
قتل ملكا لأجل والدته
عمرو بن كلثوم وقتل ملك الحيرة
قصة من كبرياء العرب في الجاهلية
مقدمة
التاريخ العربي قبل الإسلام زاخر بالقصص التي تعكس ملامح الكبرياء والأنفة وحب الحرية. ولم تكن هذه المواقف مجرّد حوادث عابرة، بل صارت جزءًا من الهوية العربية التي تضع الكرامة فوق كل سلطان. ومن أعظم هذه القصص، حكاية عمرو بن كلثوم التغلبي، شاعر المعلقات وسيد قبيلته، الذي لم يقبل أن يُهان هو ولا أمه، فرفع السيف في وجه ملكٍ جبار، ليكتب بدمه سطورًا من المجد.
الملك المتغطرس
كان عمرو بن هند ملك الحيرة مشهورًا بالغرور والتعالي. لم يكتفِ بحكم قومه، بل أراد أن يجعل من العرب جميعًا رعيةً خاضعة لسلطانه. كان يتفاخر بأنه ملك الملوك، وأنه وحده صاحب الأمر والنهي. وفي غمرة كبريائه، فكّر في إذلال بني تغلب، القبيلة التي اشتهرت بعزتها وبطولاتها، ليكسر شوكتهم ويثبت أنه لا أحد يعلو على سلطانه.
المكيدة
دبّر الملك مكيدةً ماكرة. أرسل يدعو عمرو بن كلثوم سيد تغلب، ومعه أمه ليلى بنت المهلهل، إلى قصره في الحيرة. وفي الوقت نفسه دعا أمه، أم الملك، إلى الحضور. كانت خطته أن تأمر أم الملكُ ليلى بخدمتها أمام الجميع، فينكسر قلبها وتنكسر هيبة بني تغلب، وتكون الإهانة حديث العرب.
صرخة الكرامة
دخل عمرو بن كلثوم القصر شامخًا، متقلّدًا مجده، وفي عينيه شرارة الفخر. جلست أمه إلى جانب أمهات الملوك، مرفوعة الرأس، وهي ابنة المهلهل بطل حرب البسوس. لكن أم الملك التفتت إليها فجأة وقالت بلهجة آمرة:
"ناوليني ذلك الطبق."
كان الأمر صاعقة على قلب الحرة الكريمة. كيف تُؤمر بالخدمة وهي سيدة من سيدات العرب؟! عندها ارتفع صوت ليلى، يمزّق صمت القاعة:
"واذلّاه يا لتغلب!"
كانت الصرخة أقوى من السيوف، فقد أيقظت الكبرياء النائم في صدر ابنها.
السيف الذي لم يصبر
ما إن سمع عمرو بن كلثوم صوت أمه، حتى التفت بعينيه يمنة ويسرة، فإذا بسيف يلمع على جدار القصر. لم يتردد لحظة. مدّ يده إليه كالصاعقة، وأمسكه بقوة، ثم اندفع نحو الملك عمرو بن هند. بضربة واحدة، فصل رأسه عن جسده، وأسقط غروره في ثوانٍ.
ساد الصمت أرجاء القصر، وتجمّد الحضور بين الدهشة والخوف. أما عمرو، فقد أمسك بيد أمه، وخرج شامخًا وهو يقول في نفسه:
"نحن ملوك العرب، لا نخدم ولا نُهان."
إرث خالد
لم يكن ما فعله عمرو بن كلثوم مجرد انتقام لحظة، بل كان رسالة خالدة تقول إن الكرامة فوق المُلك، وإن العزّة لا تُشترى بعرش ولا بذهب. وقد ظلت قصته تُروى في مجالس العرب، رمزًا للشرف والأنفة، ودليلًا على أن العرب لم يرضخوا يومًا للذل.
في شعره الخالد
لم يكتفِ عمرو بالفعل، بل عبّر عن فخره وعزّة قومه في معلقته الشهيرة، التي صارت من عيون الشعر العربي. ومن أبياته التي خلدت الكبرياء:
إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌّ
تخرُّ لهُ الجبابرُ ساجدينا
بهذه الأبيات، أعلن أن الفخر في بني تغلب يولد مع الطفل منذ رضاعته، وأن الملوك والجبابرة ينحنون لعزّتهم.
خاتمة
قصة عمرو بن كلثوم ليست مجرد واقعة في بلاط ملك الحيرة، بل هي درس خالد في معاني الحرية والكرامة. لقد جسّدت أن الأنفة العربية لا تعرف المساومة، وأن الأم، بكبريائها، قد تكون الشرارة التي تفجّر ثورة. لذلك بقيت قصته ومعلقته شاهدين على أن الكرامة عند العرب لا تقبل المساومة، حتى لو كان الثمن دم ملكٍ جبار.
