الخلاص .. قصة قصيرة

الخلاص .. قصة قصيرة

0 المراجعات

الخلاص
قصة قصيرة
عبد الرقيب البكاري 
اليمن 


في ليلة موحشة وفي إحدى القرى التي لا يكترث لمآسيها أحد وفي سنوات الحرب واليأس كان الليل يوشك أن يرحل بعد عناء طويل عندما سقط رأس الأم على صدر زوجها من التعب والإرهاق ، ثلاثة أيام بلياليها وهي تضع الكمادات على جسد طفلتهما الصغيرة دون أن تهدأ الحمى ، في الليلة الثالثة ازدادت الحمى في جسدها وذبلت عيناها وازداد الشحوب والضمور في وجهها كان الزوج يخرج في النهار ليكسب لقمة عيش الأسرة الصغيرة هذه من قطع الأشجار والحطب بينما تظل الأم في البيت الصغير المبني من الحجارة لتهتم بالطفلة الصغيرة ..
اقتربت الساعة من الرابعة فجراً وانطلق صوت أذان الفجر استيقظت الأم مرعوبة وهي تتلفت حولها وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وتنفث على يسارها موضحة لزوجها عن رؤيا مخيفة لكنها لم تتحدث عن فحواها حتى لا تتحقق في الواقع ..
تحسست وجه ابنتها ، كانت حالتها تزداد سوءاً وهي لم تتوقع أكثر من ذلك ومنذ متى رأت انفراجاً في شيء ! كانت عيناها خاويتان كمقبرة ووجنتاها تزدادان ضموراً وتنطلق من صدرها حشرجة مخيفة حاولت أن تصلح من وضعيتها، ونادتها ثم هزت جسدها دون استجابة..
قبل عامين اختطف القناص روح طفلهما البكر
ومرت الدنيا بثقلها جاثمة على الصدور تسحبهما الحياة سحباً ، ويخيل لمن يراهما أنهما يعيشان هكذا كيفما اتفق وكأنهما أوقفا في جسديهما خاصية الشعور غير أن الحزن كان يسيل في الروح كبركان دون أن يشعر بحزنهم أحد ..
فولِدت لهما هذه الطفلة ومنذ مجيئها أشعلت في حياتهما شمعة البهجة وصارا ينظران للحياة بنظرة الأحياء يعيشان بقية الأحزان والقليل من الفرح كما يعيش البقية من الناس في هذه البلاد ..
ودار بخلديهما معاً نفس المشاعر ونفس الأفكار وسيطرت على الأرواح فكرة الخلاص ، أمسكت بيد زوجها والتقت العيون بالعيون وخاطبت الروح قرينتها 
واحتضنا طفلتهما وهي تحتضر وجسدها الصغير يتتفض أغمضت الأم عيني ابنتها ولفت جسدها بإحرام قديم متهالك ، وبصوت أجش قاس لا يمكن لأحد احتماله قال الأب لزوجته وهما يقتعدان أرضية الغرفة البائسة :
_ هل نمضي الآن ؟ 
هزت الأم رأسها إيجاباً ونهضا من فورهما والأم تحتضن الطفلة الميتة وانطلقا، 
مضيا في هدوء ، كان الليل يخيم على القرية وطرقاتها الخاوية 
قال الرجل لزوجته وهو يشير إلى البيوت الخاوية والتي تبدو كأنها منازل أمم غابرة يلفها السكون والخوف والأسى :
_ وهؤلاء .
ضغطت بأصابعها على كفه وقالت بخفوت :
_ إنهم راضون بحياتهم التعيسة ، إمضِ ولا تلتفت .
وقبيل الشروق بقليل عندما بدأت خيوط الفجر تتسلل بضجر على القرية كانا قد وصلا إلى الجبل ..
وعند الصخرة المعروفة التي أُطلق عليها فيما بعد ( دُقم الخلاص ) توقفوا لبرهة ثم صعدوا عليها 
كانت الصخرة تطل على جوف وادٍ سحيق ومخيف 
ووقفا بشجاعة دون أن ينظرا للأسفل ، قبلا طفلتهما واحتضنا بعضهما وجعلا القرية وراءهما واحتضنا الطفلة وابتسما كإعلان انتصار على الحياة وظلم الأقدار وقبلا بعضهما قبلة أخيرة وانتهى كل شيء وكانت قفزتهما إيذاناً بانتهاء الألم ، وانطلقا بعيداً عن بلاد المآسي والأحزان ، في ذلك النهار الحزين كان أحد الرعاة يقسم أنهما كانا يطيران بأجنحة من نور حتى اختفيا عن الأنظار ، ولم يجد أهل القرية من آثارهما سوى الملابس والإحرام وكتلة سوداء تفوح منها رائحة القهر والأسى .

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

2

متابعين

1

متابعهم

2

مقالات مشابة