حرب  الأعصاب الطرفية

حرب الأعصاب الطرفية

0 reviews

قليلة هى عدد الحفلات التى دعى إليها عاطف بك الدمرداش لا يتعدى عددها أصابع اليد الواحدة بعدما أجبروه على التقاعد بحجة بلوغه سن المعاش وعنها يقول : ما قسوة تلك الكلمة عندما تشعر أنك لا تزال فى كامل حيويتك وعنفوان شبابك ولسان حالك وقتها " أوديكى فين يا صحة " وأنك منذ أعوام قلائل مضت أخبارك تملأ السمع والبصر ويشار إليك بالبنان .. ولكن هكذا حال الدنيا هى نفسها سوف تؤول فى يوم يعلمه الله إلى زوال وستصبح أثرا بعد عين .
مع الوقت تأقلم عاطف بك على الحياة الجديدة واعترف بسنة الكون فى التغيير ولكن ما لم يستطع التكيف معه تلك الأمراض المزمنة ويصفها قائلا : أنها تكاد تتربص بأمثالنا إلى وقت خروجنا إلى سن التقاعد وتدخل معنا فى صراع مرير وحرب ضروس ربما كانت هى الأخرى تخشى سطوة النفوذ وهيبة ا لسلطة أثناء أدائنا للواجب الوطنى .. !! وتتحين الفرصة للانقضاض على فريستها حال ضعفها .
وتستمر هذه الحرب الشعواء مستعرة طوال البقية الباقية من عمرك تهزمها تارة وتقهرك تارات .. وقد تأتى للبعض بالجملة وللبعض الآخر فرادى وقد تأتى - تترا – المرض تلو الآخر . 
وقد كان من نصيبى داء " السكرى " اللعين لا سامحه الله وأخذه من الوجود أخذ عزيز مقتدر .. آمين .
والسكرى داء خبيث وعنيد لا يقبل المساومة فإما أن تكون صديقه فتحب ما يحب وتكره ما يكره ، وأما أن تعانده وعندها تصبح ألد أعداؤه وينالك منه ما لا ترضى يقتحم عليك بدنك ويعبث بأعضائك فيؤثر على سمعك أويضعف بصرك أو كليتك أو كبدك أو يصيب أطرافك بما يسمى إلتهاب الأعصاب الطرفية لتندم فى وقت لا ينفع في الندم .
آخر حفل دعى إليه عاطف بك عن طريق بطاقة دعوة لحضور حفل زفاف كريمة مسئول كبير رفيع المستوى بأحد الفنادق الكبرى بالعاصمة ، ولك أن تترك لخيالك العنان كيفما تشاء فى تصور مثل هذا الحفل الذى يشبه إحدى حفلات زواج الملك شهريار الأسطورية فى كتاب ألف ليلة وليلة فى عدد المطربين والمطربات ، والراقصين والراقصات ، والمدعوين والمدعوات الكاسيات منهن والعاريات .. وكذلك حجم الأوبن بوفيه ( البوفيه المفتوح ) لا سامح الله البوفيه ولعن الله من فتحه .. وإذا كان " الحجم " فى علم الهندسة يعنى الطول x  العرض x الارتفاع إلا إنه فى علم العبد لله يضاف إليه أيضا النوع وهو حجم التنوع بين المأكولات البحرية والبرية والبرمائية وكذلك الحلويات الشرقية والغربية والشرق أوسطية .
والأوبن بوفيه هو ما يهمنى أنا شخصيا فى مثل هذه الحفلات ويهم الكثير من أمثالى من أرباب المعاشات والذى حضر منهم الحفل عدد لا بأس به من الذين تضاءل دخلهم أضعافا مضاعفة جراء تغيير مسماه من اسم مرتب إلى اسم معاش وأهم ما فى الأوبن بوفيه قسم الحلويات والتى لا تسمح دخولنا الحالية من مجرد ذكر أسماء تلك الحلويات .
انتحيت ببعض الأصدقاء القدامى جانبا من الأوبن بوفيه ودخلنا فى مرحلة افتراس كميات كبيرة من المأكولات والحلويات تكفينا لحفل قادم بعد شهور وربما بعد سنوات .
مع نسمات الفجر الرقراقة يغلفها شبورة خفيفة تعوق الرؤية - تتشابه إلى حد كبير مع الشبورة داخل الفندق مع اختلاف السبب ..!!– انتهت فقرات الحفل بعد أن خارت معها قوى السادة الحضور من كثرة الرقص والأكل والشرب وكذلك السهر والأخير هو وحده يكفى للإرهاق بدون تدخل عوامل أخرى .
بالكاد وصلت منزلى المتواضع ، وبالكاد استبدلت بدلة السهرة التى بدا عليها هى الأخرى الإرهاق ببيجامة تعلن عن نفسها أنها فى كامل نشاطها وحيويتها .. تخلل عملية تسليم وتسلم البدلة بالبيجامة دقائق أخذت فيها حمام دافئ بدا كمراسم حفل لا بد منها لعملية التسليم والتسلم .
ارتميت على السرير ممنيا نفسى بقضاء عدة ساعات من النوم الهادئ بعد أن أدرت مؤشر المذياع العتيق الموجود على طاولة بجانب سريرى منذ سنوات طويلة على محطة إذاعية خفيفة الظل متنوعة بين الأخبار والأغانى والحوارات ، كانت عقارب المنبه الصغير القابع بجوار المذياع تشير إلى الساعة الثامنة صباحا إلا بضع دقائق ، ولم تكد جفونى تغلق كستائر المسرح تعلن عن انتهاء عرضها المسرحى إلا وشعرت ببعض الآلام تنتاب أطراف أصابعى .. قليل من التنميل والزغزغة الخفيفة .
لم أعر الأمر اهتماما فى بادئ الأمر واعتبرتها ضريبة بسيطة للسهرة الماضية وحالة الإسراف – أو قل الطفاسة إن شئت – فى أكل الحلويات .. ولكن سرعان ما تحولت الزغزغة إلى دغدغة وتحول التنميل إلى حرقان فأدركت أن ضريبة ( الألم ) ارتفعت هى الأخرى لتلحق بأخواتها من أنواع الضرائب الأخرى التى ارتفعت بشكل جنونى فى الآونة الأخيرة مع قرينتها الأسعار .
أغمضت عينى وحاولت استعادة تفاصيل السهرة لعلها تنسينى آلامى ولكن هيهات فالآلام تزايدت وتزايدت وأصبحت لا تطاق وكلما سرحت بفكرة جذبنى الألم بشدة كزوجة ترغم زوجها ألا يتركها وألا يفكر فى مخلوق سواها .
لفت انتباهى أن محطة الأغانى بالمذياع قطعت برنامجها وإذاعة أغانيها وبدأت فى إذاعة مارشات عسكرية وقرآن كريم ، ولما كنت من الجيل الذى يعلم معنى قطع الإذاعة لبرامجها وإذاعة المارشات العسكرية والقرآن فقد انفرجت أساريرى واستبشرت خيرا .. !! 
بعد فترة ليست بالقليلة توقفت هذه المقدمات وانبرى المذيع يعلن عن إلقاء بيان هام وفجأة سمعت نفس صوت المسئول الكبير رفيع المستوى الذى حضرت حفل زفاف كريمته الليلة الماضية يلقى البيان قائلا : أيها المواطنون  .. إزيكم .. عاملين أيه .. وحشتونى .. بقالى مدة كبيرة ماشفتكوش .. وعيالكم عاملين أيه .. يا رب تكونوا بخير .
أيها المواطنون .. انتو عارفين طبعا مبدأ الشفافية اللى عودتكم عليه .. نتكلم دايما فى كل المواضيع اللى تخصنا بوضوح وبصراحة .
أيها المواطنون .. عايز أقولكم أنا ماعرفتش أنام من أمبارح وسهران طول الليل أفكر فيكم وفى أحوالكم وآن الأوان أن أعلن ليكم أخبار فى غاية الخطورة وكمان هاقولكم على قرارات أخطر ، وعشان كده أنا أدعوكم للنزول إلى ميدان المحطة بعد الغدا – إن شاء الله – عشان عاوز أقولكم كلمتين ( face to face ) أوعوا تتأخروا .
ولما كنت منذ ساعات مدعوا لحضور حفل زفاف كريمته وسهران طوال الليل مع المسئول الكبير رفيع المستوى نتفكر فى أحوال المواطنين وكيف نرفع المعاناة عن كاهلهم .. !! فقد رأيت من باب الذوق والأدب وكذلك من باب الفضول لمعرفة ما هى القرارات المصيرية التى اتخذها المسئول الكبير رفيع المستوى فى سهرة أمس أن أكون من أول المتواجدين بالميدان ، وبالفعل ارتديت ملابسى سريعا وهرولت إلى الميدان لأحجز مكانى فى الصفوف الأولى قبل أن تزدحم الشوارع بالميادين من الجماهير الغفيرة المتجهة لميدان المحطة .. وقد صدق ظنى فقد اتجهت الجماهير الغفيرة إلى الميدان جماعات وأفرادا وتوقفت حركة المرور تماما بالشوارع الرئيسية والميادين المؤدية للميدان .. اتخذت طرقا فرعية بديلة حتى وصلت للميدان ومنه اخترقت الأبدان المتراصة المتلاحمة حتى أكون على مستوى القاعدة (أقصد المنصة).
حضر سيادة المسئول الكبير رفيع المستوى فى الميعاد المحدد تبدو عليه علامات التخمة من أثر الإسراف فى تناول وجبة الغداء واتخذ مكانه بالمنصة ووقف يقول :
أيها المواطنون بحكم موقعى كمسئول كبير رفيع المستوى هدخل فى الموضوع علطول وبدون مقدمات عشان معنديش وقت ومش فاضيلكم .. انتوا طبعا عارفين عدونا اللعين المتربص بنا من سنين طويلة ومحاولاته المستميتة لتدميرنا وتدمير بنيتنا الداخلية هو وأعوانه وآلته الإعلامية التى تدمر أفكار أبناءنا وبناتنا بنشر الأكاذيب والدعايات المضللة .
أيها المواطنون إن عدونا " داء السكرى " الشهير باسم مرض السكر على مدار سنوات وهو يحاول أن ينخر السوس فى أجسادنا ونشر أمراضه المعاونة له فدمر أكبادنا وأفشل كلياتنا وبتر أقدامنا وافقدنا أسماعنا وأضعف أبصارنا وآخر الأمراض المعاونة له والتى لا تقل أهمية عن الأمراض المعاونة الأخرى هو مرض إلتهاب الأعصاب الطرفية الذى يصيب أطراف أصابع اليدين والقدمين بالآلام المبرحة وإن كان قد استهدف عدد كبير من أجيالنا والأجيال السابقة فإننا حاليا سوف نقف له بالمرصاد أن يمتد إلى شبابنا وأطفالنا وخاصة بعد أن نجحت آلاتهم الإعلامية فى ظهور ظاهرات غريبة على مجتمعنا منها على سبيل المثال محلات الزلابية ولقمة القاضى والوجبات السريعة التى انتشرت بشكل كبير أمام  المولات والهايبر ماركت.
وعليه .. فقد أعلنا الحرب الشاملة على مرض إلتهاب الأعصاب الطرفية واتخذنا التدابير والإجراءات التالية :
إعلان حالة الطوارئ والتعبئة العامة وتدبير أحدث الأسلحة لمواجهة هذا العدو الغاشم وطبعا عشان معندناش أسلحة مناسبة ومش بنصنع أسلحة وحاجاتنا كلها مستوردة فقد قمنا بعقد صفقات لاستيراد أحدث الأسلحة من أمبولات ( طويلة المفعول ) وكبسولات ( قصيرة المفعول ) وكذلك العديد من المراهم والكريمات المسكنة .
إغلاق كافة محلات الزلابية ولقمة القاضى وكذلك محلات الحلويات كما تم التنبيه على محلات الألبان الابتعاد عن عمل الرز بلبن بالقشطة والكنافة والبسبوسة والعسل الأبيض اللى أنا بحبه شخصيا ووقف استيراد ( بلح الشام ) وأخذا فى الاحتياط سيتم وقف استيراد ( عنب اليمن ) .
القبض على الإرهابى المدعو " على " للضغط على أمه الست " أم على " لوقف عمل طاجنها الشهير باسمها .. وكذلك عزل " القاضى " وقطع " لقمة " عيشه .. أما بالنسبة للحاجة " زينب " فسوف نقطع صوابعها اللى بتتكاثر بشكل مخيف .
أيها المواطنون .. أقولكم أيه أنا تعبت وأنتو كمان تعبتونى وأنا أساسا عندى السكر وعندى إلتهاب أعصاب طرفية وأطراف أيدى ورجلى هتموتنى .. أقولكم ( see you later ) بااااااااااااااااى .
ولوح المسئول الكبير رفيع المستوى بيديه للجماهير الغفيرة وانطلق مخترقا ومعه حرسه ذوى الأجسام العريضة تحاول شق صفوف الجماهير الغفيرة التى تحاول مصافحة وتقبيل المسئول الكبير رفيع المستوى ، والتحمت الأجسام العريضة بالجماهير الغفيرة وأنا بينهما أحاول تخليص نفسى منهما وأخذت أدفعهما بكل ما أوتيت من قوة حتى خارت قواى ووقعت على الأرض تدهسنى أقدامهما حتى فقدت وعى .
بعد فترة بدأت استرد وعى وأتلمس مواضع الألم بعظامى بعد المعركة الطاحنة بين الجماهير الغفيرة والأجسام العريضة التى لم يهزم فيها غير العبدلله لأجد نفسى ملقى على الأرض بجوار سريرى مرتديا بيجامتى والتى لا زالت تحتفظ بكامل حيويتها ونشاطها ، فركت عينى مرارا لأتأكد من وجودى بمنزلى .. وسمعت صوت المذياع بجانبى لا يزال يذيع أغانيه ، نظرت إلى المنبه بجوار المذياع لأجد عقاربه قد تجاوزت الثامنة صباحا بعدة دقائق .
حاولت الجلوس ومددت يدى على الطاولة التقط الدهان المسكن لدهان أماكن الألم من أثر سقوطى من على السرير وقد قررت الاعتذار نهائيا عن حضور أى احتفال يدعونى إليه المسئول الكبير رفيع المستوى .
تمت 
بقلم : محمود حفنى
 

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by

articles

8

followers

4

followings

1

similar articles