ يتنفس بعمق وكأنه يقاوم انهيارًا داخليًا. لاحظ الشيخ قطرات عرق باردة على جبينه، وأحس أن تلك الورقة تحمل خبرًا خطيرًا. سأل الشيخ: «هل هناك من يلاحقك؟» لكن الغريب تهرّب من الإجابة، مكتفيًا بنظرة طويلة نحو الباب.

قرار الرحيل:

وقف الغريب فجأة وقال بصوت متوتر: — أشكركم على كرمكم، لكن لا أستطيع البقاء. حاول الشيخ منعه، قائلًا: «الليل مظلم والطريق خطير، ابق حتى الصباح.» لكن الرجل خرج مسرعًا تاركًا حقيبته خلفه، يبتلع الظلام خطواته. تبعته نظرات الشيخ، وأحس أن في رحيله خطرًا، لكنه لم يجرؤ على اللحاق به. بقي الباب مفتوحًا للحظات طويلة، كأن الأسرة تنتظر عودته، لكن الريح وحدها دخلت تنثر الغبار في أرجاء البيت. وفي الخارج، سمعوا عواء ذئب بعيدًا، وكأنه يعلن أن الغريب دخل في رحلة لا عودة منها.

آثار غامضة:

في الصباح، فتح أهل البيت الحقيبة فوجدوا بداخلها كتابًا قديمًا ممزق الصفحات، تغطيه رموز غريبة ورسومات مبهمة. وبين الصفحات رسالة قصيرة مكتوبة بخط متعرج تقول: «ما تبحثون عنه ليس هنا.» أثارت الكلمات فضول الشيخ وأبنائه، فحاولوا فهم الرموز دون جدوى. بعضهم قال إنها طلاسم قديمة، وآخرون زعموا أنها لغة منسية. وفي الأيام التالية، انتشرت الشائعات بين أهل القرية: هناك من قال إنه هارب من عدو خطير، وهناك من رأى أنه جاء يبحث عن كنز ضائع، بينما اعتبره آخرون مجرد شبح ظهر ليترك أثره ويرحل. وفي الليالي التالية، كان بعض الأهالي يؤكدون أنهم رأوا خياله يعبر الطريق عند أطراف الحقول، ثم يتلاشى فجأة كما لو أن الأرض ابتلعته.

الخاتمة:

مرت أيام وأسابيع، ولم يرَ أحد ذلك الغريب مرة أخرى. ومع ذلك، ظلت قصته تُروى عند المجالس وتُحكى للأطفال قبل النوم. كانوا يصفونه بالرجل الغامض الذي حمل أسراره في قلبه ورحل تاركًا وراءه كتابًا لا يُقرأ. ومع مرور السنين، تحولت حكايته إلى أسطورة من أساطير القرية، يرددها الناس كلما رأوا مسافرًا وحيدًا يسير على الطريق الترابي. هكذا بقي الغريب حاضرًا في ذاكرتهم، لا كشخص من لحم ودم، بل كرمز للغموض الذي لا يُفسَّر، وللأسرار التي لا تُكشف أبدًا.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

1

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة
-