مجمع الآلهة الاشمونية الثمانية الكبري
🔹 الجزء الأول: مقدمة – من أين بدأت فكرة الخلق في الأشمونين؟
في قلب صعيد مصر، وتحديدًا في مدينةٍ كانت تُسمّى قديمًا خمنو (وتعني "مدينة الثمانية")، والتي عُرفت لاحقًا لدى اليونانيين باسم هرموبوليس، وُلد واحد من أعمق المفاهيم الدينية في تاريخ مصر القديمة: الثامون المقدس أو مجمع الآلهة الثمانية.
كان المصري القديم يقف أمام الكون متسائلًا عن بدايته: من أين جاءت السماء؟ كيف ظهر الضوء؟ ما الذي كان موجودًا قبل الأرض والماء والشمس والحياة؟ لم يكن يبحث عن تفسير علمي، بل عن نظام روحي يربط بين الإنسان والوجود. وهنا، كان الثامون إجابةً فلسفية بقدر ما كان عقيدة دينية.
في تصور سكان الأشمونين، لم يبدأ الكون بخلق مباشر، بل سبقته مرحلة من العدم الكامل، رمزها الظلام والمياه الأزلية، والصمت الأبدي، واللانهاية. ومن هذا اللاوجود، ظهرت ثمانية قوى إلهية شكلت معًا البذرة الأولى للوجود. لم تكن هذه الآلهة في البداية كائنات ذات ملامح، بل مفاهيم كونية مجسدة في صورة آلهة، تمثّل أضداد الوجود: الظلام، الفوضى، الأعماق، اللانهاية، الخفاء… وكل عنصر منها كان له ذكر وأنثى، في تكامل يسبق الخلق.
وهكذا، يختلف الثامون في جوهره عن مجمع التاسوع في هليوبوليس. فالتاسوع يروي قصة الخلق بعد بدايته، أما الثامون فكان مشغولًا بما كان قبل الخلق نفسه. بمعنى آخر:
🔹 التاسوع يشرح كيف خُلق الكون
🔹 الثامون يشرح ما الذي كان قبل أن يُخلق الكون
هذه الفكرة جعلت الثامون واحدًا من أعمق التصورات الكونية في الفكر المصري القديم، بل أقرب ما يكون إلى "الفلسفة الأولى للوجود".

اللاوجود قبل الخلق – فكرة العدم في عقيدة الثامون
اعتقد المصريون في الأشمونين أن الكون لم يبدأ بوجودٍ فجائي، بل سبقه حالة مطلقة من اللاوجود، لا يمكن تصورها بالعقل البشري. لم تكن هناك سماء، ولا أرض، ولا ضوء، ولا حياة. لم يكن هناك اتجاه أو زمن أو مكان. كان هناك فقط محيط أزلي لا نهائي يسمّى في النصوص المصرية بـ نون.
لكن هذا "العدم" لم يكن فراغًا سلبيًا، بل كان قوة كامنة تنتظر لحظة التجلّي. ومن هذه الحالة الأولى ظهرت ثمانية قوى إلهية، هي اللبنات الأساسية للوجود قبل أن يتحوّل إلى حياة مرئية. كانت فكرة الثامون إذن أقرب إلى مفهوم "ما قبل الخلق"، وكأن المصريين كانوا يسألون:
🔹 ما شكل الوجود قبل ظهور الشمس؟
🔹 ما الذي كان موجودًا قبل أن تنفصل السماء عن الأرض؟
🔹 من أين بدأ الزمن؟
وإجابة الثامون كانت واضحة:
الخلق ليس بداية مطلقة، بل تحوّل من الخفاء إلى الظهور، من اللاشكل إلى الشكل، من الصمت الأزلي إلى الضوء.
وهنا تظهر عبقرية الفكر الديني المصري:
لم يبدأوا من الإله الخالق مباشرة، بل من الحالة التي سبقت وجود الإله نفسه.
بمعنى آخر: قبل أن يكون هناك "إله خالق"، كان هناك مستوى أعلى من الوجود البدائي، تمثّله هذه القوى الثمانية.

ومن هذه الفكرة العميقة، اشتُق اسم المدينة: خمنو – مدينة الثمانية، أي المكان الذي يُشرح فيه الكون من خلال ثمانية أصول أولى، لا من خلال إله واحد
دور مجمع الآلهة الثمانية في تشكيل الفكر الديني المصري
لم يكن مجمع الآلهة الثمانية في هرموبوليس مجرد مجموعة من الكائنات المقدّسة، بل مثّل الأساس الذي بُني عليه الكثير من الأفكار الدينية في الحضارة المصرية القديمة. فقد رأى المصريون أن الكون لم يُخلق فجأة، بل وُلد من حالة أولى بدائية هي "العدم – الماء – الظلام – اللامحدودية"، وهي الحالة التي تجسدت في الآلهة الثمانية.
لقد كان الهدف من هذا المجمع تفسير أصل الخلق وتفسير ما قبل الوجود، أي اللحظة التي لم تكن فيها أرض، ولا سماء، ولا شمس، ولا حياة. ومن هنا اكتسبت الأوجدواد أهمية كبرى لأنها تُجيب على السؤال الوجودي الأكبر: "كيف بدأ كل شيء؟".
---
الربط بين الأوجدواد وفكرة الخلق في مصر القديمة
رغم أن العديد من المدن في مصر القديمة قد امتلكت نظريات مختلفة للخلق، مثل نظرية هليوبوليس (عين شمس) ونظرية منف، فإن نظرية هرموبوليس كانت من أقدم وأعمق النظريات.
فبينما اعتبرت هليوبوليس أن الخلق بدأ من الإله أتوم، رأت هرموبوليس أن الخلق لم يبدأ بكيان واحد، بل بثمانية عناصر تمثّل "المكان قبل الخلق".
هذه الفكرة أثّرت لاحقًا في الفكر الديني المصري، حتى أن بعض الإلهة الكبرى مثل رع وبتاح وآمون تم ربطهم بطريقة ما بفكرة ظهور الكون من المياه الأولى.
---
علاقة الأوجدواد بالإله رع
بحسب النصوص القديمة، فإن الشمس – التي تجسدت في الإله رع – لم تكن موجودة في البداية، بل وُلدت من بيضة كونية طافية فوق مياه نون، حيث احتضنتها الآلهة الثمانية.
وتقول الأسطورة إن الإله "جحوتي" (تحوت) ساعد في تنظيم الكون بعد الخلق، وهذا ما جعل هرموبوليس مركزاً فكرياً مهماً.
وهكذا، اعتُبر مجمع الأوجدواد هو المشهد قبل ظهور الشمس، بينما اعتُبرت ديانة رع المشهد بعد ظهور النظام والحياة.
---
أثر مجمع الأوجدواد على الفكر الديني في العصور اللاحقة
لم يختفِ مجمع الآلهة الثمانية مع مرور الوقت، بل انتقل تأثيره إلى نصوص دينية لاحقة، مثل نصوص الأهرام، ونصوص التوابيت، وكتاب الموتى.
كما أعاد كهنة طيبة في الدولة الحديثة دمجه مع عبادة آمون، فصار يُنظر لآمون باعتباره القوة التي خرجت من "نون"، وبذلك تم ربط الفكر القديم بالفكر الجديد دون صراع ديني.
وهذا جزء من عبقرية الدين المصري: عدم إلغاء الأفكار السابقة، بل تطويرها ودمجها.
---
الطابع الفلسفي لمجمع الأوجدواد
يمكن القول إن مجمع الآلهة الثمانية كان أكثر من مجرد ميثولوجيا، فقد حمل فكرة فلسفية عميقة:
🔸 الكون بدأ من "الفوضى" لكنه اتجه نحو "النظام".
🔸 الخلق ليس فعلًا عشوائيًا بل نتيجة تحوّل تدريجي.
🔸 الماء هو أصل الحياة، وهو ما تؤكده العلوم الحديثة اليوم.