المسعور  : قصة من وحي الواقع

المسعور : قصة من وحي الواقع

0 reviews


 

عانقني بحرارة مظهرا حفاوة الاستقبال ثم قال يلثغ الكلام :

- "مغحبا " بك يا أخي في "مزغعتي" وبين أهلي ..

وأضاف : تفضل "بالجلوث " على هذه "الأغيكة"  .. إنها مغيحة " ...

كان ينطق السين ثاء وأحيانا شينا والراء غينا مما يجعل عجمة في كلامه، ثم أردف بالقول متفاخرا :

-"إنها مصنوعة يا حبيبي من صفصاف الحوغ( الحور)، ومفروشة بجلد الجمال، ثقفها(سقفها) يغطيه القصب والشماغ( السمار) وتظلله أشجاغ الكغم(الكرم) واللوز".

جذب كرسيا وجلس قبالتي : أتصدق أنني تعلمت تهجين الحروف في ظرف وجيز .. إنها لغة مطلوبة في عالم المال والأعمال يا حبيبي .!

 لم تكن تبدو عليه آثار السنين ولم تتغير ملامحه كثيرا رغم مرور أربعة عقود ونيف، لكنني كنت مذهولا من الميوعة التي صارت في كلامه .

-  لقد "هغمت"  يا صاح .. هل تكالبت عليك الهموم ؟؟

قلت مبتسما : وهل هناك حياة بدون هموم يا صديقي ؟؟... الحمد لله على كل حال ..

قال : ونعم بالله، ثم احتكر الكلام و شرع يحكي عن قصصه المطولة مع الكلاب  ..

- أنت تعلم يا صديقي أنني أجد مع الكلاب سعادتي، لذلك أنا مولع للأبد بتربيتها .. إنها تسليني عن الكدر والمشاغل ..

-هل تذكر "بونو" الشجاع ذو الذنب الطويل والشعر الأحمر القاتم ، الذي أهدته السيدة "فرجينيا" لأبي وهو ما يزال جروا صغيرا ؟؟ ... لقد كان أول كلب أعرفه و أصاحبه وألعب معه .. هل تصدق أنه تربى معنا حتى صار فردا من أفراد العائلة ؟! .. لم أكن أعرف وقتها أنه كلب ينتمي لسلالة من كلاب الصيد المنتسبة لعائلة "الفلاشينغ" .. ونظرا لأن أبي لم يكن يملك بندقية صيد حتى نصحبه معنا لتعقب الطرائد، فقد دأب على حراسة المنزل والزقاق بيقظة ومن دون فتور .. وراج على الألسنة بالحارة أن آل "الرامي" لعنة الله عليهم، هم من قاموا حسدا من عند أنفسهم بإطعامه لحما مسموما، حتى يتسيد كلبهم الأعور الزقاق .. السفلة لا يفهمون أن "بونو" كان ما يزال أعزب، وأنني كنت أرغب بتزويجه ورؤية ثمرة عنائي في نسله .. !

 لقد أحزنني موته يا أخي ! ودون أن يترك لي فرصة لأواسيه، وأناغيه بما يوافقه، ظل مسيطرا بكل حواسه على الحكاية .. - ولا أخفيك يا صديقي أنني حاولت الانتقام ..  ضربت كلبهم ضربا مُبَرِّحا في إحدى الليالي بعصا مدببة، لكنه ختلني في اليوم الموالي وعضني .. لحسن الحظ أنه لم يكن مصابا بالسعار ! .......

 نادى على الخادم وطلب منه إعداد طبق من الحلوى وكأس شاي احتفاء بي، ثم سأله :

- هل تعشى "الجروان"  ؟؟

- نعم يا سيدي .

ثم دلف إلي مجيبا وكأنني سألته : الجرو الأشقر أنثى وسميتها "سالي" والجرو الأرقط ذكر وسميته "ريكو" .. إنها قصة طويلة يا أخي.. لقد كلفني الأمر شهورا من التنقيب عن أصل وفصل هذه السلالة المؤصلة، وانتهيت إلى أنهما ينحدران من فصيلة "الهسكي" الآلاسكية التي ينتمي نسلها جينيا إلى عائلة "الاسبتز"  ... والقصة وما فيها أنني سمعت من أحد معارفي أن أحد تجار الكلاب، يعرض جراء حديثة الولادة من أسلاف الهسكي للبيع بأثمنة مغرية .. سارعت بعد سماع الخبر إلى الذهاب إليه، ومفاوضته حول الثمن حتى لا أضيع هذه الفرصة.. كان شاطرا لا يتكلم كثيرا ولكنني دوخته بكثرة الكلام، فاستسلم أخيرا للألفي دولار قائلا لي : ليس عيبا أن يلهث الانسان وراء المال ..

عاد الخادم ووضع الصينية والطبق ثم انصرف ..

-  أعمرك الله أن تتناول منها دون خوف .. إنها حلوى بلدية لذيذة بدون سكر، ثم صب كؤوس الشاي المعطر قائلا في زهو : إنه شاي فريد معد بأعشاب عطرية تنمو في مزرعتي ..

قلت مظهرا امتناني : مذاق ساحر .. شكرا على كرمك .

ثم قال من غير اضطراد :

أنا مفتون يا أخي ! إن"ميمونة" لم تعد تلك البلهاء القنوعة التي كنت أعرفها .. إنها صارت تنهشني وتبتزني لتتباهى أمام زيجات الجيران ! .. إنها تبذر المال في السفريات، وفي اقتناء الحلي والملابس والعطور، ويا ليتها علمت كم شقيت في تحويش تلك الأقراش .. كما أنها تجمع الأولاد لتستنبحهم وتحرضهم علي قائلة :" إن أباكم لا يريد أن يرى أثر النعمة عليكم ..وقريبا ستضع "حليمته " تلك مولودها ليحتل مكانكم من قلبه، فماذا تنتظرون ؟؟ إذا لم تبادروا بانتزاع جزء من ثروته قبل أن تقبل تلك البطينة وعشيرتها على زرطها، فستطلعون من دار الوليمة بلا حمص ! .....

عمدت بعد ذلك يا أخي في سرية تامة إلى جمع كل الوثائق، الرسوم العقارية والسندات المالية تحسبا لتقلب الأوضاع، وأودعتها في كيس رميته في بئر جافة داخل المزرعة، ثم أشار بيده إلى ناحيتها وأقسم أن لا أحد يعلم بالأمر سوانا ..

تغير لون وجهي فقال مستدركا : لا تحمل هم سرقة الكيس

 أو ضياعه .. الكلاب تحرسه وتحميه .. واسترسل في الكلام مثرثرا ومن دون انقطاع : صحيح أنني ابتعت الجروين من صاحبهما الألماني بألفي دولار أمريكي، وهو مبلغ قد يبدو مبالغا فيه مقابل جروين صغيرين ما زالا بحاجة لحليب أمهما .. ولكنهما من سلالة نقية من الكلاب التي لا يمكن أن تجد لها أثرا إلا في القصور الفخمة والدور الراقية .. أما سومتها في سوق الكلاب فهي لا تهبط على ثلاثة آلاف دولار للجرو الواحد ... ثم أضاف : هذا واخترت من بين الذكور الوليدة، أطولها قامة وأصلبها عودا، ومن الإناث أكبرها عيونا وأكثرها جمالا، حتى أن التاجر ظل متسمرا ينظر إلي وأنا أفحص الجراء وأعيد فحصها فقال لي مندهشا : هل أنت خبير كلاب ؟!

قبض الدولارات وعدها ثم أعاد عدها، فسلمني الجروين قائلا : مَلاَّك الله بهما .. قمت مباشرة بعيادة طبيب بيطري أثق في كفاءته ليفحصهما، وبعد الكشف عنهما تبين أنهما سليمان .. فرحت فرحا شديدا بهذا الخبر ! ..  وصف لي بعض الأدوية الوقائية وعدد من المقويات والمكملات الغذائية، كما نصحني بإرضاعهما الحليب المعقم في الأيام الأولى قائلا : لا تنس أن تقتني مرضعتين ! فكم يستطيع ثدي واحد أن يرضع من الكلاب ؟! ..

بعد هذه المقدمة التي أوجزت ما أمكن في سردها، أخذني في جولة قصيرة في المزرعة التي تتعدى مساحتها الأربعين هكتارا وأنا أتمنى أن يخوض في حديث غير الحديث عن الكلاب :

عاد ليشحنني بالكلام عن مواهبه وإنجازاته وقال وهو ينفخ شدقيه:

- إنني أطوف حول المزرعة على ظهر حصاني "أنجو" في خلال دقائق ..

- أن تتجول على ظهر جواد أصيل ترافقك سرية من الكلاب المجندة .. إنها متعة منقطعة النظير !...ثم تمشى حتى توقف بجانب حظيرة مسيجة بالعيدان والأشواك، وفتح بابا حديديا فخرجت سربة من الكلاب الوحشية .. 

- إنها كلاب الحراسة .. أسجنها نهارا لتتوق للحرية وأسرحها ليلا لتجول وتطوف حول المزرعة؛ تعس على المنقولات وتفرض هيبة في المكان .. اضطربت وانزعجت من نباحها وهي تحيط بي وتنظر إلي بعيون شزرة ... كان يطمئنني : لا تخف إنها لن تؤذيك، إنها ترحب بك .. هي حقا ضارية وعضاتها تمزق اللحم و تهشم العظم ! لكنها مدربة ولا تهاجم إلا إذا أمرتها بالهجوم، ثم أمرها بالانصراف فانصرفت .

أحسست بالتبرم وأثار الأمر حَنَقي ...

التفت إلي : إذا كنت صديقا للكلاب فلن تجرؤ على ملاعبتك الثعالب ولن تدنو من ساحتك الذئاب .. وماس في مشيته قليلا ومشيت وراءه وأنا مصدوم كمن نزلت به قارعة ، ثم توقف في مكان مظلم فتوقفت ... نادى على الخادم وأومأ إليه بإشعال المصباح...ثم قال ينعنع الكلام من جديد :

"هذا كشك "غيكو" و"ثالي".... "لقد كلفني تصميمه وبناؤه شهرا كاملا ...وقد صنعت أعمدته من خشب الأغز ( الأرز)و جدغانه (جدرانه)من أغصان الصنوبغ( الصنوبر) ، وغلفتها بوغق ( بورق) شجغ العغعاغ ( شجر العرعار) ، أما الشقف ( السقف) فجعلته من طبقتين..طبقة داخلية معزولة من الفلين وطبقة خارجية حامية مشكلة من حزمات النخل المثبثة بحبال مفتولة من خيوط أوغاق (أوراق) الدوم،وذلك لينعم الجغوان(الجروان) داخله بحياة دافئة لا تلفحهما فيه أشعة الشمش ولا يلثعهم( يلسعهم) بغد (برد)الليالي ، وقد كلفت الخادم بتنظيفه كل مساء بينما آخذهما في جولة ليلعبا ويمغحا( يمرحا) ويتفقدا المكان... لقد تعلقت بهما كثيغا( كثيرا) يا صاح..."

ظللت صامتا أنصت إليه وأنا أحبس ضحكة أجدها بي حتى لا أثير سخطه ..سكت لحظة ظننته يرأف لحالي ويصمت، ثم أخرج مقلتيه وتابع : ولكن لا يمكن السكوت على مثل تلك الحماقات... الكلاب إذا جوعتها تمسكنت وإذا أشبعتها تمردت! إنهما مشاكسان .. لذلك أضربهما أحيانا بقسوة حتى يذعنا للأوامر، وحتى لا يعودا لتكرار الأفعال المشينة التي لا تليق بجراء خالصة النسب في مثل سنهما .. صدعت وأحسست بسخونة تفور من جبيني ...قلت لنفسي : لا بد من اختلاق عذر للتخلص من قبضة هذا الهذار، فقلت له وأنا أنظر لساعتي : إنها الثامنة والنصف ليلا يا أخي ..الحديث معك شيق ولكنني تأخرت وزوجتي بانتظاري، من اللازم أن أقتني بعض الأغراض من المدينة قبل أن تغلق الدكاكين أبوابها .. يمكن أن نكمل حديثنا في فرصة أخرى إن شاء الله ..

فقال : بالطبع ستكون هناك لقاءات وجلسات .. وسنحيي الليالي لاسترجاع الذكريات .. لقد سعدت جدا بلقائك ..

و تابع : ...إن "حليمة" رفضت أن تقطن معي في المزرعة بسبب كرهها وتقززها من الكلاب .. وحتى أسترضيها فقد قمت باستئجار شقة راقية لها بحي "الشمس' وسط المدينة وهو أمر مكلف .. ولكنني أجعلها بالمقابل تنتظرني بالساعات وأحيانا بالأيام كي أتفرغ للاعتناء بكلابي .. البليدة لا تفهم أن الكلاب التي تشمئز من مجرد سماع نحنحتها، إذا قربتها إليك وأكرمتها فلن تفكر في الغدر بك أبدا، مثلما قد يهون على من أحسنت إليهم من إخوانك أن يعضوك ! .........

ودون أن يترك لي مجالا للتملص، سألني عن عنوان سكني

- مفوضا أمري لله : الرقم خمسة وخمسون ، الطابق الثاني .. زقاق الفينيق .. حارة " العطارين" ........

- أنت تقطن في "حاغة العطاغين إذن ."...يا للصدفة الغغيبة ( الغريبة) ؟؟؟ " المسافة الفاصلة بين "حي الشمش" و"حاغة العطاغين" لا تتعدى نصف ساعة مشيا على الأقدام ..

أنا أتحسر والله لأنني لم أكن أعلم أنك كنت تقطن في الجوار كل هذه السنوات .. على الأقل كنا سنرى ونسمع بعضنا .. من المؤسف جدا أن يكون لديك ما تحكيه ولكننك لا تجد من يسمعك...

...صعد لسيارته، فتح النافذة : 

- كن منتبها في الطريق وسر على مهل .. 

ركبت على دراجتي النارية وأدرت المحرك .. أشعلت الأضواء الأمامية والخلفية أجربها .. كانت على ما يرام ؛ بيد أن سربة الكلاب كانت قريبة مني وتحوم حولي .

- انطلق ولا تخف .. إنها لن تؤذيك .. إنما جاءت لتوديعك ..

- مجاملا : شكرا على هذه الفسحة الرائعة يا أخي، وأنا أقول في داخلي : تف لها من فسحة !

- العفو يا أخي .. إذا أحسست بضيق او اختناق فلا تتردد في عيادتي بالمزرعة يا صديق العمر، فأنت مرحب بك على طول..

قلت وأنا لا ألوي إلا على الخلاص: أنا ممنون !

وقبل أن يدير عجلات سيارته ،طلب مني إملاء رقم هاتفي وقام بتسجيله ..

-؛بإمكانك الانصراف .. لا تصرف انتباهك عن الهاتف، فمن المؤكد أنني سأكالمك هذه الليلة .. اعتن بحالك .. إلى اللقاء ..

عدت إلى البيت وأنا موجوع الرأس خائر النفس .. تمنيت أن يسلط عليه الله من يشغله حتى ينساني على الأقل هذه الليلة .. وقبل أن أشرع في تغيير ملابسي لأخذ نفس جديد، بدأ  الهاتف يرن .. نظرت في الشاشة فتأكد لي أنني في ورطة وأنني صرت أشغولة من أشاغيله .. فكرت بالرد عليه ومصارحته بأنه قد أقلق راحتي، وأنني متعب ولدي شغل في الصبح، لكني عدلت عن الفكرة في الحال وقررت ألا أجيبه .. ظل الهاتف يرن ويرن ويرن .... وكلما انقطع الاتصال عاود المهاتفة، فاستسلمت وناولت "شلبية" الهاتف بعدما لقنتها ما تقول ..

فتحت الخط قائلة : آلو من معي ؟؟

- أنا صديق عمر زوجك "سالم" ...سأكون ممتنا إذا تكرمت بالمناداة عليه فأنا أريد أن أحادثه في أمر مهم ..

أجابته : لي الشرف يا سيدي، ولكن أنا آسفة : 

- " سالم بياخذ دش في الحمام " ..

المسعور بجرأة مستهجنة : الرجاء أن تبلغيه عندما يخرج من الحمام أنني في انتظاره .. شكرا و المعذرة عن الازعاج" .

نزعت البطارية وبدأت أفكر في تغيير رقم هاتفي، ومقر سكناي ! لأنني بت متيقنا بأن هذا الفاك إن لم يتمكن من مسكي على الهاتف، فإنه سيكون في خلال دقائق عند العتبة يطرق باب بيتي ليهججني ..

وما هي إلا لحظات قليلة حتى سمعت طرقا قويا يزعزع الباب وصوتا متحشرجا  :

                       إفتح يا "شالم" أنا أخوك "عنعنون".

م.أ.سحبان

 


 

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by

articles

8

followers

9

followings

17

similar articles