
قبل أن يهطل المطر
شتاء اليأس في وادي الصمت
في قلب وادي الصمت المنسي، حيث تتشابك أشجار البلوط الجافة على سفوح التلال كأصابع متشنجة، كانت الحياة تتراجع كل شتاء. كان السكان، الذين اعتادوا على قسوة الطبيعة وجفافها، ينامون ويستيقظون على صوت الرياح الباردة التي تحمل معها وشوشات اليأس والتشاؤم. الجيل الجديد، ومنهم شاب يدعى "نزار"، نشأ وهو يسمع أن هذه الأرض "معطوبة" وأن الأمل في الرخاء قد مات مع جده الأكبر. لم يكن هناك حماس للزرع ولا شغف للعمل، فقد ترسخت في عقولهم قناعة بأن الجهد لا يجدي نفعاً. كان الجميع يجلسون في حلقات الانتظار، ينتظرون المعجزة دون أن يرفعوا أيديهم للدعاء أو العمل، متناسين أن التفاؤل هو بذرة العمل الأولى. حتى الأغاني الشعبية تحولت إلى تراتيل حزينة تندب الحظ العاثر. نزار، وإن كان أكثر شباباً وطاقة، كان يرى نفسه ينجرف ببطء نحو تيار التشاؤم الجماعي، يشعر بأن روحه تذبل كالأرض التي تحت قدميه. كانت فكرة "تفاءلوا بالخير تجدوه" مجرد شعار أجوف في مجتمع اختار أن يتفاءل بالشر، وبالفعل وجده في كل ركن.
لقاء الحكمة وتغيير المنظور
في أحد أيام الشتاء الباردة، وأثناء تجوال نزار بكسل في أطراف الوادي، التقى بامرأة عجوز تُدعى "أمينة"، كانت مشهورة في القرية بحكمتها الصامتة وابتسامتها المشرقة التي لم تذبُل رغم السنين. كانت تجلس أمام كوخها، تُنظّف بئرًا شبه مدفونة بالرمال، كأنها تستعد لتدفق مياه لم يأتِ منذ عقود. اقترب منها نزار متسائلاً بتهكم شبابي: "يا أمينة، هل تظنين حقاً أن الماء سيعود إلى هذا البئر بعد كل هذا الزمن؟" نظرت إليه أمينة بعينيها الدافئتين وقالت بهدوء: "يا بني، أنا لا أبحث عن الماء. أنا أبحث عن الخير. والتفاؤل بالخير هو أول خطوة لجعله ممكناً. كيف سيجدنا الخير ونحن مختبئون منه خلف جدران اليأس؟ إننا نستقبل ما نتوقعه. إذا توقعنا الجفاف، فسنشعر بالعطش حتى لو هطل المطر. عليك أن تُنظّف قلبك وعملك قبل أن تُنظّف البئر، كي تكون مستعداً لاستقبال الخير عند وصوله." كانت كلماتها بمثابة صاعقة أضاءت عقل نزار. لقد أدرك أن المشكلة لم تكن في قلة المطر، بل في جفاف الأرواح.
القرار الشجاع وبداية العمل
عاد نزار إلى القرية بقلب جديد، مليء بتلك الشرارة التي زرعتها أمينة. قرر أن يبدأ العمل على مبدأ أن الخير آتٍ لا محالة، وأن دوره هو الاستعداد لقدومه. بدأ نزار بتنظيف قطعة أرض صغيرة كانت تعتبر "ميتة" في نظر الجميع. كان ينقل الحجارة، يزيل الأعشاب الضارة، ويُحوّل التربة الجافة إلى مهاد ناعم، كأنه يعد سريرًا لأول قطرة مطر. كان الجيران ينظرون إليه بتعجب ويسخرون منه: "لقد جنّ نزار! إنه يحرث الهواء!" لكن نزار لم يهتم. كان يغني أثناء عمله، يغني عن المطر الغزير والمحاصيل الوفيرة، كأنه يزرع الكلمات الطيبة مع البذور الوهمية في الأرض. كان تفاؤله ليس سلبياً (أي انتظار حدوث شيء ما)، بل كان إيجابياً ونشطاً (أي العمل على تهيئة الظروف المناسبة لتحقيق ما يتفاءل به). لقد أصبح نزار نفسه رمزاً حياً لمقولة "تفاءلوا بالخير"، لأنه بدأ يعيش الخير في أفعاله اليومية.
عدوى الأمل وانتشار التفاؤل
بعد أسابيع من العمل المتواصل تحت السخرية، بدأ عدد قليل من الشباب الآخرين، ممن كانوا يرون الإخلاص والصفاء في عيني نزار، بالانضمام إليه. لم يكونوا مقتنعين بقدوم المطر بعد، لكنهم كانوا مقتنعين بـ قوة الإرادة التي رأوها فيه. بدأوا معه في تنظيف قنوات الري القديمة التي هُجرت منذ سنوات طويلة. كان كل ضربة فأس وكل إزالة لحصاة صغيرة عملاً من أعمال التفاؤل، وإعلاناً لليأس بأن وقته قد انتهى. تحولت السخرية إلى فضول، ثم إلى شعور خجول بالذنب. بدأ الأهالي الكبار يجدون العزاء في رؤية أبنائهم يعملون لأول مرة بحماس بدلاً من الجلوس في حلقات التشاؤم. لم يكن الأمر يتعلق بالمطر بعد؛ بل كان يتعلق بـ استعادة القوة الداخلية للقرية. لقد تفاءلوا بالخير، وكان الخير الأول الذي وجدوه هو العمل الجماعي والأمل المُنعش.
اختبار الصدق والمكافأة
في نهاية ذلك الشتاء القاسي، ومع اقتراب موسم الربيع، كان عمل نزار ورفاقه قد أنهى تنظيف البئر القديم وشبكة القنوات. لم يكن هناك ماء بعد، لكن الأرض كانت مستعدة تماماً لاستقباله. نظر نزار إلى السماء الصافية وقال لأصدقائه: "لقد فعلنا ما علينا. لقد استقبلنا الخير بأفعالنا، والآن لننتظر بقلوب واثقة." وبعد أيام قليلة، في ليلة لم تكن متوقعة، بدأ صوت رعد خفيف، ثم هطلت الأمطار. لم تكن عاصفة عابرة، بل كانت أمطار الخير الغزيرة التي طال انتظارها. بسبب تفاؤلهم وعملهم المسبق، لم تذهب المياه هدراً. بل تجمعت في البئر المنظف، وجرت في القنوات المفتوحة، وروّت الأرض التي أعدها نزار ورفاقه. كانت مكافأة عادلة لـ صدق التفاؤل المقرون بالعمل.
ازدهار الوادي وولادة الحكمة الجديدة
في غضون أسابيع، تحول وادي الصمت إلى وادي الخضرة. البئر فاض بالماء، والأرض التي استعدت للخير حملت محاصيل لم يرَ مثلها جيل نزار من قبل. لم يكن الأمر مجرد مطر عابر، بل كان تغييراً في العقلية. أدرك الجميع أن المطر كان يهطل أيضاً في السنوات السابقة، لكنهم كانوا غارقين في التشاؤم لدرجة أنهم لم يكونوا مستعدين للاستفادة من كل قطرة. لقد كان اليأس هو الذي أعمى أبصارهم وأغلق قنوات الري في نفوسهم. أصبحت قصة نزار وأمينة حكمة جديدة في القرية. لم يعد الناس يقولون: "الأرض معطوبة"، بل أصبحوا يقولون: "قلوبنا كانت هي المعطوبة". لقد وجدوا الخير لأنهم تفاءلوا به، وعملوا من أجله، وأعدوا أنفسهم ليكونوا أهلاً له.
إرث التفاؤل والدرس الخالد
مرت السنوات، وأصبح نزار شيخ القرية، ولم يُطلق على الوادي اسم "وادي الصمت" مجدداً، بل سُمّي "وادي الأمل". أصبحت مقولة أمينة: "تفاءلوا بالخير تجدوه" هي الدستور غير المكتوب للحياة اليومية. لم تعد تُستخدم كعبارة عابرة، بل كمنهج حياة. كانت تعني: اعمل بثقة في المستقبل، أزِل الركام من طريق أمنياتك، وكن مستعداً لاستقبال النعمة عندما تأتي. فالخير موجود دائماً، ولكننا في أوقات اليأس لا نمتلك الأدوات ولا الرؤية لنجده أو نحتفظ به. لقد تعلم أهل الوادي أن التفاؤل ليس رفاهية، بل هو أداة البقاء والازدهار الأقوى. ومنذ ذلك اليوم، وحتى في السنوات القليلة التي نقص فيها المطر، لم يعد اليأس يتسلل إلى قلوبهم، لأنهم كانوا يعلمون أنهم زرعوا بذور الأمل، وأن العمل المستمر بالتفاؤل سيضمن لهم حصاد الخير دائماً.