شرفاء هذا الزمان
المطاردة
ظل يجري و يجري دون توقف ، وهو يلهث وينهج ،وتكاد أنفاسه تتقطع ، في الصحراء القائظة الممتدة أمامه بلا نهاية ، أرهقه الظمأ ، وجف ريقه جفافا شديدا من شدة التعب ، وزاغت عيناه من الإرهاق ، و ابتلت ملابسه من العرق الذي بدأ ينهمر من أرجاء جسده ، و استبد به القلق و بدأ التوتر النفسي ينتابه ، و لكن الخوف بمعناه الحقيقي في البداية لم يتسرب إلى نفسه ...
و كاد شريط الذكريات البعيدة في مخيلته و القريبة من ذاكرته يصيبه بالخوف على مستقبله الذي بناه بتأني خلال السنوات الماضية ، و تساءل بينه و بين نفسه ، ماذا يحدث لي ؟ من هؤلاء الذين يطاردونني ؟ و لماذا يطاردونني ؟
في بادئ الأمر ظن أنهم رجال الشرطة، و خاب ظنه فقد لمح ببصره ثلاثة أشخاص فقط من مطارديه ملثمين .
بالتأكيد أنهم من أعدائه ، و لكنه لا يعرف له عدوا محددا إلا في الفترة الأخيرة من مشواره الطويل في هذا الطريق الذي رفضه منذ البداية ، ولكنه أجبر على المضي فيه ، بعد أن تورط مع معلمه ، و لا يظن أنهم يجرؤون على فعل ذلك العمل الخطير إلا بمباركة رؤسائهم .. فالكل – في هذا النوع من التجارة المحرمة - أصدقائه فهو الذي يجعلهم يعيشون كالملوك في حياتهم الرغدة من العيش و الرفاهية و الدعة ، وهو الذي رغم رفضه لهذا العمل المضر قد اشترك و بشكل غير مباشر في هذه التجارة المحرمة .
و من العجب أن هؤلاء الأصدقاء في نفس الوقت أعداء ، يضحكون في وجهه وهم يدبرون أمرا في سريرتهم ، كل واحد منهم لا يهمه إلا مصلحته فقط ، و من أجل مصلحتهم فهم مستعدون أن يقتلوا من يريد ون ، أو يصاحبوا من يريدون ، إنهم الشياطين الحمر في صورة بشرية ، و الشياطين بكل عبقريتهم و أساليبهم لا يضاهون هؤلاء التجار الذين اختفى ضميرهم في غياهب الأيام، و تحجرت قلوبهم، لا يهمهم ضحاياهم المهم عندهم مكاسبهم الخيالية .
لا يهمه هذا مؤقتا ، فالعودة إلى الموقف الذي هو فيه أفضل حتى يستطيع أن يتصرف بهدوء و بحكمة ، فهو يعرف دروب هذه الصحراء جيدا ، يعرف رمالها حبة حبة ، وصخورها بألوانها المختلفة و تلالها الصغيرة و الكبيرة ، بل حتى يعرف حيواناتها الأليفة منها والمتوحشة و حشراتها النافعة و الضارة ، فقد دخلها أكثر من مرة سواء مع معلمه الكبير ، أو مع أحد رجاله المخلصين ، يعرف دهاليزها كما يعرف نفسه . يعرف أين يختبئ إذا أحس بخطر يقترب منه؟ كيف يهرب من مطارديه الذين يلحون في طلبه ؟
و قفزت إلى مخيلته صورة مطارديه الثلاث مرة أخرى ، لقد قتلوا حراسه الثلاث بدم بارد ، و كأنهم يقتلون حشرة من الحشرات السامة .. و لكنهم تركوه بعد أن أصابوا إطارات سيارته الأربع برصاصهم الغزير ، فلماذا لم يقتلوه هو الآخر . هل طلب منهم من أمرهم أن يأتوا به حياً ؟ و من هذا الذي طلب منهم هذا الطلب .. إن كتبت له الحياة سيعرف كل شيء عن ذلك العدو الذي يجهله إلى الآن، وسوف ينتقم منه و منهم أشد الانتقام .
إنهم يجبرونه على الاتجاه إلى مكان محدد ، مكان يعرفونه جيدا ، كما يعرفه هو ، إذن فهم يعرفون كل شيء عن نشاطه ، و عن الأماكن التي يتردد إليها ، يعرفون مكان المخزن المهجور الذي يشحن فيه البضاعة ، فهم من أحد المقربين إلى نشاط معلمه ، إنهم أقرب إليه فهم ، ولا شك ممن يعملون مع التجار الكبار .
انطلق يجري – رغم أنفاسه - بعد أن عرف أن هناك مكانا آمنا يستطيع أن يختبأ فيه من مطارديه .. ذلك الكوخ الذي كانوا يخبئون فيه السلاح و المتفجرات و الممنوعات ، وجعله معلمه وكرا آمنا لا يعرفه إلا رجاله المقربين منه ، يزوره بين الحين و الحين ، يخفي فيه بضاعته الممنوعة ، يستطيع إذا وصل إلى هناك أن يأخذ ما شاء له من السلاح المخبئ في ذلك الكوخ ، ويدافع عن نفسه به ، بما يملك من قوة وذكاء معهود فيه .
اقتربت الشمس من المغيب ، وبدأ قرصها يحفر رمال الصحراء للمبيت فيها بعد يوم طويل كانت ظاهرة فيه بوضوح ، لم تحجبها غيوم ، و لكنه لمح الكوخ أخيرا ، هدفه المنشود و هدفهم الذي يرغبون فيه ، و سمع أيضا أصوات أقدام مطارديه و هي تقترب مصممة على المطاردة . و هو يعرف أن هذه المطاردة لن تنتهي إلا بقتله ، أو قتلهم .. المهم أن ينتصر طرف في النهاية ، أو تحقيق الهدف المحدد لهم من هذه المهمة .
و يدخل الكوخ أخيرا لكي يسترد أنفاسه اللاهثة بعد هذا المجهود الذي بذله اثناء المطاردة ، وفي نفس الوقت يأخذ سلاحا من الأسلحة التي في المخزن يدافع به عن نفسه ضد هؤلاء المطاردين ، كانت أذناه مرهفة - كأرنب بري - لأصوات مطارديه الذين ظلوا على عناد في مطاردته حتى النهاية .
فُتح الباب – باب الكوخ الذي بناه معلمه في الصحراء ليخبأ فيه بضاعته - مصدرا صوت أزيزه العالي ، فأطلق بعض الرصاصات لإرهابهم ، و لكنها طاشت جميعها فلم تصب أحد ، ولم يتبادلوا معه اطلاق النار ، و ظل يترقب الموقف لعل أحدهم يدخل ، ولكن الحركة حول الكوخ كانت هادئة ، فكلا الطرفين كان حذرا متربصا ، ينتظر إما أن يخرج هو و أما أن يدخلوا هم ، و الصمت يلف المكان بعباءته السوداء .
كان الليل قد أرخى سدوله ، وأطبق الظلام على الفضاء الواسع حول المكان .. و الصحراء حينما يلفها الظلام تبدو موحشة وحشة قابضة للنفس ، تتراقص فيه خيلات كأنها أشباح حية .. و لكن القلق لم يقترب إلى نفس حسين ، فقد كان رابط الجأش ، قوي الإعصاب ، وكيف له أن يعيش هذا القلق ؛ وهو يمارسه كل يوم ، فقد أعتاد على الحذر الشديد في كل تصرفاته ، و الصبر الذي عود نفسه عليه ، وسرعة التفكير و سرعة البديهة ، وهما مطلوبان لكي يتغلب على المواقف الصعبة التي تصادفه و يتعرض لها ، و ما أكثر هذه المواقف الصعبة التي تمر عليه في مهنته القذرة .
و فجأة وجد ثلاثة رجال يحيطون به ، لعلهم زحفوا على بطونهم في الأرض فلم يراهم والباب مفتوح ، دخلوا وقد صوبوا أسلحتهم الرشاشة إليه ، شل تفكيره تماما من هول المفاجأة ، و استسلم للأمر الواقع الذي لا مفر له منه ، فلا فائدة للمقاومة .. لقد أصبح مثل الفأر الذي دخل المصيدة ، لا حول له و لا قوة ، أما المقاومة فقد تكلفه حياته ، فماذا يستفيد من المقاومة غير الموت ، إذن فليقبع ساكنا بلا حراك ، و ليستسلم للأمر الواقع الذي فرض عليه ، و ليرمي هذا المسدس بالقرب من رجليه لعله يحتاج إليه إذا جاءته الفرصة المناسبة للتخلص منهم .
تقدم أحد المطاردين بخطوات وئيدة حذرة ، وهو مصوب مسدسه نحوه ، فوضع يدي حسين خلف ظهره ، وقيده بحبل متين من الحبال الموجودة في الكوخ ، و تقدم الآخر فأوثق قيده على رجليه أيضا ، حتى لا يستطيع الحراك ، و سحبوه إلى أحد البراميل في أقصى الكوخ .. كان حسين يعرف هذه البراميل جيدا ، فرجال معلمه هم من وضعوها لاستخدامها وقت الحاجة ، فهي براميل البارود .
أصبح حسين عاجزا عن الحركة ، مشلول جسدا و فكرا، تقدم ثالث مطارديه فوضع شمعة أعلى البرميل الذي قيدوه بالقرب منه ، فأضاءت المكان إضاءة خافتة .
حاول حسين أن يتعرف ملامح مطارديه ، و لكنهم كانوا ملثمين ، فلم تظهر إلا عيونهم الباردة الجامدة التي لا تنم عن شيء .. رغم الابتسامة الباهتة ، حاول استعطافهم بالمال ، فلم ينطقوا ببنت شفة ، فيبدو أن من أوصاهم بهذه العملية أمرهم بالصمت ، و كأنهم بكم صم لا إحساس فيهم ، و استداروا عائدين من حيث أتوا .
هل هذا فقط ما جاءوا من أجله ، هل بهذا أوصاهم معلمهم .. الموت البطيء سواء أكان نفسيا أم جسديا .. الموت بلا اُثر حتى لأشلائه التي سوف تتناثر في أنحاء المكان ليكون طعاما شهيا لحيوانات الصحراء المفترسة و طيورها الجارحة صباحا .
كان القلق قد بدأ يتسرب إلى فكر و قلب حسين ، فها هو لا يستطيع الحركة من تلك القيود التي قيد بها ، فأقل حركة منه قد تسقط الشمعة التي أخذت في التناقص .. واقتربت من البارود ، مما يعني انفجار المكان كله ، وهو أيضا في جلسته لا يقدر على فك وثاقه ، فيديه خلف ظهره ، ورجليه قد ثبتت أسفله بهذا الحبل اللعين ، و لم تفلح محاولته المتكررة إلا في ترخيه القيد ، و لكن هل الوقت يسعفه قبل أن يصل اللهب إلى البرميل .
الشعور بالخوف شعور مركب يشل الطاقة الحيوية لدى الإنسان ، فلا يستطيع التفكير ، و كأن الاضطراب و الترقب قد شل قدرته على التصرف ، و كيف يتصرف وهو في هذا الموقف .
و تمنى – كما يتمنى من يوشك على الموت - لو أن الشمعة التي وضعت على البرميل قريبة منه ، فيستطيع أن يطفئها بنفخة واحدة من فمه ، أو بذلك العرق الذي بدأ ينهمر من جسده كله مرة أخرى ، و لكنهم تركوا الشمعة بعيدا عنه ، في مكان لا يؤثر فيه حتى هواء ليل الصيف العابر من باب الكوخ المفتوح .
و ها هو في مكمنه يعرف جيدا أنهم لم يغادروا المكان ، و لن يغادروه إلا حينما يتأكدوا من أن الخطة التي وضعت لهم للقضاء عليه قد نفذت على أكمل وجه ، و دون أخطاء ، تلك الخطة التي وضعها معلمهم ، وينفذونها بدقة متناهية .
عاد الصمت يطبق على المكان بلا هوادة ، فشعر أن الموت يقترب منه رويدا رويدا ، و قد تكون هذا ليلته الأخيرة في هذا العالم الفاني ، سيترك الدنيا و سيترك كل ما عمله في فترة قصيرة من عمله الدؤوب ، سيترك هذا العالم وهو الذي كان يرسم للمستقبل رسوما قد بدأ في تنفيذ بعضها ، و مازال أمامه الكثير لكي يحققه .
لمح وهو في هذا الموقف حشرة تقترب منه بسرعة ، ظنها في أول الأمر حشرة من حشرات الصحراء القاتلة .. فهل هو ناقص ذلك أيضا .. الموت يحاصره من كل اتجاه .. و لكنه تبين حين اقتربت منه أنها فراشة ، و اقتربت الفراشة منه ، فراشة كبيرة ذات ألوان بديعة ، وقفت الفراشة أولا فوق رأسه ، وكأنها ترتاح من عناء رحلة طويلة ، مثل الرحلة التي قطعها هو منذ قليل ، و إن كان الفرق بينهما شاسع، ولكن رأسه لم تكن هدف الفراشة التي تسعى إليه ، و إنما هدفها هو الوصول إلى الضوء المتراقص فوق برميل البارود ، إلى اللهب الراقد قريبا من رأسه .
كل الفراشات يفعلن ذلك يبحثن عن الضوء الساطع ، عن اللهب في أي مكان ، في كل مكان ، و يحمن حوله ، و طارت الفراشة مرة أخرى ، واقتربت من اللهب الذي بدأ في الاقتراب من البرميل ، هذا اللهب المتوهج الذي يضيء المكان ، انطلقت الفراشة إلى رحلتها الأخيرة ، رحلة الموت ، نحو هدفها المنشود ، وما كادت تصل حتى أظلم المكان من جديد ، لقد انطفأت الشمعة ، وهوت الفراشة إلى رقدتها الأبدية ، هوت الفراشة لتبعث في نفسه الأمل من جديد في الحياة ، لقد شعر بالراحة ، و أن الحياة قد بدأت تعود إليه ، سبحان الله الموت و الحياة في وقت واحد ، تلك هي حكمة الله النافذة في مخلوقاته التي وهبها الحياة و الموت كما قال في كتابه العزيز " يخرج الحي من الميت ، و يخرج الميت من الحياة "
أحس براحة غريبة ممزوجة بالقلق المشوب بالحذر ، يستطيع الآن أن يتحرر من تلك القيود ، بحركات بسيطة أو عنيفة ، حسب ما تسمح به تلك القيود اللعينة التي تؤلم يديه ورجليه ، و خصوصا إنه قد استطاع أن يرخي هذا القيد قبل زيارة الفراشة .
و لكن ما بال هؤلاء المطاردين ، لقد سكنت حركتهم تماما وساد الهدوء خارج الكوخ ،هل غادروا مكمنهم ، هل ينتظرون حتى الآن إما الانفجار أو خروجه .
أحس أن القدر يلعب معه لعبته المرسومة بدقة معلومة و عناية بالغة ما بعدها عناية ، و استطاع أن يتحرك بصعوبة من مكانه ، و حاول جاهدا أن يكمل فك وثاقه ، و بالفعل بعد محاولات عدة استطاع أن يرخي قيود يديه .
تساقطت قطرة أو قطرتين من دمه على رجليه ، أحس بهما ، و لكنه أبدا لم يشعر باليأس أو القنوط ، رغم الألم المبرح ، و أن كل ما يحتاجه الآن هو التوفيق من الله تعالى ، و الحذر و الصبر ، و السرعة في التصرف ، و القدرة على التفكير السليم .. وهي أسلحته المفضلة التي اشتهر بها ، و جعلته يقفز إلى القمة متخطيا كل الصعاب التي واجهته في حياته ، بل الموانع التي كانت تعترضه في بداية حياته التي عانى فيها الفقر المدقع .
كم من الوقت يلزمه ليستطيع أن يصمد في محاولاته اليائسة للعودة إلى الحياة ؟
العودة إلى الحياة .. ما أجمل هذا الكلمة ، ما أشد سحرها في النفس بالنسبة للإنسان الذي يعيش في محنة رهيبة .. الإنسان يعيش في هذا الكون من أجل الحياة ، الحياة فقط ، يعيش و يظن أن الحياة ممتدة أمامه إلى ما لا نهاية و لا يحسب حساب الموت الذي سيلقيه في نهاية المطاف ، يعيش فيجد في عمله كل الجد أو لهوه كل اللهو ليشعر بعدها أن حياته لم تضع سدى ، أن حياته قد أثمرت ، صحيح أن نهاية هذه الحياة هو الموت ، و لكن الإنسان لا يفكر في الموت مادامت الحياة كما يتصورها تسير في طريقه المرسوم .
و لكن هل هؤلاء المطاردون سيعطونه المهلة المناسبة لكي يحرر نفسه ليعود إلى الحياة ؟ ليس من القيود فقط بل من التسلل إلى الخارج ، و خصوصا أن الظلام المقيت إلى نفسه قد عاد يخيم على المكان مرة أخرى ، و لعلهم يترقبونه من بعيد ينتظرون نتيجة عملهم .. ينتظرون أن يحدث ذلك الانفجار اللعين ، لعلهم سيعودون لإشعال الشمعة ، و خصوصا أن الظلام قد لف الكوخ.. و لأنهم قد استبطأوا الانفجار .
كانت يداه قد بدأت في التحرر من القيد ، ورغم الآلام المبرحة التي كانت تلهب يده فإنه استمر في المحاولة ، و أخيرا تحررت يداه ، و كأن الحرية لها مذاق خاص ، شعر بالسعادة تعود إليه بعد معاناة قد فرضت عليه .. وهو يعلم أن الإنسان الحر الذي يملك زمام نفسه يستطيع أن يجد من الوسائل ما يساعده على تغيير وضعه القائم ، فالآن يستطيع أن يحل باقي القيود بسهولة ويسر .. تحررت يداه ، و أخذ يقترب من رجليه ، يفك قيدها بسرعة ، و أخيرا استطاع أن يقف على رجليه ،أخيرا أصبح بلا قيود ، ها هي الحياة تعود مرة أخرى ، ها هي الحرية يدب نسيمها على وجهه .
لم يترك نفسه للفرحة .. كان تفكيره يتجول في كل الاحتمالات التي تواجهه ، و اهتدى تفكيره إلى إشعال شمعة ثانية مرة أخرى ، وقبل أن يشعلها أخذ الفراشة برفق و عناية .. سوف يبني لها مقبرة خاصة تضم رفاتها ، مقبرة في تلك الفيلا التي يعيش فيها ، فهي التي أنقذته من موت محقق ، هي التي وهبت له الحياة مرة أخرى .. موت محتوم لا يعلم إلا الله شكله ، وضعها في جيب القميص العلوي بعناية فائقة ، و أشعل الشمعة من جديد فعاد الضوء إلى المكان كما كان .
بدأ في الزحف عل بطنه خارجا من الكوخ ، كما قعلوا هم تقريبا، فبعد قليل سيكون هذا الكوخ بما فيه أشلاء . واصل زحفه إلى تلة يعرفها بالقرب من الكوخ ، كان رجاله قد أعدوها لتبادل إطلاق النار مع من يهاجمهم من منافسيهم ، أو حتى رجال مكافحة المخدرات .. اختبأ خلف التلة يتحين الفرصة المناسبة للهروب من هذه المطاردة التي كادت تكلفه حياته و أحلامه .
وفجأة انطلق صوت انفجار مدوي ، أشتعل الكوخ بما فيه .. تطايرت أشلاؤه في المكان كله ، و تناثرت في الهواء ، وكادت إحدى هذه الأشلاء أن تصيبه ، لولا أنه تراجع إلى الخلف بسرعة حين لمحها . و لم يمض إلا ثوان معدودات حتى كان الانفجار الثاني ، ثم الثالث ، و هكذا توالت الإنفجارات .. و أضاءت الانفجارات المكان كله ، وكأن النهار قد عاد قبل أوانه .
عاد إلى المكان هدوءه المعهود خلف التلة ، وأخذ يتلصص المكان سائرا في خفة ، و فجأة سمع صوت انفجار آخر من الجهة التي كان قد أتى منها في أول المطاردة ، عرف أن مكان الانفجار هو مكان سيارته ، و لم يلبث أن سمع صوت سيارة تتحرك .
لقد صدق حدسه ، وصدقت تخميناته ، فهم كانوا ينتظرون حتى يتأكدوا من نهايته التي رسمت لهم بعناية فائقة .. إذن فهم ليسوا من رجال مكافحة المخدرات ، إنهم أتباع أحد منافسيه ، صدر إليهم الأمر بتصفيته . وظموا أنهم نفذوا هدفهم المنشود
تتبع إطارات السيارة التي انطلقت بأقصى سرعة بعيدا عن مسرح العمليات .. و هذه المرة قد زال عنه الخوف نهائيا ، وكانت نسمات الهواء الباردة ليلا تساعده على السير و التفكير السليم ، شتان بين رحلة المجيء في الحر الذي كان يعانيه أثناء المطاردة التي كادت تودي بحياته ، و بين رحلة العودة إلى الحياة .. إلى الحرية.. مع نسمات الهواء العليل التي بدأت تنساب في المكان الفسيح .. شعور مختلف كل الاختلاف .. شعور مفرح مبهج .
و أخير وصل إلى مكان سيارته التي تركها حين بدأ إطلاق النار عليه و على حراسه ، وجد هيكلها المتفحم جثة هامدة ، ووجد جثث حراسه الأربعة المتفحمة من جراء الانفجار ، ولكنه شعر بالاطمئنان ، فهو من الممكن أن يكون في هذا المصير الذي لا يتمناه إنسان نهاية لحياته .
لاشيء يهم الآن ، لقد أطمأن على نفسه تماما ، و لاشك أنهم يعتقدون أن قد مات في الانفجار ، المهم الآن أن يصل إلى بر الأمان ، أن يصل مرة أخرى إلى الحياة ، و عليه أن يصمد ، ويذهب إلى مكان آمن يستطيع أن يحتمي به قليلا من الوقت حتى يستطيع أن يعرف من هم الذين وضعوا هذه الخطة ، و لا شك أنه سوف يعرفهم في أقرب فرصة ، سيطلق أحد أصدقائه المخلصين المقربين منه ليعرف هوية هؤلاء الأشخاص .
رغم الألم المبرح الذي كان يشعر به من تلك القيود التي شدت إليه ، و رغم الارهاق الذي يعانيه من ذلك الفكر الذي مازال يشغله ، فقد واصل السير بسرعة حتى يصل إلى أول الطريق خارج الصحراء اللعينة التي بدأ الآن يكرهها أشد الكره .
الطريق خال من المارة ، و من العجب أن السيارات قد رقدت هي الآخرى في تلك الساعات التي تسبق الفجر ، و لكنه لمح سيارة أجرة ، و تحسس جيبه فوجد محفظته في مكانها الذي أعتاد أن يضعها فيه ، و تنفس الصعداء ، أشار إلى قائد السيارة ، فوقف الرجل في الحال ونظر إلى المشير له ، فوجده رث الثياب ، و كاد أن يهرب بسيارته ، و لكنه وقف بعد أن تحرك بضع خطوات .
قال له حسين : الأنفوشي من فضلك
جلس إلى جوار السائق وهو منهك ، و يحاول ألا ينام .
وقف السائق في بداية الأنفوشي ، فمد حسين يده و أخرج مائة جنيها ، اعطاها للسائق ، قال له السائق :
فكة أرجوك ،
و لكنه لمح حسين و قد ابتعد عن السيارة فانطلق السائق هو أيضا كأنه يهرب من لا شيء .
النشأة
نشأ حسين في أسرة فقيرة تعتز بالفقر رفيقا لها ، فهذا الفقر يسكن في نفوس كل القاطنين في هذا البيت المتهالك ، في أحد أحياء الإسكندرية الشعبية القديمة . بل يسكن في كل الحي ، مثله من باقي الأحياء الفقيرة ، إلا فيما ندر .
كان ينظر حوله فيرى تلك البيوت القديمة المتجاورة التي يمسك بعضها البعض تحديا للزمن .. فإذا ما قادته رجليه إلى خارج تلك الأحياء الفقيرة وجد عالما مختلفا عمارات ترتفع بألوانها و أحجامها المختلفة .. فيلات أنيقة . أشجار تحيط بها كأنها تحميها من المتطفلين .. حتى الناس يختلفون اختلافا كبيرا ؛ بأشكالهم بملابسهم و بمشيتهم و بابتسامتهم الدائمة ، بصحتهم الوافرة .. بل أن هناك اختلاف آخر ؛ ففي حيه لا ترى إلا الحمير التي تجرها عربات الكارو تتجول بحرية في المكان ، يركبها الناس في كل الأحيان إلى جانب تحميلها بالبضائع . أما خارج الحي فإنك تلمح السيارات الفارهة و قد تعددت أشكالها و ألوانها ..
و الأهم من ذلك كله هو تلك النظافة التي تسود الشوارع الراقية ، فلا تجد من يرمي قمامته في عرض الشارع كما في حيه ، و لا تجد من تلقي الماء القذر من شباك بيتها في عرض الحارة خوفا من إنسداد البالوعة ، و لا تجد تلك النساء و قد تربعن للحديث على عتبات البيوت أحيانا في حديث ضاحك صاخب و كأن حياتهم تخلو من المشاكل المزمنة التي يعيشونها في ضوء الفقر ، و أغلب الأحيان في شجار بسبب أو بدون سبب ، و ألفاظ بذيئة صريحة ، لا رقيب عليها . تنتهي و تعود الحياة إلى طبيعتها المعهودة .
كل ذلك هو الحياة في بيئة حسين التي عاش فيها طفولته ، بل و فترات من مراهقته و أوائل شبابه .. حياة الفقر المدقع التي تتربص بغالبية أبناء الشعب ، ليس في الإسكندرية فقط ، بل في جميع المحافظات المنتشرة في أرجاء بلدنا .
كان أبوه عبده الفران .. رجل طويل نحيل ، هزمته الأيام بشدة ، و تركت آثار المعركة الدائرة بينه و بينها على وجه ، و على جسده ، هيكل عظمي مكسو ببعض اللحم ، يعمل في أحد الأفران البلدية في هذا الحي العتيق .. فرن عتيق كالحي ، هذا الفرن لا تهدأ فيه الحركة صباحا أو مساءَ ، فالفرن هو المسئول الأوحد عن إطعام تلك الأفواه الجائعة أبدا ، ذلك الخبز الذي يكاد يكون هو الطعام الوحيد إلى جانب الفول و الطعمية .
كانت وقفته الدائمة أمام اللهب المنبعث من الفرن تشوي جسده الهزيل ، ورغم العرق المتصبب من كل أجزاء جسده ، إلا أن عمله كان يقتضيه أن يقف الساعات الطوال حتى تنتهي ورديته ، ثماني ساعات ، ويأتي زميله الآخر ليأخذ مكانه أمام الفرن ، ويعود إلى بيته منهوك القوى .. يستحم بماء بارد استعدادا لتناوله الوجبة التي أعدتها زوجته حتى يقيم صلبه ، و هي وجبة هزيلة لا تسمن و لا تغني من جوع ، و لكنها على كل حال وجبة تسند تلك البطن الخاوية .
كان المرض يغزو جسده ببطء دون أن يستطيع مجابهته ، فمقاومة المرض والعلاج تعني حرمان أولاده من أبسط حقوق الحياة ، من لقمة العيش التي كانت تبحث هي الأخرى عما يساعدها من غموس لإشباع تلك الأفواه الجائعة طول الوقت من العمل المضني .. و التي لا تشبع أبدا مهما قدم لها من خبز و فول أو طعمية ، أو بعض الخضروات التي لم تعرف شكل اللحم إلا نادرا .
أما أمه الحاجة فاطمة أو أم عبد الله أخوه الكبير كما كانوا ينادونها به ، فكانت قعيدة البيت حبيسته ، قلما أن تخرج منه حتى لقضاء حاجيات البيت ، لا تعرف في الدنيا التي تعيشها إلا محاولة نظافة شقتها المكونة من ثلاث غرف كبيرة ، و أثاث قديم متهالك منذ أن تزوجت منذ أكثر من ربع قرن ، و أنجبت أولادها ، الذين ينامون عليه في الليل ، و يشاركهم فيه هجمات الناموس بأصواته المزعجة التي قد ألفوها ، ولدغاته المؤلمة التي لم تعد تؤثر فيهم ، فهم قد اعتادوها ، و تلك الحشرة السوداء اللعينة التي تسكن فراشهم طوال النهار البق ، فإذا ما جاء الليل، و شاركها الفراش أهل البيت ، و شعرت بالدفء خرجت في محاولة جريئة لتناول غذاءها هي الأخرى ، لتمتص ما بقي من دمائهم الممصوة أصلا ، و كأنها هي الأخرى تعوض الحرمان من خلال البشر .
و كانت وظيفة الأم الثانية – بمساعدة بناتها - هي محاولة إعداد وجبة هزيلة خالية في معظم الأحيان من أثر اللحم ، إلا في القليل النادر ، مرة في الشهر ، يتقوت بها زوجها و أولادها حين يعودون إلى البيت في نهاية اليوم منهوكي القوى من أعمالهم الهزيلة أيضا ، يأكلون ليستطيعوا النوم حتى يعودوا في الصباح من جديد إلى تلك الدوامة المتصلة ، إلا من راحة يوم واحد في الأسبوع .
أما وظيفتها الثالثة المحببة إلى نفسها ، هي قدرتها المستمرة على الإنجاب رغم أن بعض أولادها قد اقترب من سن الزواج . فهذه هي العادات التي تربت عليها ، و تربى عليها جميع من سبقوها ،و غرست في ذهنها منذ أن كانت صغيرة ، لا يهم حالتهم المعيشية فهي تؤمن إيمانا كاملا لا يتزعزع أن كل إنسان له رزقه ، وأن كل مولود يأتي برزقه حين يولد ، هكذا قال لها والدها الشيخ جاد الحق معلم القرآن للصبية ، و هكذا عرف هو من كتاب الله وسنة نبيه الذي يعلمه لأولاد الحي . أ لم يقل الله تعالى في كتابه الكريم : " و في السماء رزقكم و ما توعدون " أي أن رزقكم مقدر و مكتوب لكل عبد من عباد الله . و أن الإنسان مهما فعل لن يأخذ غير رزقه .
و ما تسمعه من تحديد النسل و الوسائل المتبعة لذلك ، فهو لا يعنبها في شيء ، فتلك الوسائل المنبعثة من المذياع ، مبثوثة للأغنياء الذين لا ينجبون إلا اثنين ، أو ثلاثة على أبعد تقدير .
كما سمعت من أمها رحمها الله أن المرأة الشاطرة هي التي تنجب ما شاء لها من الذرية .. لسبب بسيط جدا ألا و هو ربط رجلها في دوامة الحياة المستمرة ،فلا يستطيع الفكاك ، ولا يستطيع أن يفكر في أي امرأة أخرى، بل لا يستطيع أن ينظر أمامه ، و أن هؤلاء الأولاد في المستقبل القريب سوف يساعدون أسرتهم في كسب معاشها حينما يشتد عودهم ،أوقبل ذلك بكثير .
كان البيت القديم المتهالك الذي يقطنوه يتكون من دورين ، في الدور السفلي تسكن أسرة تعاني نفس الظروف التي تعيشها أسرة حسين ، اتحاد في الفقر و التمسك بذيل جلبابه ، والمعاناة كل المعاناة في تربية هؤلاء الأولاد الذين ينمون سنويا تقريبا ، و أصبح البيت أشبه بفريقين من فرق كرة القدم و البدلاء ، البعض يذهب إلى عمله المتواضع ، أما البنات فهن رهن الإقامة الجبرية في هذا البيت حتى يحين الوقت المعلوم لكي يتزوجن ، وتدور عليهم عجلة الحياة .
و يذكر أن إحدى هؤلاء البنات أرادت - في يوم من الأيام - أن تنزل لتشتغل في أحد المصانع – رغم أنها لا تملك شهادة ، فالحرمان من التعليم هو السمة الأساسية لسكان البيت ، بل أغلب سكان الحي – فاشتعل البيت اشتعالا ، و لم يهدأ إلا بعد قرار الأب بعدم خروجها من البيت ، بل و عدم جلوسها مع رفيقاتها من بنات الحي ، وخصوصا اللائي يعملن ، سواء في المصانع القريبة أو البعيدة ، أو في تلك المحلات كبائعة .. و كانت الحجة في ذلك المحافظة على سلوكها من الانحراف .
و رغم تأكيدات أخته بأنها مثل بنات الحي الشرفاء ، إلا أن القرار كان قد صدر و لا رجعة فيه .
و مما زاد الطين بلة أن الأب كان حينما يشب أحد أبنائه عن الطوق ، يسارع إلى إلحاقه بأحد الورش التي تتناثر في الحي أو خارجه كصبي أولا ، ثم كعامل فيما بعد ، لعل تلك الجنيهات القليلة التي يأتي بها الابن تساعد على انتشال الأسرة من براثن الفقر المدقع ولو قليلا ، و إن كان الفقر قد نشب مخالبه بقوة ، و أقسم جاهدا ألا يترك فريسته تنعم بالحياة مهما حدث .
كان حسين - أحد أفراد هذه الأسرة المكونة من سبع ذكور ، و أربع بنات - رغم هدوءه الشديد الذي اشتهر به ، إلا أنه كان يحاول أن يتمرد على هذا الوضع البائس الذي نشأ فيه ، أراد أن يحارب الفقر بكل ما أوتي له من قوة .. لقد سمع جده ذات مرة يقول قول الأمام علي كرم الله وجهه : " لو كان الفقر رجل لقتلته " ورغم أنه لم يفهم معنى العبارة إلا أنها ظلت صامدة في عقله الواعي و اللاواعي ، كان يتنقل من عمل إلى عمل آخر مثله كمثل أخوانه و شباب الحي ، لعله يجد العمل المناسب الذي ينتشله من دوامة الفقر ، لعله يتخطى الجنيه الذي كان يأخذه أسبوعيا من عمله كصبي يقضي المشاوير لصاحب العمل ؛ يأتي بالشاي في أغلب الأحيان .. يذهب إلى محل قطع الغيار ليأتي بقطعة بدلا من القطعة المتهالكة .. يحضر الطعام لصاحب المحل و عماله من المطعم .. و لم يكن يستفيد من الجنيه بشيء ، فأمه كانت تأخذه كما كانت تفعل مع أخوانه .
في أول الأمر صاحب أترابه ، و ما أقلهم ، الذين يذهبون إلى المدرسة في الحي ليتعلم منهم القراءة و الكتابة ، وما إن عرف الحروف الهجائية ، وكيف تتكون منها الكلمات والجمل ، حتى بدأ في مصادقة من هم أكبر منه سنا ، فكان يسألهم عما أخذوه في المدرسة ، فيعرف كل ما يريد معرفته ، وكان يقرأ كل ما يقع في يده من أوراق قديمة ، حتى تلك اليافطات التي تعلو المحلات الكبيرة و الصغيرة في الشوارع، وكان يقف أمام باعة الصحف و المجلات ليقرأ تلك العناوين المكتوبة على الواجهه ، وكانت قراءته في بادئ الأمر للقراءة فقط ، و لكن بعد فترة أصبح هدفه أن يجمع المعلومات عن العالم الذي يعيش فيه بلده، و الذي لا يعيش فيه العالم ، ثم ما لبث أن صاحب أحد أصحاب المكتبات التي كان يقف أمامها ليقرأ غلاف الكتب التي يعرضها صاحب المكتبة ، فقرر الرجل أن يلحقه للعمل قي محله ، ليساعده في تنظيف الغبار العالق على الزجاج و الكتب ، ليستريح بعض الوقت في منزله القريب من المحل ، و كانت الفرصة سانحة لحسين ، فهو يستطيع أن يقرأ كل ما يشاء متى شاء ، رغم أن الراتب الذي قرره صاحب المكتبة كان ضئيلا بالنسبة لأحلام حسين ، إلا أنه أرتضى العمل في المكتبة ، فقد أحس أنه من خلال وقت الفراغ يستطيع أن ينمي عقله .
وما إن ترعرع حسين حتى أخذ يتعلم بعض مفردات اللغة الإنجليزية من أقرانه في الحي الذين يتباهون بالرطن بكلماتها التي يأخذونها في المدرسة ، و لكنه لم يمض فيها إلى أبعد من معرفة الجمل الأساسية التي يستطيع أن يستخدمها في حياته اليومية .
لم يكن حسين يكسب الكثير من النقود في ذلك العمل ، وكل مكسبه هو ما تعلمه من القراءة و الكتابة ، و أراد أن يجرب في الليل شيئا جديدا ، فصاحب أقران السوء في الحي ، و اندمج معهم بسرعة كبيرة ، حتى أنهم جعلوه رئيسا لهم لذكائه ودهائه ، رغم صغر سنه .. فهو الذي يضع لهم الخطط التي ينفذونها بكل دقة وذكاء للسطو على أحد البيوت ، أو محلا من محلات الحي الراقي ، و إن لم يشترك معهم في تلك العمليات الصغيرة أحيانا ، أو الكبيرة في أندر الأحوال ، إلا أنه كان يربح من خلال توجيه أصحابه الكثير من المال نصيبه في كل عملية .
و قرر حسين في قرارة نفسه أن يخفي تلك النقود التي يكسبها بعيدا عن عين أمه، فهي لن تترك هذه النقود بل ستأخذها ، بل ستسأله من أين أتى بها ؟ و لماذا يخفيها ؟ ، لعل تلك النقود تنفعه في يوم من الأيام ، ليترك هذا الحي البائس ، و هذه الحياة التعسة .
لقد قرر أن يخفي النقود في المكتبة التي يعمل بها ، في مكان لا يعرفه إلا هو ، بعيدا عن الأعين، و بعيدا عن صاحب المكتبة ، و بعيدا عن البيت حتى لا يكتشف سره من في البيت ، فإذا ما تجمد لديه بعض المال ، ذهب إلى صندوث البريد فيضع فيه هذا المبلغ الصحيح .
كان حسين قد أخذ من أصحابه الكثير ، أخذ من الفريق الأول العلم ، فعلم نفسه بنفسه تحسبا للأيام ، و أخذ من الفريق الثاني الخبرة في الحياة من حيطة وحذر ، و قرر أن يقرن هذا بذاك ، ففاق الجميع بذكائه ، و أصبح مشهورا بينهم باسم الثعلب ، فالثعلب يشتهر بالمكر و الخداع ، فلا أحد لا يستطيع أن يتفوق عليه أثناء حواره مع أي شخص كان ، صغيرا كان أو كبيرا ، و في أي موضوع مهما يكن هذا الموضوع .
الثعلب هذا الاسم يروقه كثيرا ، فذلك الحيوان الضئيل الحجم مثله يشتهر بالمكر و الدهاء و الذكاء الفطري .
اشتهر الثعلب في منطقته ، بل و في خارجها ، فكل صاحب حاجة يهرع إليه ليقضيها له ، ومن العجب أنه كان يقضيها بسهولة ويسر مهما كانت الجهة التي كان يقصدها ، سواء في جهة حكومية أو غيرها حسب حاجة العميل، و كل حاجة يقضيها كان يأخذ ثمنها من صاحب المصلحة ، قليلا في أغلب الأحيان ، كثيرا حسب الزبون أو نوع المصلحة .
و هكذا بدأت سيرته الذاتية في الانتشار عند أصحاب المحلات ، و بدأ المال يتدفق في يديه غزيرا وفيرا ، وبدأ صندوق التوفير يتضخم فيه المال ، وبدأ بعض التجار يراقبونه من بعيد لبعيد ترقب الصياد الماهر لفريسته حتى تسنح لهم الفرصة لاقتناصه ، و العمل لديهم ، فالجميع يعتقد أنه جالب للحظ ، و أن هذا الحظ يمشي في ركابه .
كان حسين يحارب الفقر خطوة تلو الخطوة بصبر و تؤدة ، متسلحا بباب العلم البسيط الذي ينهل منه من أصحابه ، و مما تقع عينه عليه من الكتب في المكتبة التي يعمل بها طوال النهار ، إلا في فترات متقطعة ، حينما يقضي مصلحة لأحد ، و كان صاحب المكتبة يتركه لشأنه طالما يؤدي واجبه في المكتبة ، و متسلحا بباب أصحابه من أرباب السوء ، و ها هو يفتح بابا جديدا ، وهو قضاء حوائج الناس الذين يقصدونه لقضاء حوائجهم ، فيأخذ من هذا القليل ، و يأخذ من ذاك الكثير .
و خلال فترة بسيطة كان حسين يملك بعض المال بعد أن يسدد ما عليه من مصروف البيت ، و من نفقات خاصة به ، كأن يشتري بنطلون أو قميص أو جزمة أو شراب ، أو عطر رخبص ، و كأنه يحلم باليوم الذي يتحرر فيه من أسر الفقر و ذله . يتحرر من هذا السجن الذي نشأ فيه .
بداية الطريق
أصطحب فؤاد .. أحد رفاق حسين ، أحد رفاق السوء .. صديقه حسين إلى الحاج عطية الدُش ( بفتح الدال ) ..
كان فؤاد قد تعلم النشل في صغره على يد والده ، وشب على ذلك ، و كانت أجمل أيام حياته أول الشهر ، حيث يصعد إلى أي أتوبيس فلا يخرج منه إلا و قد أدى عمله بكل مهارة فائقة و اتقان بالغ ، و استطاع أن يسرق أي حافظة من أي إنسان مهما يكن حرصه، فذلك الحرص الزائد هو ما يرشده إلى ضحيته ، و غالبا ما كان يصرخ على حين فجأة محذرا أحد الركاب من أن لصا قد حاول سرقة حافظته .. فيعرف طريق الحافظة و يسرقها دون عناء .
لقد تعلم فؤاد هذه المهنة من والده ، و لكن والده بعد أن ضبط أكثر من مرة لكبر سنه ، و أصبح مراقبا من كل المخبرين الذين باتوا يعرفونه ، فأدمن الرجل الخمر ادامنا ، و أصبح مريضا مرتعش اليد ، ثم مات تاركا زوجته و ابنه الوحيد يعيشون في الفقر المدقع .
و اضطرت أمه أن تخدم في البيوت الراقية ، تأخذ راتبا هزيلا نتيجة عملا شاقا من التنظيف أو الغسيل ، و أرادت أن تعلم ابنها ، و لكنه لغيابها المستمر عن البيت ، كان يهرب من المدرسة ، و يمارس المهنة التي تعلمها من أبيه .
فؤاد هذا ضخم الجثة، متوسط القامة ، طويل الشعر ، جميل الوجه ، لا تنبأ قسماته على ذلك العمل الذي يمارسه ، و الذي لم يجد له مهنة غيرها ، رغم أنه بدأ كصبي في أحد المحلات ، و لكنه لم يتحمل الإهانات التي كانت تتوالى عليه يوميا ، كان يرد الإهانة بمثلها ، بل وصل به الأمر إلى أن ضرب ذات مرة صاحب العمل الذي يعمل عنده بالشاكوش لأنه سبه بأبيه و أمه ..
و حينما وجد أن ما يأخذه لا يكفي حتى لقمة العيش التي يأكلها هو و أمه ، كان يحب الأكل لا يستطيع الصبر عليه ، كان يأكل طيلة النهار .
ذات يوم لمح الحاج عطية الدش يخرج من أحد البنوك ، و في يده شنطة سوداء .. تتبع خطواته إلى السيارة ، و أراد أن يأخذ تلك الغنيمة الكبيرة .. اقترب من السيارة منبها سائقها إلى أن العجلة الخلفية نائمة ، خرج السائق ليرى ذلك بنفسه ، مد فؤاد يده ليأخذ الشنطة ، و لكن الحاج انتبه له .. و مسك يديه بقوة .. و نظر إليه بوجه عبوس .. لم يبك فؤاد كما كان الصبية أمثاله يفعلون لينجو من هذا المأزق الصعب ، و لم يتوسل إلى الحاج ، و لكنه جعل ينظر إليه بشدة ، مثل نظراته حتى يتحين الفرصة للهرب .
أعجب الحاج بشجاعة هذا الفتى الجرئ ، وجذبه بشدة داخل السيارة، ووضعه بجواره على الكرسي في السيارة .. و قال له و هو يربت على كتفه و يضحك :
أنت الآن واحد من رجالي .. رغم إنك مازلت صغيرا .. ستكسب معي أضعاف ما تكسبه من هذه المهنة القذرة التي تمارسها أنت لا تسرق إلا الفقراء، و هذه المهنة قد تدخلك السجن . أنا معجب بشجاعتك ، وعدم خوفك يبدو أن قلبك ميت .
و هكذا كانت بداية فؤاد مع الحاج عطية الدًش ، بداية قد تختلف عن الطريق الذي كان يكسب به رزقه القليل، بداية تكفل له العيش الكريم ، و تجعل من والدته تترك هذه المهنة التي تهد الحيل ، و تجلس في البيت معززة مكرمة .
ورغم رفض الأم لفكرة ابنها ، إلا إنها استسلمت في النهاية حينما عرفت أنه يعمل عند رجل ثري جدا ، و أن هذا الرجل وثق فيه ، و إنه يعطيه الكثير ، أكثر مما كان يسرقه من الناس ، و أكثر مما كانت هي تكسبه من عملها المضني .
******
قال فؤاد لحسين وهما يسيران :
سأفتح لك أول الطريق ، فاستغله جيدا، و تذكر كما كنت تقول لنا ؛ أن الفرصة لا تأتي إلا مرة واحدة ، مرة واحدة ، يا ثعلب .
سار الاثنان على طريق البحر ، نسمات قليلة من الهواء المنعش تهب بين الحين و الحين في فصل الصيف القائظ ، رغم أن الشمس الحارقة تعانق قلب السماء ، فتبعث أجنحتها الهابطة إلى الأرض بحرارتها .
كان فؤاد ينظر إلى حسين من طرف خفي ، يحاول أن يستشف ما يدور بداخله من أفكار ، ولكن حسين - رغم أنه لمحه أكثر من مرة – فإنه كان يحلم بالحياة الجديدة التي سوف تفتح أبوابها أمامه ، وكانت الأسئلة تراوده ، و تتزاحم في خاطره ، دون إجابة شافية تريحه ؛ هل هذا العمل يدر عليه المال الكثير الذي يحلم به ؟ هل يستطيع أن يؤدي ما يسند إليه من عمل بنجاح و سهولة ؟ هل سيعرف طريق الحياة المرفهة ؟ .
و نظر إلى فؤاد الذي يعرف عنه إنه لص .. نشال .. يكسب رزقه من امتصاص عرق الناس الغلابة – رغم أنه كان يعلم أنه ترك هذه المهنة إلى غير رجعة - فهل هذا العمل الذي يأتي من طرفه عملا شريفا ؟
كان فؤاد يلبس بنطلونا و قميصا نصف كم ، و جزمه ملمعة ، و يضع العطر على ملابسه .
و قطع فؤاد حبل الأفكار و الأحلام التي تراود حسين حينما أشار إليه منبها إلى أنهما وصلا إلى مكتب الحاج عطية .. كانت اليافطة الصغيرة المعلقة على باب المحل تشير إلى أن الحاج عطية يشتغل في التخليص الجمركي . إذن فالعمل الذي ينتظره هو إنهاء الإجراءات الجمركية ، ورغم أنه لا يعرف شيئا عن ذلك العمل إلا أنه قادر على فعل ذلك و في أقرب فرصة .
******
كان بالمحل مكتب تجلس عليه فتاة بسيطة الملبس .. تجاوزت العشرين بقليل .. بها مسحة من جمال ، رغم أنها لا تضع على وجهها إلا القليل من المساحيق التي يستخدمها أمثالها من الفتيات الذين يشتغلون في تلك المجال .. نحيفة بعض الشيء كأغلب الفتيات في هذا الزمان .. و قد وضعت أمامها بعض الأوراق تقرأ فيها بعناية .. و تحركت عينه بعد أن تفرس ملامح الفتاة ، فلمح ستة كراسي جلد على الجانبين ، وخلفها باب خشبي شبه مغلق ، وفي الجانب الأيسر من المحل درج حديدي يصعد إلى الأعلى .
أحس ببساطة المكان الذي فيه ، وهز رأسه ، كأنه يبحث عن مخرج من هذه الورطة التي أدخله فيها فؤاد صديقه ، فيبدو من شكل المحل أن الحال هو الحال ، كما في أغلب الأماكن التي عمل فيها ، و أن هذا الطريق ليس هو الطريق الذي يطمح إليه ، و يصبو إلى تحقيق آماله ، و ما عليه إلا أن ينهي هذه المقابلة بسرعة ، ثم يعاود أدراجه من حيث أتى ، و يا دار ما دخلك شر .
أشار فؤاد إلى الفتاة الجالسة إيماءة السلام ، فردت عليه بأطراف أصابعها إلى الأعلى ، كانت الفتاة تعرف فؤاد معرفة جيدة ، و نظرت إلى حسين و كأنها تتفرسه بملابسه البسيطة .. بنظرات عينيه المتفرسة لما حوله.. و خصوصا إليها ، وقالت في نفسها :
يبدو أنه يختلف عن فؤاد ..
تقدم فؤاد وخلفه حسين ، فارتقى درجات السلم حتى صعدا إلى الشقة العلوية ..
كانت الشقة تختلف عن المحل القابع تحتها ، فخمة فاخرة تمتلئ جوانبها بأريكات من الجلد البني الغامق ، وأمام كل أريكة طاولة من الزجاج ، وسجادة فاخرة ، و في الأعلى كانت ثرية تزين المكان ، تبعث الضوء في المكان كله .. ضوء يكاد يكون خافتا .. وفي آخر الغرفة جلست فتاة أخرى ، ترتدي ثيابا أنيقة .. أكبر من زميلتها التي في المحل السفلي ، تجاوزت هي أيضا العشرين بسنوات عدة .. وهي ممتلئة الجسد قليلا ، تبدو على قسمات وجهها جمال ، و هي أيضا لا تستخدم الكثير من المساحيق التجميلية .. كان مكتبها يدل على الفخامة و الأبهة .. رص على المكتب أشياء كثيرة .. هاتفين ، أحدهما أصغر من الآخر .. بعض الملفات التي تنظر إليها بإمعان .. و في يدها قلم جاف تكتب به .. و بجانبها دولاب زجاجي كبير مغلق يظهر ما فيه من ملفات ، و في الجانب الآخر أرفف وضعت فيها بعض الملفات التي تستخدم الفتاة ما فيها من أوراق .
طلبت السكرتيرة ، بصوتها الرقيق من فؤاد و حسين أن يجلسا حتى تتصل بالحاج و تخبره بوجودهما ، و ضغطت السكرتيرة على زر الهاتف الصغير ، وأخبرت عن وجود فؤاد وآخر معه ..
لم تمض إلا دقيقتين حتى رن جرس الهاتف الداخلي ، وطلب الحاج دخول فؤاد ومن معه إلى حجرته .
ما إن فتحت السكرتيرة الباب ، حتى وجد حسين نفسه أمام مكتب فخم أنيق ؛ يجلس عليه رجل أشيب الشعر ضخم الجثة .
أطلق فؤاد تحيته بابتسامة عريضة :
صباح الفل على أحلى حاج في الدنيا .
رد عليه الحاج باقتضاب :
صباح الخير .
و اتجه بصره إلى حسين .. ذلك الشاب الطويل نسبيا .. برغم نحافة قوامه .. ذو الملامح الهادئة .. ذو النظرات الثابتة .. و قال :
صباح الخير يا حسين ، و لا أقول لك يا ثعلب ، الاسم الذي تحبه .
ضحك الحاج ضحكة عالية ، أظهرت أسنانه البيضاء اللامعة ، ونظر إلى حسين نظرة المتأمل المتفرس ، ثم طلب من فؤاد أن يغادر ، أن يذهب لقضاء مصالحه ، و اتجه ببصره مرة أخرى إلى حسين ، وطلب منه الجلوس أمامه .
كان الحاج رجلا ممتلئ الجسم ، يميل إلى الطول ، ذو كرش مدور بارز ، وجهه يميل إلى الاحمرار من أثر النعمة .. عيناه لا تثبتان في مكان واحد ، و يبدو من مظهره أنه تجاوز الخمسين ، و يقترب من الستين من عمره .
جلس حسين حيث أشار الحاج .. وران الصمت قليلا من الوقت ، ثم بدأ الحاج في الحديث إلى حسين دون كلفة ، و كأنه يعرفه :
قال لي فؤاد إنك تبحث عن عمل دائم ، يدر عليك ربحا معقولا .. وقال لي أيضا إنك تستطيع أن تؤدي جميع أعمالك بدقة و نجاح في أي مكان تذهب إليه .. وفؤاد يمدح لي موهبتك كثيرا ، و أنا أصدق فؤاد .
صمت الحاج ، ونظر إلى حسين ، و كأنه يعطيه الفرصة للحديث ، فقال له حسين :
الحمد لله ، نغمة و فضل من الله تعالى ، و كله بأمر الله .
قال له الحاج وهو مازال يتفرس وجهه :
والله أنا قلبي انفتح لك ، فردك يدل على التعقل ، و اعتبر نفسك من الآن يا .. شغال معي .
رد حسين بسرعة : عندك يا حاج .
قال الحاج مصححاً : قلت معي يا ثعلب .
قال له حسين وهو يبتسم فرحا :
عندك ، معك ، كله واحد يا مولانا .
ابتسم الحاج ابتسامة عريضة لهذا اللقب الجديد الذي أسبغه عليه حسين .. ثم قال له في حنان أبوي :
تقول لي مولانا .. هنا في المكتب ، أما أمام الناس فيكون الحاج . اوعى تنسى .
لم يجد حسين ما يرد به على الحاج سوى كلمة شكرا .
و أنقذته السكرتيرة حينما فتحت الباب ، و تقدمت إلى مكتب الحاج حاملة في يدها كوبين من عصير الليمون ، و ضعت أحداهما أمام الحاج ، ووضعت الآخر أمام حسين ، و هي تنظر إليه بإمعان لعلها تخرج بانطباع ما عنه ، لقد حدثها الحاج في الصباح أن شابا سوف يأتي للعمل معهم .
قالت له بأدب جم ، وبصوت رقيق :
تفضل .
شكرها ، وهو مطاطيء الرأس .
ضحك الحاج ، وابتسمت السكرتيرة .. أحقا هذا الشاب الذي يقترب من سنها خجول أمام الفتيات ، هل هذا طبعه ، أم إنه يصطنع الخجل اصطناعا و يتكلفه تكلفا .. و الغريب أن وجه لا يدل على شيء أبدا ، البراءة تظهر في عينيه .
و قبل أن تنسحب من الغرفة ، قال الحاج لحسين :
هذه ناهد سكرتيرتي الخاصة جدا ، و ساعدي الأيمن في المكتب ، و هي تؤدي عملها بإخلاص و إتقان فوق العادة .
قال حسين ووجهه متجها إلى أسفل دون أن ينظر إليها إلا من طرف عينيه :
تشرفنا يا آنسة .
و انسحبت السكرتيرة ناهد خارجا من الغرفة ، و مازالت الابتسامة ترتسم على وجهها ، وردت الباب خلفها .
شرب كلاهما العصير ، و قال الحاج بعد أن مسح بلسانه شفتيه : الآن يا سيد حسين ، ستذهب مع السائق الذي ينتظرك في الخارج إلى بعض المحلات ، ستعطي كل محل شنطة موجودة بجوار السائق ، و سيعطيك المحل الأول ما تختاره من ملابس لك ، ثم ستذهب أيضا مع السائق إلى عدة أماكن ستعطي لكل مكان شنطة سيعطيها لك السائق و تأخذ منه ما يعطيك إياه ، ثم تذهب إلى البيت ، و تعطي لأمك ما أخذته ، و قول لها : لا تنسى الجيران اللي في الدور الأرضي علشان ربنا يكرمنا ويكرمها ... و بعد أن تأكل و تستريح ، ستعود إلى المكتب الساعة الخامسة بالضبط ، لنكمل حديثنا في الشغل .
نظر حسين إلى الحاج مندهشا ، فالحاج يعرف كل شيء عنه ، عن حياته .. عن بيته و من فيه .. و تساءل بينه و بين نفسه .. هل فؤاد من أعطاه هذه المعلومات الدقيقة عنه ؟
وقام حسين لينصرف .. و لكن الحاج استوقفه ، و قال له :
خذ هذا المبلغ تحت الحساب .
قال له حسين في خجل شديد :
و الله معايا .
قال له الحاج ، وهو ينظر إليه نظرة بها بعض الشدة :
أعرف أن معاك الخير كله ، قلت لك تحت الحساب .. و حينما أعطيك فلوس بعد ذلك لا تقل شيئا غير شكرا .
تمتم حسين ببعض الكلمات الغير واضحة ، و التي عبر من خلالها عن شكره العميق لله رب العالمين على رزقه الوفير ، و عن شكره للحاج الذي فتح الطريق أمامه لحياة كان يحلم بها .
انصرف حسين مودعا الحاج ، شاكر له فضله عليه ، و ابتسم الحاج ، وقال له في رقة و حنان :
مع السلامة يا ابني .
أخيرا ابتسم الزمن لحسين ، فها هو يمسك بحزمة من النقود ذات المائة جنيها ، قد تكون ألف أو أكثر . و هو الذي كان لا يمسك من قبل إلا جنيهات فكة ، و إن أسعده الحظ فيمسك عشرة جنيهات سليمة .
أخير ابتسم الحظ لحسين ، و لكنه رغم تلك المقابلة القصيرة ، و الكرم الكبير ، لا يعرف ما هو العمل الذي سيبدأ في ممارسته .. و مع ذلك قال في نفسه .. أظن أنه عمل شريف ، المهم أن يتقن هذا العمل ، و الأهم أن يدر عليه دخلا كبيرا يستطيع أن يعيش به حياته التي يحلم بها دائما في يقظته .
فرحة في البيت
وقفت السيارة الفاخرة أمام البيت القديم المتهالك الذي يقطنه أهل حسين ، و سرعان ما أحاط الصبية بها من كل ناحية ، فهم لم يعتادوا أن تدخل حارتهم الضيقة هذه الأصناف من السيارات الفاخرة ، و هم يعرفون أن أصحاب هذه السيارات هم من الأغنياء الذين لا يسكنون حيهم ، فهم يرون تلك السيارات خارج حيهم .
نزل السائق من خلف مقوده ، وفتح باب السيارة لحسين لينزل هو الآخر، وما كادت إحدى قدميه تلامس الأرض حتى هرع بعض الصبية إليه ، أخوانه الأصغر سنا ، أما الباقي فقد تفرق بسرعة منهزما خوفا من حسين و نظراته الغاضبة ، أعطى حسين أخوته ما معه من أكياس كثيرة طالبا منهم أن يصعدوا بها إلى الأعلى مباشرة ، و أن يعطوها لأمه .
شكر حسين السائق على ما بذله معه من جهد ، وسلم عليه مودعا ، و أرشده إلى طريق الخروج من الحي ، و قبل أن ينصرف السائق نبهه أن يحضر إلى المكتب في تمام الخامسة مساء .. فالحاج يحب دقة المواعيد و الالتزام بها جيدا ، و يكره من لا يلتزم بمواعيده .. فقال له حسين :
سوف أكون هناك قبل الموعد .. و انصرف السائق .
صعد حسين درجات السلم المتهالكة المكسورة بقفزات سريعة متلاحقة ، و ما كاد يصل إلى باب الشقة حتى وجد أمه في انتظاره ، أخذها في حضنه ، رغم أنها كانت ممتلئة الجسد امتلاء غير عادي ، فالبروزات تظهر من أمامها و من خلفها و على الأجناب ، و أوسعها ما شاء له من القبلات وهو حاملا إياها ، و الفرحة تملأ عينيه .
قالت له أمه في غضب :
أنزلني ، و لا تأخذني في ( دوكة ) أريد أن أعرف الآن من أين أتيت بهذه الأشياء الغالية .. أوعى يا حسين تكون سرقت .
كانت تعرف جيدا أن ما أتى به ابنها يفوق بكثير ما يعمل به في السنة كلها .. و أن هذه الأشياء تقدر بثروة ليست في استطاعتهم ..فالخضروات و الفاكهة و اللحم و الدجاج ، أن ما أتى به حسين لا يدخل بيتهم ، بل لم يدخل الحي كله من قبل ، و هذه الأشياء لا تدخل إلا بيوت الأغنياء فقط ، أو متوسطي الحال ، أما بيوتهم فلا تعرف هذه الأطعمة إلا في المواسم .
نظر حسين إلى أمه ، وقد ارتسمت عليه بعض علامات الغضب و الضيق وقال لها متذمرا :
أمي لا تضيعي فرحتي بعملي الجديد الثابت بكلماتك التي ليس لها معنى .. أنت تعرفين ابنك جيدا . فأنت من قمت بتربيتي .
قالت الأم و هي تنظر إلى عيني ابنها في شدة وحزم – لعلها تلمح فيهما شيئا غريبا - :
كيف استطعت أن تأتي بكل هذه الأشياء .. و أنت لم تشتغل بعد .
جلس بجانب أمه على الكنبة العجوز التي لم ينصفها الزمان هي الأخرى ، و برزت بعض أمعائها الدفينة ؛ و بدأ في سرد أحداث ما داره بينه و بين الحاج عطية الدش ، وقال لها ما قاله الحاج .. المهم أن تعطي الجيران من هذا اللحم ، و هذا الدجاج ، وهذا الخضار ، وهذه الفاكهة .. فقد طلب مني الحاج ذلك .. ليكرمه الله و يكرمك . إنني يا أمي لم أجد في حياتي مثل هذا الرجل الكريم .
قالت له أمه وهي مازالت مندهشة غاضبة :
أي حاج هذا الذي تتكلم عنه ؟ و يعرفنا حق المعرفة ، و انه يعيش بيننا ، و هو يعرف الجيران أيضا .
قال لها حسين :
نشرب الشاي .. و نقول الحكاية من البداية . نفسي تبعدي الشك الذي يسيطر عليك ، ابنك دائما شريف ، و لن يدخل جيبه مليما حراما .. سوف ترين الخير كله بدأ من هذا اليوم .
بعد أن وزعت الأم ما جاء به ابنها ، ورأت علامات الدهشة أيضا على وجه جارتها التي عاشت معها في هذا البيت المتهالك أكثر من ثلاثين سنة ، عاشت معها دائما على المرة فقط ، و ها هي تبدأ صفحة جديدة لتعيش معها على الحلوة في حياة قد ابتسمت لهما .
الأسرتان تعيشان في هذا الحي القديم العنيق ، منذ أكثر من ثلاثين سنة ، و رغم أنهما ليسا أقارب ، إلا أن طول العشرة قد جعلتهما أسرة واحدة .. فالسيدتان لا تخرجان من البيت إلا في القليل النادر ، و هما يقفان جنبا إلى جنب في الولادة ، و في المرض ، وهما أحيانا حينما يكون عندهما وقت فراغ يجلسان و يتسامران في لا شيء , عن هموم الدنيا ، عن مستقبل البنات و جوازهم ، و أحيانا عن لا شيء .
سألتها الجارة باستغراب و على وجهها علامات الدهشة :
ما هذا الخير الوفير ؟ من أتى به من الأغنياء ؟ أ هو صدقة ؟
قاطعتها الأم و علامات الفرح على وجهها الحزين :
ابني حسين اشتغل في شغلة كبيرة قوي ، وهذه حلاوة الشغل ..
و انطلقت الزغاريد في البيت ، الذي لم يعرف الفرح منذ زمن بعيد .. حتى حينما يأتي مولود جديد ، كانت الفرحة حزينة .. أما الآن فالفرحة لها معنى ، لقد دخل البيت كثير من الأصناف التي كانت تخاف أن تدخله لقلة ذات اليد .. فاللحم مثلا يكاد لا يدخل البيت إلا في عيد الأضحى ، و بكمية قليلة ، تأتي من أحد فاعلي الخير الذي يوزع أضحيته على الفقراء في تلك الأحياء التي يعاني أهلها ذل الحياة ، و ها هي أصناف من الفاكهة لم تراها من قبل تراها الآن و لا تعرف اسماءها ، بل لم تراها من قبل .
هل يودع الفقر هذا البيت القديم المتهالك ، و يتركهم في حالهم .. أم أن هذه ومضة سريعة و ابتسامة من الزمن قد تختفي .. و نحن قد تعودنا أن يكون للفرح في حياتنا حدود ، لا نترك له مساحة كبيرة ، والوساوس تلعب بعقولنا دائما لا تتركنا ننعم بأي فرحة ، و ألا نجعل من التفاؤل أسلوب لحياتنا .
حياة الفقراء الذين لا يسألون الناس حياة بائسة ، و لكنهم راضون كل الرضا ، و لا يطمحون إلى غيرهم من الناس ، فهذا ما قسم الله لهم به ، و هم راضون بما قسم الله ، فكما جعل فقراء جعل أغنياء ، و لم يجعل الناس كلهم مثل بعضهم .
عادت إلى شقتها ، و أعدت الشاي لها ولابنها حسين ، وطلبت من الجميع الأطفال أن ينزلوا جميعا إلى الشارع ، وطلبت من البنات أن يذهبن إلى المطبخ ، و استجاب لها الجميع و كأنها قائد لهذه الكتيبة الكبيرة .
جلست و جلس أمامها ابنها استعدادا لسماعه وهو يقر بالحقيقة الكاملة ، دون كذب ، في سبب تلك الثروة التي هبطت عليه فجأة . و من هو الحاج الذي يتحدث عنه باستمرار .
قالت له :
أحلف إنك ستقول الحقيقة .
و حلف حسين فهو يعرف أمه جيدا لا تصدق كل ما يقال لها .. و تكره الكذب و الكاذبين ، و هي على استعداد أن تضربه إذا لزم الأمر ، و تقرصه من أذنيه ، و تلك عادتها مع كل أبنائها .
قال لها وهو يبتسم :
كنت أبحث في بداية اليوم عن أي عمل يدر علي بعض المال كالمعتاد ، قابلت أحد الأصدقاء في طريقي ، و كنت اشتكي له حالي من العمل يوما ، و الراحة عدة أيام ،و ما أكسبه في هذا اليوم ، أصرفه في أيام الراحة .
قال لي أحد أصدقائي :
سأعطيك عملا دائما ، عند رجل طيب يحتاج إلى خبرتك و ذكائك ، لم أصدق ما سمعت ، و لكني سرت معه و كأني معصوب العينين.. المهم أن أحصل على عمل ، و الأهم أن يكون العمل شريفا .. و ذهبنا إلى مكتب الحاج الفخم بالقرب من الميناء ، كان الرجل يتحدث معي و كأنه يعرفني منذ زمن بعيد ، كان يتحدث معي و كأنني ابن له ، وطلب مني أن اشتغل معه ، و طلب مني أن أوصل بعض الأكياس إلى بعض المحلات ، و أن أخذ من هذه المحلات ما يعطوني .. و هذا ما أعطوني .. و أخيرا قال لي :
قل لأمك أن تعطي الجيران اللي تحت من هذا الخير .. ربنا يكرمها و يكرمنا .
كانت علامات الدهشة و الاستغراب تعلو وجه الأم غير مصدقة ما تسمع من كلمات ابنها ، وقد أحست بغريزة الأم بصدقه .. و لكنها قالت و هي تحاول أن تستجمع هدوءها :
و كأنه يعرفنا .. و ما العمل الذي سوف تعمله عند هذا الحاج ؟
قال لها حسين :
إنه يعمل في التخليص الجمركي ؟
قالت الأم و قد فغرت فاهها بشدة :
يعني أية ؟
قال لها حسين :
يعني في الميناء .. يعني لما واحد يستورد من الخارج بضائع يخلصها له و يخرجها من الجمرك .
قالت الأموقد بدأ الفرح يداخلها :
و هل يكسب من ذلك الكثير ؟
قال حسين وقد أحس يسعادة أمه :
لا أعرف بالضبط ، و لكني سوف أعرف ذلك بعد أن استلم الشغل في المساء.
قالت الأم و قد اطمأن قلبها قليلا :
ربنا يوفقك يا ابني ، خلي بالك من نفسك ، أولاد الحرام كثير في هذه الأيام يا بني .
أعطى حسين أمه بعض النقود كمصروف للبيت ، ثم طلب منها أن ترسل أباه إلى الدكتور مع أخيه الأكبر ، فهو يشعر أن صحة أباه في النازل في الأيام الأخيرة ، وهو لا يستطيع أن يذهب إلى الدكتور . أخذت الأم في الدعاء لابنها . دعاء من القلب كانت قد اعتادت عليه كل صباح ، و كل مساء ، بل كل وقت حينما تودع أحد أبنائها .. تدعو لأبنائها دائما بالنجاح و الفلاح و التوفيق .. كما كانت تدعو لزوجها أيضا .
أحس حسين بسعادة غامرة وهو يسمع دعوات أمه له ، فهو يعلم أن رضا الرب من رضا الوالدين ، و هو يعرف أن طيبتها ستجعل أبواب السماء مفتوحة لدعائها ، و هو يعلم أن سر نجاحه في الحياة هي تلك الدعوات الصادقة الصادرة من قلب أمه ، التي لا تعرف شيئا في هذه الدنيا ، غير بيتها ، و صلاتها الدائمة ، و تربية أولادها تربية شبه دينية بكل حزم .
طلب من أمه أن تتركه لينام بعض الوقت ، و أن توقظه في الساعة الثانية و النصف ، ليأكل و يشرب الشاي ، ثم يذهب إلى عمله الجديد .
*******
أحلام اليقظة تناوبت عليه أثناء إغفاءته القصيرة ، فالنوم لم يعرف طريقه إليه، و كيف له أن ينام ، ويا لها من أحلام جميلة .. تخيل أنه يسكن قصرا جميلا من تلك القصور التي يراها في الأحياء البعيدة ، في الأفلام التي يشاهدها في تلفاز المقهى ، و أنه يجلس أمام حوض السباحة يستمتع بأشعة الشمس ، و أن من حوله بعض الجواري الجميلات كما يحدث في القصص القديمة التي قرأها .. من تقدم له العصير الطازج ، و من تقدم له الفاكهة ، ومن تدلك له ظهره ، و من تمسك بالمروحة و تحركها ذات اليمين و اليسار ، كأنه أمير من أمراء العصور الوسطى ، كأنه كما قرأ في ألف ليلة و ليلة .. هارون الرشيد العظيم .
انتبه من أحلامه على صوت أمه و هي توقظه .
تناول طعامه بسرعة ، و دخل إلى الحمام ليأخذ حماما بالماء البارد حتى ينتعش ، ثم ارتدى ملابسه الجديدة ، وشرب الشاي مع أمه ، وهو يبتسم لها ابتسامة ود .. و سمع منها تلك الدعوات المعتادة قبل أن يخرج .
نظرت إليه أخته الكبرى وهو في أبهى حلله ، وقالت تداعبه :
هل ستتزوج .
قال لها و هو يبتسم ابتسامته المعهودة :
زواج أيه يا هبلة ، أنا ذاهب إلى الشغل الجديد ، و ربنا يوفقني فيه .. سوف تتغير حياتنا إلى الأحسن . سوف نودع أيام الفقر ، و نبدأ حياة جديدة .
قالت الأم لابنها :
اذهب ، فلا يحسد المال إلا أصحابه .
و هكذا انصرف حسين وهو يكاد يطير من الفرحة ، اليوم ستبدأ الحياة التي كان يتمناها .
خبرة رجل
قبل ربع ساعة من الموعد المحدد ، كان حسين يقف أمام باب المكتب ، ذاهبا يمنة و يسرة ، و كأنه يضيع الوقت حتى الموعد المضروب له .. لمحته السكرتيرة التي تجلس في المحل السفلي ، فأشارت إليه أن يدخل .
قالت له و هي ترسم ابتسامة على شفتيها :
أستاذ حسين ، لماذا لم تدخل ؟
قال لها في صوت منخفض :
موعدي في الساعة الخامسة ؟
ابتسمت له في رقة بالغة :
نحن لا نغلق المحل إلا في الساعة الثامنة مساء ، موعد انصرافنا ، و نحن غالبا ما نتغدى هنا .
صمتت قليلا ، وهي تتأمل حسين بنظرة فاحصة ، فهناك فرق بين هذا الشاب الذي حضر في الصباح بملابسه البسيطة القديمة ، وهذا الشاب الذي يقف أمامها الآن بثيابه الجديدة الغالية ، فرق شاسع حتى ملامحه التي رأته بها في الصباح كانت تختلف عن تلك الملامح ، بل شمت عطرا خفيفا يفوح منه .
اتصلت بزميلتها في الطابق العلوي ، فأشارت عليها زميلاتها أن يصعد بعد خمس دقائق .
و مازلت الابتسامة لم تفارق وجهها ابتسامة رقيقة عذبة .. صحيح أنها تبتسم لكل الزبائن ، و لكن ابتسامتها هذه تنبعث من وجهها .. من قلبها ، و ها هي تنظر إليه تتفحصه بعناية بالغة ، و أخيرا نطقت ، أنا اسمى هدى ، و السكرتيرة اللي فوق اسمها ناهد .
تمتم ببعض الكلمات ، و كأنه يقول لها تشرفنا ، و تلك كانت عادته حينما يتحدث إلى شخص لم يعرفه من قبل .
قالت له وهي تحاول أن تشغل وقت فراغها :
أستاذ حسين هل أنت قريب الحاج ؟
قال لها وعلامات الدهشة تملأ وجهه :
لا
قالت بابتسامة مصطنعة :
غريب .
ثم أردفت نفس السؤال و لكن بطريقة أخرى :
هل أنت من معارف الحاج ؟
قال لها وقد ازدادت دهشته :
لا
قالت :
غريب .
ابتسم لها ، فكلمة غريب قد تكررت على لسانها أكثر من مرة ، قال لها :
من الآن فصاعدا ، ما رأيك في أن تناديني حسين فقط من غير أستاذ ، مفهوم ، نحن زملاء سنعمل معا من الآن فصاعدا ..
و أخذ يداعبها سائلا نفس الأسئلة التي سألته إياها ، ومع كل إجابة يكون يقول لها نفس الكلمة .. غريب .
ضحكت كما لم تضحك من قبل ، فهذا الشاب على ما يبدو خفيف الظل ، يستطيع أن يكسب ثقة من يحدثه و من أقصر الطرق ، و تلك الابتسامة الساحرة التي لا تفارق وجه .
قالت له :
مفهوم : اطلع فوق يا أس .. حسين .
نظرت إلى خطواته وهو يتجه إلى السلم الحديدي .. شيء ما يجذب الإنسان إلى غيره .. هل خفة ظله التي يتمتع بها ، أم الابتسامة المرتسمة على شفتيه دائما ، أم تلك النظرة التي تجعل من يجلس أمامه ينتبه إليه .. أم خجله حين يتحدث ، فهو لم ينظر إلى وجهها .. أم تكون كل هذه الأشياء مجتمعة هي التي جعلتها تنظر إليه ، و تكاد تتمنى أن يكون هذا الشاب الوسيم من نصيبها و حظها .. و أفاقت من حلمها الساحر الجميل .. حين وضع أمامها الفراش العجوز كوب الشاي .. فنظرت إليه نظرة عتاب لأنه أيقظها من حلمها الجميل .. ولكنه قالت له بابتسامة غير معهودة :
شكرا.. يا أطيب رجل في العالم .
ونظر إليها الفراش العجوز نظرة استغراب ،فهي لم تقل له شيء منذ ألتحقت بهذا العمل ، كانت حين يقدم لها الشاي تتمتم بكلمات غير مفهومة ،و لكنها الآن قد ارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة،ها هو وجهها وقد صبغ بحمرة الورد ، وهي أيضا قالت له هذه الجملة :
شكرا يا أطيب رجل في العالم
ما الذي غيرها هذا التغيير المفاجئ ، هل تضع عينها على هذا الشاب الجديد الذي لم يستلم عمله بعد ، سوف تتضح حقيقتها خلال الأيام القليلة القادمة .
صعد حسين الدرجات الصاعدة الموصلة إلى الطابق العلوي بتأني .. كانت السكرتيرة الهادئة الرصينة جالسة على مكتبها ، رفعت عينها عن الأوراق التي أمامها ، و ابتسمت ابتسامة رقيقة ، وقالت له هامسة :
تفضل بالجلوس ، يا أستاذ حسين
جلس حسين حيث أشارت له السكرتيرة بالجلوس .. و لاحظ أنها تراقبه من تحت لتحت ، و تنظر إليه بإمعان و تتفرس فيه بدقة ، مثلما فعلت زميلتها في المكتب السفلي .. و لكنها لم تتحدث معه .
جاهدا حاول ألا تفارقه الابتسامة التي تعود أن يرسمها على وجه ، و عليه أن يرتدي قناع من تلك الأقنعة التي يرتديها كل إنسان في تلك المناسبات ، رغم القلق الذي بدأ يتسرب إلى نفسه من تلك المعاملة الخشنة ، وذلك الوجه الذي لا ينم عن شيء ، و كأنها هي الأخرى ترتدي قناع الحذر مثله .
كانت مشكلته الأساسية هي القلق حينما لا يعرف قراءة الوجه الذي أمامه .. فمن خلال قراءته للوجه يستطيع أن يدير الحديث .. يستطيع أن يسيطر على نفسه ، بل على من يحدثه .. و لكن أن يضع الإنسان قناعا على وجه ، فذلك يجعل من محدثه لغزا محيرا .. و لكنه قال في نفسه :
بعد فترة قصيرة سوف يعرفها جيدا .. سوف يعرف كيف يتعامل معها .. سوف يكتسبها إلى صفه .. المهم الآن أن يعرف ما هو العمل الذي يعمله في هذا المكتب .
في الخامسة بالضبط ، أشارت إليه أن يدخل إلى الحاج .. و لمح و هو يسير ابتسامتها ، ونظراتها التي لا تفارقه .. ابتسامة كابتسامته التي يضعها على وجهه .. هل تراها هي أيضا تستطيع أن تسيطر على من يقف أمامها، على من تحدثه .. إذن فالمهمة صعبة جدا منذ البداية .
و هو يعرف جيدا إنها تراقبه ، لتعرف كيف تتعامل معه فيما بعد .. حينما يبدأ عمله .
*******
كان الحاج جالسا على مكتبه ، يقلب بعض أوراق المعاملات ، و يتصفحها ، وما إن لمحه حتى ترك تلك الأوراق من يده ، و أغلق الملف ، و اتجه ببصره إلى القادم إليه ، و قال له في لغة حازمة :
أجلس .
جلس ، وهو يشعر ببعض التوتر و القلق .. المعاملة هذه المرة خشنة حازمة ، و لكن لا يهم ، فهو إلى الآن لم يعرف نوع العمل الذي يؤديه ، وكيف سيؤديه .
ضغط الحاج على جهاز الهاتف الداخلي أمامه.. فدخلت السكرتيرة إلى المكتب من فورها، وهي تنظر بعين إلى الحاج ، و العين الأخرى إلى حسين الجالس أمام الحاج . وتلك الابتسامة الرقيقة الهادئة لم تفارقها . و كأنها من مهام عملها .
قال لها الحاج في لهجة آمرة :
خذي بطاقة حسين ، وأعطيها لزميلتك .. خليها تصورها ، و تأخذ منها البيانات اللازمة ، ثم تذهب مع السائق لاستخراج تصريح دخول دائم إلى الميناء .. سوف يستلم مكتبنا في الميناء .
علت الدهشة والاستغراب وجه الفتاة من الأمر الصادر إليها ، فحسين لا أحد يعرفه إلا اليوم ، ولم يختبره الحاج في أي عمل ، جاء به فؤاد ذلك الفتى الضخم الجثة الذي يكلفه الحاج ببعض المهام خارج نطاق عملهم ، و نظرت إلى الحاج بشدة ، وقالت :
يا حاج ..
أكمل الحاج كلامه الذي بدأه في حزم :
نفذي ما قلت لك ، ثم عودي إلي ..
أخذت البطاقة و غابت ما يقرب من دقيقتين ، ثم عادت إلى الغرفة مرة أخرى ، وظلت تنظر إلى الحاج .
قال لها الحاج بلهجة حادة :
اجلسي ، ماذا تريدين أن تقولي ..
نظرت السكرتيرة إلى حسين المبتسم الهادئ ، و إلى الحاج الذي ثبت نظراته عليها ، أشار إليها بالحديث دون تردد .
قالت السكرتيرة للحاج و قد بدأ على وجهها بعض التوتر :
أريد أن أقول أن الأستاذ حسين جديد على عمل الميناء ، و إنه يحتاج إلى وقت كبير كي يندمج في هذا العمل ، و يتحمل تلك المسئولية الكبيرة .. و عمل الميناء يحتاج إلى خبرة أظن إنها ليست لديه .. و أنا أرى حسين غير ( مدردح ) .
أشار إليها الحاج أن تجلس أمام حسين ، و أن تنظر إلى عينيه ، كما هي عادتها ، كان الحاج يعرف طبع سكرتيرته و حزمها في عملها ، مع عدم الثقة من أول وهلة فيمن يعمل معها .
قال لها الحاج مع ابتسامة عريضة:
أشكرك أولا على حرصك على العمل . و لكن حسين الجالس أمامك سوف يكون واحدا منا ، و أنا أدعوك أن تصبري إلى بعد الغد فقط حتى تستطيعي الحكم عليه حكما عادلا .. و أظن أن نظرتك عنه سوف تتغير .. و أنا الذي سوف أدربه اليوم وغدا على عملنا ، و إذا احتاج إلى إرشاد فأنا موجود ، و أنت أيضا موجودة ، وهو سوف يسألك أولا عن كل المواقف التي سوف يتعرض لها لأخذ مشورتك في أداء عمله بالطريقة الصحيحة .
صمت قليلا ، وهو ينظر إليها .. ثم قال لها مرة أخرى :
.. من الآن فصاعدا .. اسمه حسين فقط و اعتبريه مثل أخيك ، وكما تعودنا أنتم كلكم أبنائي .
قال ذلك و لم تفارقه الابتسامة المعتادة التي أعتاد عليها حين يتحدث إلى أي شخص مهما كان ، فهو يعرف بخبرته و من النظرة الأولى الفاحصة الشخص الذي يتعامل معه ، رغم الحرص و الحذر الذي يعامل به الجميع .
ثم توجه إلى حسين و قال له :
أختك ناهد . و هي التي ستمدك بكل شئون عملك الجديد ، فهي تعرف كل كبيرة و صغيرة في عملنا .. و هي أيضا التي تكتب كل الأذون التي سوف تعمل بها في الميناء ، و نادرا ما تخطئ ، فأرجو أن تراجع بعدها كل ورقة تأتيك ، لتتعلم منها الدقة .
أرادت السكرتيرة أن تنصرف بعد هذا التعارف الموجز الذي قام به الحاج ، لكن الحاج طلب منها أن تحضر الشاي ، ثلاث أكواب من الشاي ، وأن تشرب معهم الشاي .
تقدمت السكرتيرة بأكواب الشاي ، و أخذوا يترشفونها ، وهم يتحدثون في شتى شئون الحياة ، وتلك عادة الحاج حين يرى من أمامه يتعامل بحذر ، ثم انتقل الحديث إلى العمل مرة أخرى .
قال لها الحاج :
سوف تقومين الآن بشرح العمل الذي سيقوم به حسين معنا ، و الأوراق المطلوبة التي سوف يستخدمها في عمله ، وطريقة استخدامها ، بمنتهى الدقة و الهدوء ، وهو سوف يلحظ ما تقولين ، وسوف يدونه في عقله .
ثم توجه بالحديث بعد ذلك إلى حسين :
سنأخذ تصريح دخول الميناء ، وسندخل الميناء ، لتعرف مكتبنا هناك ، و تعرف المكاتب المهمة التي نتعامل معها .. وفي الصباح سوف تتعرف على كل من في الميناء بنفسك ، وخصوصا الناس الذين سوف تتعامل معهم ، وكل ما اطلبه منك هو أن تعقد صحبتك مع الجميع الصغير قبل الكبير ، و أن تكون كما سمعت عنك ، وكما عرفت عنك .
قال حسين للحاج وهو يشعر بارتياح عظيم :
ستجدني إن شاء الله خادمك المطيع ، المنفذ لأوامرك ، العامل بجد و نشاط على سرعة العمل بدقة متناهية .
نظر الحاج إلى حسين نظرة عميقة غاضبة ، ثم قال لسكرتيرته :
قولي له ، ألا يقول بعد ذلك خادمك .. أنتم أبنائي .
أخذت السكرتيرة حسين إلى مكتبها ، و قبل أن تغلق الباب .. ، قال الحاج لحسين :
حاول أن تتعلم منها شيئا ، وحاول أن تكسبها في جانبك ، لو وضعتك في دماغها ، فأظن إنك لن تبقى معنا في هذا العمل دقيقة واحدة ، لا تستهن بها و ابتسامتها الغامضة المريبة الشكاكة ، إنها عقرب و ليست ثعلب .
قال حسين مبتسما :
حاضر يا أبي .
و ابتسمت السكرتيرة ، وقالت للحاج :
أنا كده يا حاج ، الله يسامحك ، أنا مظلومة معاك دائما .
ألقى الحاج عطيه بشيء أمامه على السكرتيرة وهي تتراجع إلى الخلف ، فنظرت إليه و التقطته ، و خرجت من الغرفة مسرعة . و هي تسحب حسين من يديه .
*******
أحس حسين حين جذبته من يده بحرارة كهربائية تنبعث من يدها .. فهو أول مرة في حياته تلمسه فتاة ، كان يرى الفتيات فقط في الشارع رؤية عابرة ، و لهذا شعر برعشة خفيفة هزت كيانه بشدة ، و جاهدا حاول أن يسيطر على نفسه .
جلس أمامها ، و من مكتبها.. أخرجت بعض الأوراق .. و قالت له
سوف تجد هذه الأوراق في مكتبنا في الميناء ، سوف تأتي هذه الأوراق إليك مملوءة من مكتبنا هنا ، مختومة بختم المكتب ، كل الذي عليك هو أن تدققها جيدا مع أوراق العميل .. ثم توقعها من المسئولين في الميناء .. و تبدأ في الدوران على المكاتب التي سوف يحددها لك الحاج ، و بعد ذلك سيكون شغلك جاهز للعميل ، ومحاسبته بدقة كما سيعرفك الحاج ، و تسلم المبلغ في نهاية اليوم إلى السكرتيرة اللي تحت ، و تأخذ منها إيصال براءة ذمة ، تحتفظ به في ملف عندك للمراجعة ، وتحتفظ أيضا بصورة للأوراق التي تتعامل بها ، و أرجو منك الدقة و النظام .
أي مشكلة سوف تواجهها اتصل بي على هذا الرقم .. إنه خاص بي وبمكتبك في الميناء ، وسوف أرد عليك فورا لحل المشكلة .. أو أحوله للحاج في الضرورة القصوى .
أحس وهو جالس أمامها أنه أمام مُدرسة في مَدرسة ، تشرح كل خطوة بتمهل حتى يستوعبها ، و تنظر إليه حتى تتأكد أنه قد فهم ..
ثم سألته :
أنت قريب الحاج ..
ضحك كما لم يضحك من قبل ، و قال لها وهو يبتسم :
أنا لست قريب الحاج ، و لا من معارف الحاج .. غريب ..
ضحكت هي الأخرى أيضا ضحكة كشفت عن أسنانها البيضاء الناصعة ، و أحمر وجهها من الخجل ، و قالت :
البنت الملعونة سألتك نفس الأسئلة .
قال لها وهو يبتسم :
تلميذتك يا أستاذة . و أنا أيضا سوف أكون تلميذك النجيب .
شعرت لوهلة بالفخر ، و لكنها نظرت إلى حسين نظرة ذات مغزى ، وقالت له :
من أولها نفاق ، ماشي الحال ، لا يضر النفاق على أية حال .
و ضحكا الاثنين بصوت مكتوم ، فهي لم تعتاد في هذا المكتب أن تضحك من قلبها ، كل ما كانت تفعله تلك الابتسامة المرسومة على وجهها ، و كأنها خلقت بها .
أحس أنه قد بدأ الطريق معها ، فها هي تلك الابتسامة المصطنعة التي ترسمها على وجهها ، و تضحك ، و كأنها خلعت القناع لتبدو على حقيقتها دون تزييف .
فالإنسان في حياتنا يضع على وجه كثير من الأقنعة ، حتى لا يكون واضحا .. قناعا للحزن ، قناعا للفرح .. و لكن قناع الابتسامة الجامدة تجعل البعض في حيرة .. هل من أمامك يبتسم لك بالفعل ابتسامة صافية ، أم هذه الابتسامة للسخرية .
و لكن حين ينسى الإنسان نفسه ، و يخلع قناعه ويضحك فتنفرج أساريره ، بل يجري الدم في عروق وجه ، بل أن جسده قد أخذ يرقص خفة .
***********
دقت السكرتيرة الثانية الهاتف الداخلي لتعلم سكرتيرة الحاج بأن التصريح قد انتهى ، و إنها سوف تصعد به إليها في الحال .
دقت سكرتيرة الحاج هاتفه لتعلمه بوصول التصريح .. فرد عليها بـأنه سوف يخرج في الحال ، و أن تنبه السائق إلى أنه سوف يذهب بهما إلى الميناء .
صعدت السكرتيرة الثانية إلى مكتب زميلتها ، و في يدها التصريح ، وقد رفعته إلى الأعلى و ابتسامة تنير وجهها ، فمن الآن فصاعدا سوف يكون معهم كل يوم ، و هنأت حسين بالوظيفة الجديدة ، و أنه صار واحدا من أفراد المكتب ، وقالت له ممارسة سلطتها :
من الغد صباحا تأتي للتوقيع في المكتب عندي ، و تأخذ الأوراق لتذهب إلى الميناء .
فال حسين ممازحا السكرتيرتين :
توقيع فوق ، و توقيع تحت .
قالت السكرتيرة ناهد بحزم و شدة :
توقيع تحت ، و الأوراق من فوق يا خفيف .
أحس حسين بالراحة في هذا الجو العائلي الذي يعيشونه في هذا المكتب ، و شعر أنه سيكون واحدا من أفراده ، و إنه سوف ينسجم مع كل من في المكتب.. رغم أنه سيكون في الميناء إلى ما بعد العصر .. ولكنه سيكون كل يوم صباحا ومساء ليستمتع بهذا الجو الذي لم يستمتع به من قبل في بيته .
خرج الحاج من مكتبه ، فوجد الثلاثة واقفين وهم يضحكون ، فقال لسكرتيرته :
ما شاء الله ، مكتب هذا أم كازينو، سوف أخذ حسين إلى الميناء ، ليتعرف عليه ، وسوف أخذه غدا بعد توقيعه عندك يا قصيرة لكي أعرفه على جميع من في الميناء ..
أحس الحاج أن حسين قد انسجم مع الفتاتين بسرعة ، و شعر بالراحة و السرور ، و عرف أن حسين سوف ينجح في عمله ، بهذا الأسلوب الساحر الذي يتعامل به مع الآخرين .
ثم توجه بالحديث إلى حسين :
الهمة يا بطل ، شكلهما عاملينك سندوتش . خلي بالك ، و أوعى الاثنين يتفوقا عليك .
و أخذ الحاج حسين و خرج به من المكتب إلى السيارة .
النجم الصاعد
منذ أن دخل حسين عالم الميناء استطاع أن يصاحب و يصادق عددا لا بأس به من العاملين بالميناء .. من كل الطبقات ، ضباط و مفتشين و عمال .. رجالا و نساء .. كان أسلوبه الاجتماعي الشعبي يساعده و يحبب إليه كل من يتعرف عليه .
كان يجلس أمام المبنى الذي يضم مكتبه ، و كان يتحلق حوله العديد من العاملين في الشركات المنافسة ، يحتسون الشاي و يدخنون السجائر . عزم عليه أحد الضابط بسيجارة ذات مرة ، فاعتذر بأنه لا يدخن أبدا .. و لن يدخن .
فقال له الضابط وقد علت الدهشة جبينه :
ولكني أرى أمامك علبة سجائر .. و أجنبية .
قال له حسين :
هذه لزوم الشغل .. يأتي زبون ويريد أن يدخن ، أو انتهت علبة سجائره ، فأعزم عليه .. أنا لا أشرب إلا الشاي فقط ، وسوف أتعلم شرب القهوة عما قريب .
فضحك الجميع من هذا الأسلوب البسيط البديع الفريد الذي ينتهجه حسين في معاملاته ، و الحق يقال أن أسلوب المجاملة التي انتهجه مع الجميع قد أكسبه ثقة كل من حوله .
كان إفطاره اليومي الفول بالزيت الحار و الطعمية بالبصل .. يكفي ويزيد عن حاجاته و حاجة فراشه العجوز ، و لهذا كان كل من يمر أمامه يمد يده ليأكل ، و يمضى إلى حال سبيله بعد الدعاء له .. ربنا يخلي بيت المحسنين عمار . ربنا يديم عزك .
كانت خفة ظله الدائمة و دعابته الحاضرة أبدا ، هي سر نجاحه .. و قف مرة أمام إحدى المفتشات لينهي إجراء سيارة لإحدى السيدات ، وبعد أن أعطته الرقم المطلوب دفعه فنظر إليها ، و نظر إلى السيدة التي لم يعجبها الرقم ، فقال للموظفة : هزي شوية ..
فقالت لها الموظفة باستغراب واضح ، وبشدة :
ما الذي أهزه ..
قال لها : المبلغ هذا ما أقصده ، و الله ..
قالت الموظفة في ود :
هذا هو السعر الموجود أمامي يا حسين حسب اللائحة ..
قال لها بمرحه المعتاد :
السيارة قديمة و مستهلكة و الست احتفظت بها لأنها عزيزة عليها ، و عشرة عمر ، ربنا يطول لنا في عمرك .
وكانت الابتسامة لا تفارق وجهه ..
و بالفعل خفضت المفتشة السعر ، بعد أن أخذت المعلوم ، ثم سألت حسين : أ لك أخوات بنات .
قال لها :
نعم .. وربنا يسهل و يتزوجوا .. عقبالك يا رب .
ضحكت الموظفة ، وضحكت صاحبة السيارة ، ثم ناولت حسين ما اسمته إكرامية لهذا التخفيض الهائل في ثمن جمرك السيارة .
ذات يوم لاحظ اضطراب أحد الحمالين في الميناء .. فسأله عما به ، و بعد إلحاح قال له :
إن زوجته على وشك الولادة ، وأنه شبه مفلس .. و أول الشهر مازال أمامه عدة أيام .
و لم يكد يتم جملته حتى صاح به أحد العاملين بأن هناك تليفون من البيت ، و أن زوجته ستلد الليلة .
وأصر حسين على أن يصطحبه ، و طلب من عم إبراهيم فراش المكتب أن يتصل بالمكتب و يبلغهم عن تأخيره في مشوار مهم .
أشار إلى تاكسي من باب الميناء ، و ذهبا إلى بيت العامل .. حينما وصلا قالت لهما الداية : أن الولادة متعسرة .. ولابد لها من الذهاب إلى المستشفى .. أكفهر وجه الحمال ، و أحس بأن الدنيا تغوص به في أعماقها، فالولادة في المستشفى - كما يعرف الجميع - تحتاج إلى الكثير من المال ، ومن أين له بهذا المال ؟ و ما يكسبه يصرفه في البيت ، و ما يتبقى معه يصرفه أيضا في المقهى ليلا مع رفاقه .. كوب من الشاي و الشيشة .
طلب حسين سيارة إسعاف ، وجاءته بعد نصف ساعة ، ونقلت الزوجة التي كانت تتوجع من آلامها المبرحة و الزوج تكاد الدموع تتساقط من عينيه ، و أخذ حسين عربة أجرة و ذهب إلى المستشفى مع الحمال ، ترك الحمال مع زوجته ، و ذهب إلى إدارة المستشفى ، و ترك مبلغا من المال تحت الحساب ، وقال لموظف الإدارة أن يتصل به ليدفع باقي الحساب ، و أن يخبر من مع السيدة التي ستلد بأن الحساب خالص حتى ولو كان هذا المبلغ لا يكفي .
عاد في اليوم التالي إلى الميناء ليجد أن ما فعله حكاية ترددها الألسنة بالثناء و الشكر ، ليس همسا ، بل بأصوات مرتفعة ، يعلوها في كل حال الدعاء بالبركة و الرزق الوفير ، بل إنهم جمعوا بعض المال من بعضهم كمساهمة منهم لمساعدة زميلهم في محنته ، رفض أخذ المال منهم ، و طلب منهم أن يعطوا زميلهم ما جمعوا لمواجهة ما بعد الولادة من مصاريف .
لم يكن ما يفعله بناء على تلك الأوامر التي أمره بها الحاج بأن يصاحب الجميع ، الصغير قبل الكبير ، و لكنه يفعله كما يفعله أبناء حارته في الأفراح و الأحزان ، حينما يقف الجميع متكاتفين في كل الأحوال .
و لم تقف مواقف حسين عند ذلك ، فقد حضر حفل زفاف أحد العاملين في الميناء .. قال العامل لحسين :
أنا عامل فرح على قد الحال ، أرجو أن تحضر ، ولو أن الفرح مش قد المقام ..
حضر حسين و جعل الفرح البسيط من أكبر الأفراح الشعبية في الإسكندرية كلها ، فقد أقام صوان في الشارع أمام بيت العروس ، وعزم العديد من رجال الميناء دون أن يخبر العامل ، و جاء الكبار من رجال الميناء و الصغار ، و حضر الحاج ومن في المكتب جميعهم الفرح ، فقد عزمهم حسين ، و أحضر بعض أصدقائه من الحي ، بعضهم كان يوزع الشربات والأكل ، و بعضهم كان يرقص و يغني ، و استمر العرس في أروع صوره إلى الساعات الأولى من الصباح .
عاد في اليوم التالي إلى الميناء ، ليجد أن جميع العاملين في انتظاره .. حملوه على أكتافهم ، وراحوا يهتفون له بأنه رجل الميناء الأول .. الذي يقف مع الجميع في أفراحهم و أحزانهم .. أخ لهم .. رجل الخير .
كان الحاج فرحا بما يفعله حسين من الوقوف إلى جانب العاملين في الميناء ، و من خلال صحبته لهم ، و من خلال مساعدته لكل من يحتاج إلى المساعدة ، و لهذا طلب من عم إبراهيم فراش المكتب أن يبلغه بوجود اجتماع عاجل في المكتب الليلة .
خرج حسين و العم إبراهيم بعد صلاة المغرب ، ليجدا سيارة الحاج في انتظارهما ، لتقلهم إلى مقر المكتب الرئيسي ، وصعد الثلاثة إلى الطابق العلوي .
طلب الحاج من سكرتيرته أن تدعو السكرتيرة الثانية و فراش المكتب إلى الصعود بعد أن تغلق الباب الخارجي .
كان وجه الحاج يشع فرحا .. طلب من فراش المكتب أن يعد لهم العصير و الجاتوه الذي أحضره ، و أثناء تناولهم طلب من العم إبراهيم أن يحكي للجميع ما يدور في المكتب و الميناء .
قال إبراهيم الفراش و السعادة ترقص في وجهه :
سبحان الله ، لقد أصبح المكتب في الميناء خلية نحل ، الجميع كبير و صغير يأتي قبل أن يذهب إلى مكتبه ليلقي علينا السلام .. أصبح هذا المكتب كالمطعم يقصده الجميع ..
و بعد أن استمع الجميع للعم إبراهيم قال لسكرتيرته : صدقت يا .. ، لقد أعاد ابني حسين الحياة إلى المكتب هنا ، وفي الميناء ، بل جعل الميناء يشهد له بأنه رجل الخير الأول بلا منازع .. و هذا كله قد ساعد في إنهاء جميع المعاملات الخاصة بنا بالسرعة المناسبة .
و نظر إلى حسين قائلا :
شكرا يا حسين على هذا المجهود .
صمت الحاج قليلا .. و نظر إلى الحاضرين أمامه ، الذين كانوا يتهامسون في ود ، و كأنهم هم أيضا يوجهون الشكر لحسين .
قالت السكرتيرة :
صدقت يا حاج .. الواد ده مرزوق ، و الشغل كتر .. ربنا يزيد و يبارك .
نظر إليها حسين بشدة ، وقال لها ساخرا :
ست الحاجة قالت لي الواد ده .. شكرا يا ست الحاجة.
أحمر وجهها خجلا ، و ضحك الجميع من قلوبهم .
قال الحاج لينهي هذا العبث :
لقد قررت أن أصرف مكافأة لكم جميعا على المجهود الذي بذل في الفترة السابقة ، و إن شاء الله سوف تكون المكافآت مستمرة ، طالما الواد ده مستمر معنا .
وضحك الجميع من تعليق الحاج الظريف الذي يقلد به سكرتيرته الخاصة .
أعطى الحاج لكل واحد مظروفا ، و طلب من السائق أن يوصل الجميع إلى بيوتهم ، ما عدا حسين و سكرتيرته .. و ما كاد الجميع ينصرفون .. حتى طب من سكرتيرته أن تأتي له بملف حسين .
قال الحاج لحسين :
ما الراتب الذي تريده ؟
قال له حسين :
كل شيء من مولانا خير ، فأنت يا حاج لم تبخل علي بشيء .
قال له الحاج :
يا بكاش .. لقد قررت أن يكون راتبك ألف جنيه في الشهر ، وسوف أعطيك نسبة من صافي الدخل الذي أدخلته لنا ، فهل أنت مبسوط .
ترنح حسين حين سمع ذلك المبلغ الخرافي بالنسبة له .. أسكرته الفرحة .. راتب كهذا يجعله يعيش كملك في أي مكان .. أضف إلى ذلك تلك المكافأة التي قد تزيد عن الراتب أضعافا مضاعفة ..
و ضعت السكرتيرة الملف أمام الحاج .. فقال لها :
خليه لبكرة نقعد نصفيه مع بعض .. أظن أنك تأخرت اليوم ، سنوصلك إلى البيت ، وسآخذ حسين ونسهر سوا .
قالت السكرتيرة :
أمرك يا حاج ، ناس لها بخت ، وناس لها العظم .. ممكن أروح معاكم من نفسي يا حاج .. أتعشى في مطعم من المطاعم إياها مرة من نفسي .
قال لها الحاج ساخرا وهو يبتسم ابتسامة ودودة :
اذهبي إلى البيت ، ممكن تتعودي على كده ، اذهبي وفرحي أهلك ، شكلك كده أنهم سيضربونك اليوم علقة ساخنة ، و يمكن يطردوك لأنك أتأخرت عن ميعادك .
قالت السكرتيرة :
عارفين أنا فين يا حاج .. و مع من .. من البيت للشغل ، ومن الشغل للبيت ، يعني لا كده و لا كده .. و أنت عارف كده .. و عارفين أن الحاج سمعته زي البرلنتي .. و أنتم ها توصلوني .. براءة يا حاج ..
قال الحاج :
بنت في منتهى ( البجاحة ) .. مرة أخرى ، سوف آخذكم و أفسحكم في أي مكان أنتم عاوزينه .
قالت السكرتيرة :
وعد يا حاج . أنت عمرك ما خلفت وعدك معانا يا حاج.
قال الحاج :
وعد يا ..
و ضحك الثلاثة و علت ضحكاتهم الصافية ، النابعة من القلب .
لقد صدق الحاج حين أعنبر من في مكتبه أولادا له ، ولهذا كانبين الحين الحين بغطي مكافآت لكل العاملين ، فيشعر العاملين أنهم دائما سيكونون مخلصين .
أحلام
كلتاهما نظرتا إلى حسين نظرة حالمة ؛ ناهد و هدى ؛ و كل واحدة منهما تتمنى أن يكون هذا الشاب من نصيبها ، فهو فتى الأحلام التي رسمته في ذهنها . و الذي كانتا تبحثان عنه ، و لهذا لم تتزوجا إلى الآن ، رغم أن سن الزواج بدأ منذ زمن طويل .
الزواج عند الطبقة الفقيرة له فوائد ، فالأهل سوف يتخلصون من الفتاة ، و سيكون مصاريفها على الزوج ومن جيبها إذا كانت تعمل ، و إن كان تجهيز العفش يحتاج إلى الكثير من المال الذي لا يملكونه ، فيضطرون إلى كتابة وصلات امانة على أنفسهم ، قد تؤدي في حالة عجزهم غلى الدحول إلى السجن .
أما الطبقة المتوسطة فالزواج المبكر هدفه تأسيس أسرة تنعم فيها ابنتهم بالحياة ، كما كانت تنعم به في بيت أبيها ، و هم تكاليف الزواج التي تكون باهظة إلا أنهم يقدرون عليها .
أما الطبقة الغنية فالزواج لديهم له شروطه ومطالبه ، وهم يستطيعون أن يقوم بكل ما يلزم و ما هو مطلوب ، ومن أهم شروطه أن يكون غنيا ،و أن تنهي الفتاة تعليمها العالي .
و استرجعت ناهد تاريخ حياتها .. منذ أن أنهت دبلوم التجارة ، في ذلك اليوم الذي ظهرت فيه النتيجة ، كانت تسير في الشارع في أشد حالات الفرح ، و أحست أنها لا تسير بل تطير فوق الأرض ، و أن هذا الكون لا يسع فرحتها ، فالنجاح له بريق ، و أي بريق .
أخيرا ودعت المدرسة ، ودعت سهر الليالي أمام الكتب التي تذاكر منها ، و الآن جاء دور البحث عن عمل لمساعدة أسرتها من ناحية ، رغم أن أسرتها لا تحتاج إلى هذه المساعدة ، و لشراء ما تحتاج إليه من ملابس من ناحية أخرى ، و تعيش مثل البنات التي عرفتهم ، تعيش حياتها .
صحيح أن أباها لم يحرمها من شيء ، و لكنه حسب حاله المتوسطة ، كان يشتري لها ما تريد ، و خصوصا في المناسبات .
في نفس اللحظة التي كان عقلها يمنيها بحياة جديدة ، وجدت على باب أحد المحلات إعلان " مطلوب سكرتيرة " وقفت أمام الإعلان تتأمله ، في الوقت الذي كان الحاج ينزل من سيارته ، لمحها و هي تقرأ الإعلان بصوت هامس ، و نظر إليها مليا ، و ابتسم لها ..
طلب الحاج من سائقه أن يأتي بها إلى المكتب ، و أخذ يتحدث معها في كل شيء ، و حينما شعر أنها فتاة مناسبة ذات حضور قوي ، وبديهة حاضرة ، سألها هل يعرف أهلك ،أنك تبحثين عن عمل .
فأجابته بكل صراحة :
أنا لسه شايفه النتيجة اليوم ، و قد رأيت الإعلان فوقفت أمامه ، و لم أخبر أحد حتى بنجاحي.
ابتسم الحاج ، و طلب من سائقه أن يوصلها إلى بيت أهلها لتبشرهم بالنتيجة .
شعر الحاج أن تلك الفتاة هي التي يريد أن تكون سكرتيرة له ، فهي صادقة ، عفوية ، تتمتع بحضور بديهة قوي ، و شخصية جذابة .
في المساء كان الحاج يدق باب ناهد .. فتحت له و تسمرت في مكانها من شدة المفاجأة ، و نطقت :
الحاج ، عم الحاج .. و تساءلت بينها و بين نفسها :
ما الذي جاء به إلى بيتها ؟ ، و ما الهدف من هذه الزيارة الغير متوقعة ؟ .
ذهب فكرها في شتى الاتجاهات ، و خصوصا أنه لم يخبرها بأنه سوف يأتي ، فما سبب هذه الزيارة ، لعله معجب بها ، وجاء خاطبا ، و لكن أليس سنه كبيرا على الزواج بها ، إنه يكبرها بأكثر من ثلاثين عاما ، إنها قد تكون في دور بناته .
قال لها و هو يناولها ما معه من أغراض :
أ لن تقولي لي أن أدخل ؟ أم سأقف على الباب إلى أن يأتي حد كبير .
و أدخلته إلى غرفة الجلوس ، و ذهبت من فورها إلى أبيها لتخبرهم بوجود ضيف يجلس في غرفة الجلوس .
رغم الدهشة التي علت وجوه الجميع ، إلا أن الحاج قال لهم :
مبروك نجاح ابنتكم ناهد ، لقد قابلتها اليوم على باب مكتبي ، و هي تنظر إلى إعلان العمل ، و عرفت أنها تبحث عن عمل ، و بصراحة ، أحببت أن أعرف أهلها حتى أطمئن و أنا أوظفها عندي .
شعرت بالراحة و هدأت نفسيا ، فما كانت تفكر فيه ، أصبح حقيقة ، العمل أولا ، و ها هو يوضح لهم الهدف من الزيارة .
و حينما لم يجد الحاج جوابا على سؤاله ، قال لهم :
إذا كانت تريد أن تعمل عندي ، بعد موافقتكم طبعا ، فأنا أنتظرها في الساعة التاسعة صباحا في مكتبي .
شرب الحاج العصير الذي أحضرته ناهد ، و أخذ يدردش مع والدها ، ثم شرب بعد ذلك القهوة ، ثم استأذن للانصراف .
و عملت عند الحاج في اليوم التالي ، بل أصبحت محل ثقته ، بل و أصبحت مساعدته الأولى و كاتمة أسرار عمله بسرعة لم تكن تتوقعها أبدا ، صحيح أنها كانت تتعلم بسرعة كبيرة كل عمل يكلفها به الحاج ، و فوق ذلك فقد نظمت العمل في المكتب ، و أصبحت الأوراق و الملفات جاهزة .
و لم يمض وقت طويل بعد عملها عند الحاج حتى أحضرت ابنة خالتها هدى للعمل عند الحاج ، و كانت في مثل سنها ، و اقتسما العمل ، هدى في الأسفل ، و ناهد في الأعلى .
مضت الأيام و كلاهما يعمل بجد و تفاني ، و لم تفكر أي منهما في الزواج .
لقد تقدم إلى ناهد أكثر من عريس ، و لكنها كانت ترفض كل واحد من المتقدمين ، هذا شخصيته ضعيفة جدا.. ابن أمه ، هذا راتبه ضعيف .. لا يكفي فتح بيت ، هذا داخل على طمع ، يريد أن يستولى على راتبي ، و هكذا كانت ترفض كل من تقدم لها .
وجدت في حسين الشخصية التي تناسبها ، فهو طموح إلى أبعد الحدود ، و هو يستطيع أن يسيطر على من أمامه و يكسبه إلى صفه ، بل إنها رغم شخصيتها المحصنة ، وجدت أن حسين قد استطاع في فترة وجيزة أن يكسب ثقة الحاج ، مثلها ، بل وثقة الجميع ، حتى هي التي كانت لا تثق في أحد ، لا تثق إلا في نفسها فقط ، أصبحت الآن تثق فيه ثقة عمياء .. و كيف لا تثق به ، و الحاج قد ترك له كل شيء في الميناء .
و تخيلت أنها لو تزوجته ستكون أسعد من في الوجود ، لأنه يستطيع أن يكبح جماحها الذي لم يستطيع أن يكبحه أحد إلى اليوم ، فالكلمة كلمتها ، و الرأي رأيها في البيت و العمل، هو فقط يستطيع أن يجعلها كالخاتم في أصبعه ، و إنها ستكون طوع أمره ، يأمر فتلبي كل طلباته ، يجعلها تعيش مثل أمها كأميرة في بيتها .
و لكن كيف تجعله يلاحظ وجودها كأنثى تصلح للزواج ، لا كزميلة معه في العمل ، و لا كأخ كما كان يقول لهم الحاج .
و لهذا لبست فستانا لأول مرة منذ أن جاءت إلى مكتب الحاج ، ثم وضعت أحمر الشفاه التي لم تستعمله قط في حياتها ، و هكذا بدأ منظرها مختلف عما كان الجميع يرونها .
أما هدى – ابنة خالتها - فقد أحست منذ الوهلة الأولى أن حسين هو فتى أحلامها ، الفتى التي تتمناه كل بنت ، لأنه يتمتع بخفة ظل ، و ابتسامته على وجهه كل الوقت ، لا تفارقه ، لا يحب التكشير، و هي أيضا تحب المرح ، بل تأخذ الحياة ببساطة شديدة ، و شعارها في الحياة البعد عن النكد ... ، و يتعامل مع الآخرين ، و هو أيضا مثلها منظم في كل شيء ، في عمله ، يحافظ على دقة مواعيده .
و تخيلت أنها لو تزوجته ستكون أسعد من في الوجود ، وستكون الدنيا قد فتحت أبوابها لها ، لأنه يستطيع أن يبعث البهجة في البيت التي تحلم به طوال حياتها ، و يستطيع أن يجعلها كالخاتم في أصبعه ، و إنها ستكون طوع أمره ، يأمر فتلبي كل طلباته ، يجعلها تعيش مثل حياة تتمنها كل فتاة في مثل سنها .
ليته ينتبه إلى وجودها كفتاة مثل باقي الفتيات ، و ليس كزميلة أو أخت .. ماذا تفعل لكي تجذب نظره إليها .
و لهذا لبست فستانا لأول مرة منذ أن جاءت إلى مكتب الحاج ، ثم وضعت أحمر الشفاه التي لم تستعمله قط في حياتها ، و هكذا بدأ منظرها مختلف عما كان الجميع يرونها .
ذات يوم جاءت الاثنتين – دون اتفاق - إلى المكتب في أبهى زينتهما .. فستان يعلو الركبة بقليل يكاد يكشف أنوثتهما ، ووضعت كل منهما بعض المساحيق على وجهها .
لاحظ من في المكتب هذا التغيير الذي طرأ على كليتهما .. و سمعت كل منهما ما لم تسمع .. تعليقات ساخرة ضاحكة .
فراش المكتب قال :
تبارك الخلاق فيما أبدع .. كان فين ده من زمان ؟
بل و قال أحد الزبائن :
دون مجاملة ، أنت رائعة الجمال ، يا بخته اللي يفوز بهذا الجمال .
أما الحاج عطية ، فقد لاحظ هذا التطور الهائل في مظهر سكرتيرته ناهد .. و قال لها بصوته الأجش :
خير ، ما سبب هذا التغيير ، آه لو كنت أنا أصغر قليلا لكنت تزوجتك ..
و أحمر وجهها من الخجل ، و ابتسمت له و هي تضع وجهها في الأرض ، وقالت له :
التغيير أحسن يا حاج .. قبل أن يجري الزمان بي .
و انتظرت كل منهما على أحر من الجمر .. أن يأتي حسين ليرى هذا التغيير ..
جاء حسين بعد صلاة المغرب ، و كان يبدو عليه الإرهاق من كثرة العمل .. و نظر إليهما متفحصا بشدة ، لاحظ هذا التغيير الذي طرأ عليهما ، و كان تعليقه الوحيد :
فرح مين فيكم اليوم ، يا رب أشوفكم في بيت العدل .
كانت تعليقات حسين كالسهم الذي يصيب الإنسان في مقتل ،وهما تعرفان أن حسين عفوي يطلق تعليقاته البريئة وهو يبتسم ابتسامته المعهودة
أحست كل منهما باليأس و الإحباط من تلك التعليقات التي اصدرها حسين ، لقد باءت خطتهما بالفشل .
إن حسين لا ينظر إليهما على انهما فتاتين بل ينظر إليهما على أنهما زميلتين في العمل ، أو كأختين كما كان يردد الحاج .
أحزان
هجم الليل بسطوته على الحي القديم ، وذهب أغلب الناس إلى بيوتهم مستسلمين لسلطان النوم ، و ما أقوى هذا السلطان الغالب دائما علينا .. ففي وجوده يرتاح الجسد من عناء عمل يوم شاق كامل بحثا عن لقمة العيش ، التي تأتي غالبا و لكن بصعوبة بالغة ، و بعد حرب ضروس ، تأتي و تكاد تكفي أو لا تكفي سيان .
فالطبقة الكادحة في مجتمعنا تؤمن إيمانا كاملا لا يتزعزع بالمثل الشعبي القائل : " اجري يا بني آدم جري الوحوش غير رزقك ما تحوش " و لهذا يعمل الجميع لتحصيل لقمة العيش الشريفة . وهم يعرفون جيدا أنهم خارج كل الحسابات في مجتمعهم .. و جميع اللاءات موجودة .. و لكنها لاءات فريدة من نوع خاص .. لا تأمين .. لا رعاية .. لا للتعليم .. لا و لا و لا ..
ورغم أنهم يعرفون معرفة تامة كلمة نعم إلا إنها لا تقال إلا في المناسبات ، في الخطوبة مثلا ، في عقد القران أيضا .
لقد نسى المجتمع أن يعطيهم ، و لكنه لم ينس أن يأخذ منهم ، نسى أن يعطيهم حقهم في الحياة الكريمة من أكل يقيم أجسادهم الهزيلة ، و شراب نظيف خال من الشوائب ، و تعليم مناسب قد يقتح لهم أبواب الحياة خارج تلك الجحور التي عفا عليها الزمن ، جحور نسميها الآن عشوائيات ، و لكنه أخذ منهم كل شيء ، ثمن الماء الذين يشربونه ، ثمن النور الذي ينير لهم بيوتهم المتهالكة ، ثمن النظافة التي لن توجد في أحياءهم أبدا . أ ليس ذلك من سخرية القدر .
و يؤمنون إيمانا عميقا .. أن هذا قدرهم في الحياة .. و أنه من الصعب تغيير هذا الوضع الذي فرض عليهم ، كما فرض على آبائهم من قبل ، فحكمة الله فوق كل شيء ، هكذا خلق الأغنياء ليستمتعوا بحياتهم و قد لا يستمتعون في رحلة البحث عن المزيد ، و هكذا خلق الفقراء ليتعذبوا في حياتهم ، و أن الإنسان لن يأخذ أكثر من نصيبه ، وليس لهم الحق في الاعتراض على حكمة الله ، إن ذلك يعد كفرا مبينا ، و لهذا استسلموا لقدرهم بكل رضى .رغم أنهم ينظرون إلى غيرهم ، ولكنها نظرة إلى الله لأنه وهبهم تلك الحياة، وهي أيضا نظرة حسد على تلك النعم التي وزعت دون عدالة ،ولكنهم راضين كل الرضا ، فالله يختبر الإنسان في السراء و الضراء .
و قبل أن تدعو المآذن الناس إلى الاستيقاظ فجرا للصلاة ، دعوة صادقة أن تكون بداية اليوم هي الصلاة حتى يكون الرزق حلالا ، سمع صوت انفجار هائلا هز المنطقة بأكملها هزا عنيفا ،وكأن حربا ضروسا قد قامت .. أو زلزال عنيفا كتلك الزلازل التي تفاجأ البشر المطمئنين إلى حياتهم ، كان صوت الانفجار الشديد هو انهيار البيت المجاور لبيت أسرة حسين المتهالك أصلا .
و ما أكثر البيوت التي تتهدم دون سابق إنذار ، أما البيوت القديمة فلها العذر كل العذر فقد صمدت أمام كل التحديات على مر السنين ، صمدت لأنها كانت من الحجارة الصلبة ، صمدت و تحدت الزمن ، رغم العوامل الكثيرة التي طرأت عليها من رطوبة و أمطار، أما المصيبة ففي تلك البيوت الحديثة التي تنهار ، و لم تمض من عمرها القصير غير سنوات قليلة ، تنهار للعديد من الأسباب ، إما لنقص مواد البناء أو الغش فيها ، و إما لعلوها الشاهق غير المسموح به طمعا في مكسب سريع .
كان حسبن قد انتقل بمفرده من بيت أسرته إلى شقة له جديدة في بيت من بيوت الحاج ، حتى يعطي لجسده الراحة التامة التي لم يعرفها خلال وجوده في هذا البيت العتيق القاطن فيه أسرته ، فقد كان ينام على فراش متهالك وسط أخوانه الكبار و الصغار نوما لا يعرف طعم النوم .. فلا مجال للحركة يمنة أو يسرة .
كان لا يذهب إلى أسرته إلا في يوم الجمعة يوم أجازته ليتناول وجبة شهية من يد أمه ، فطعام البيت يختلف عن طعام المطاعم المنتشرة في كل مكان .. و طوال الأسبوع كان حسين يأكل إما في المكتب ، و إما في أي محل قريب من مكان عمله ، بل كان يشارك أكله في أغلب الأحيان في مكتبه في الميناء مع عم إبراهيم أو غيره ممن يصادف وجودهم في وقت الأكل ، و هكذا كانت حياته تسير رتيبة على وتيرة واحدة .
و ما إن دقت الساعة الثامنة صباحا حتى فوجئت السكرتيرة التي همت بالجلوس إلى مكتبها برنات الهاتف .. رفعت سماعة الهاتف .. سمعت صوت ضوضاء وضجيج شديدين ، وكل ما استوضحته من هذه المكالمة المزعجة .. ابعتي حسين حالا إلى البيت .. البيت انهار ، نحن في الشارع .. و قفل الخط .
اتصلت بحسين في مكتب الميناء ، فلم يرد أحد على الهاتف ، حاولت مرة أخرى ، ومرة ثالثة .. اتصلت بالحاج في البيت ، فقيل لها أن الحاج قد نزل في موعده .. و أنه في طريقه إلى المكتب . واحتار دليلها .. ماذا تفعل في هذا الموقف الصعب .. أ تذهب إلى الميناء ؟ .. أ تذهب إلى بيت حسين ؟ .. أ تبعث بالفراش الذي ينظف المكتب إلى حسين ؟..
و ما كادت تضع سماعة الهاتف ،وفكرها مشغول بهذه الكارثة التي جاءت في الصباح ، حتى كان الحاج واقفا أمامها ، ينظر إلى وجهها الشاحب المصفر الكئيب ، و عينييها الزائغتين .. و كأن مصيبة لها قد وقعت بها .
قال لها و هو ينظر إليها مستغربا :
ماذا حدث ؟ وجهك يقول الكثير .. ما المصيبة التي حدثت ؟ .
قالت له بسرغة وهي تخنقها حشرجة البكاء ، وهول الصدمة التي هزتها و المفاجأة ،ودموعها تغالبها :
منزل حسين انهار ، اتصلوا بي ، و لا أحد في المكتب يرد ، حسين ليس في مكتبه .
للحظات ذهل الحاج ذهولا شديدا أيضا ، و عاد أدراجه إلى الهدوء و التماسك الذي اشتهر به ، و طلب من كلا السكرتيرتين أن ترافقه .. ذهب إلى الميناء ، و أخذ حسين المبهوت من الوجوه الحزينة التي أمامه .. و انطلق السائق بالسيارة إلى منزل حسين ، ينهب الأرض نهبا .
كان الحاج يتمتم بالدعاء طالبا السلامة للجميع .. و بجواره الفتاتين تبكيان ، و حسين ذاهل لا يعرف ماذا يقول ، أو ماذا يفعل ، لقد ذهب تفكيره في شتى الاتجاهات ، هل مات أحد من طرفه ، لماذا لا يخبروني ؟ لماذا وجوههم حزينة و كأن مصيبة قد وقعت ؟ و الطريق الذي يسلكونه طريق بيته .
أوصلهم السائق إلى أول الحارة ، حيث أمره أحد جنود الشرطة بالتوقف ، وعدم الدخول حسب أوامر الباشا ..نزل الجميع من السيارة ، و ساروا حيث وجدوا لفيفا من الناس في الحارة .. البعض ينظر و يتعجب .. و البعض يبكي من الموقف .. و هنا وهناك تناثرت بعض الأشياء المنوعة التي مالها أن تتناثر خارج البيت .. ملابس .. أواني مطبخيه .. قطع من الأثاث ..
و مشكلة البيوت القديمة مشكلة مزمنة في أحيائنا الشعبية ، كل البيوت متهالكة ، أكل عليها الدهر و شرب ، تنتظر أن يأتيها الإزالة أو التنكيس من إدارة الحي .. و يطلب من صاحب البيت أن يخلي البيت ، ولكن سكانه أين يذهبون ؟ هم يسكنون بجنيهات لا تتعدى عددها أصابع الكف الواحد ، ناهيك عن فقرهم المدقع الذي لا يسمح لهم بالبحث عن بيت جديد ، فذلك لا طاقة لهم به .
و من الجهة الأخرى الحكومة لا تستطيع أن توفر لهم السكن ، و كل ما تستطيعه لهم إسكانهم في مساكن الإيواء ، في خيم لا تقيهم حر الصيف ، وحر النظرات .. أو برد الشتاء الذي يهجم عليهم بشدة ، وعليهم أن ينتظروا السنوات تلو السنوات حتى تدبر لهم الحكومة مسكن ، و غالبا لا يصيبهم الدور ، بل الأغلب أن الحكومة تنساهم في زيادة المشكلة المزمنة من خلال الشروط التي تضعها لطالب السكن ، أوذلك المقدم الذي لا يقدرون عليه ، فالمشاكل المهمة لدى الحكومة كثيرة .
كان حسين ينظر إلى بيوت الحي المتهالكة ، و خاصة بيت أسرته ، ووجد بيته سليما رغم تهالكه ، ووجد البيت الذي بجواره هو البيت الذي أصابه الدور في التهدم ، فحمد الله و شكره ، فالمصيبة بعيد عن أهله ..
مرت عينه في الحي فو جد أمه و بجوارها أولادها أمام البيت المتهالك ، و أباه واقفا بجوارهم ، ولمح أيضا جارتهم و أباهم و بجوارهما أبنائها كبارا و صغارا يجلسون على الأرض ، و الجميع مبهتون يبكون.. فشكر الله على فضله أن الجميع سالمين ، و ترك موكب الحاج وذهب إلى أسرته محتضنا أمه سائلا إياها عما حدث .
قالت له و هي تبكي :
الحمد الله الجميع بخير .. ولكنهم طردونا من البيت ، و قالوا لنا أن نبحث عن مأوى آخر .. حيث أن البيت معرض للسقوط ، و أنهم سيهدمونه بعد أن يخرجوا من بيت الجيران ما تحت الأنقاض .
رغم أن حسين لم يعطيها ردا سريعا على ما قالته .. إلا أن الحاج عطية كان أسرع في الرد العملي على كل أسئلتها ، قال لسائقه .. اذهب و أحضر كام ميكروباص من أي موقف ، و خذ الحاجتين إلى الشقق التي في خالد بن الوليد .. و أعطيهما شقتين ..
قالت الأم و هي حائرة تنظر إلى لا شيء :
و أشيائنا و هدومنا .. حاجات كثيرة في البيت يجب أن نأخذها .
فأجابها الحاج :
لا داعي لهذا كله .. الشقة هناك فيها كل ما تحتاجين .. و الآنسة ناهد سوف تذهب معكم لشراء ملابس ، وكل ما تحتاجونه من أغراض البيت .
ألتفت حسين إلى الحاج ، وقد دخل كل الكلام في أذنه ، وقال له :
الحمد لله .. أشكرك يا حاج .
و هم أن يقبل يده .. و الدموع تنهمر من عينيه ، فها هو الحل يأتي من رب نعمته .. إلا أن الحاج سحب يده بسرعة ، و أخذ حسين في حضنه ، و قد حبس دموع كادت أن تنهمر ، و لكنه تماسك في هذا الموقف الذي لا يتماسك فيه إلآ الأقوياء .
بعد أن رحلت الأسرتين عن أرض المعركة ، خلا الميدان من الجميع إلا الحاج و حسين ، ورجل عجوز يجلس القرفصاء على حجر و بجواره عسكري ، متحفظا عليه .. وبعض العساكر يقفون لمنع الأهالي من الاقتراب ، وعمال الإنقاذ يعملون بحذر شديد لإبعاد الأنقاض ، وإخراج ما تحتها من أحياء ، أو أموات ، ما يهمهم البشر ، و ما عدا ذلك فليس من شأنهم .
بيوتنا القديمة قد بنيت من الحجارة التي ذهبت صلابتها بفعل الأيام .. من مطر أو رطوبة ، تكاد تنتظر هبة ريح حتى تعلن استسلامها ، و تستريح من عناء السنين الطوال التي عاشتها . و رغم ذلك فهي صامدة ، وكأنها تتحدى الزمن ، و تقول له بكل عزة و أنفه .. أنا أقوى من تلك البيوت الحديثة التي تعلو تريد أن تناطح السحاب .
اقترب حسين من الرجل العجوز ، فهو يعرفه جيدا .. هو صاحب البيتين البيت المتهدم و البيت الذي يسكنونه .. وضع حسين يده على كتف الرجل يربت عليه في ود وعطف ، و كأنه يشاطره مصيبته ، حتى بالكلمات أو الحنان ..
فبادره الرجل في ذهوله و هو يكلم نفسه :
لقد طلبت منهم أن يخرجوا من البيت .. أن يبحثوا عن سكن آخر .. لقد أنذروني بهدم البيت .. لكنهم لم يخلوا البيت .. و الله لقد قلت لهم .. والله لقد قلت لهم .
و أخذ الرجل العجوز يبكي بحرارة كالصبية ، و مع بكائه صيحات هستيرية ، و كأنه قد فقد عقله من هول المصيبة .
و حاول حسين جاهدا أن يهدأ من روع الرجل العجوز المتهالك مثله مثل بيتيه .. دون جدوى .. و أخذ الرجل يصيح وهو يبكي :
سيأخذوني إلى السجن .. و الله لقد بلغتهم .. و لكنهم رفضوا . قالوا إين سيذهبون .
اقترب الحاج عطية من الرجل وقال له :
لا تخف سنقف بجانبك .. لن تذهب إلى السجن .
و كأن الرجل في ذهوله لم يسمع ما قيل ، و كأن هذا القول قد قيل للمواساة ، و تهدئة الخاطر ، أو لعله في عالم وحده من شدة الخوف الذي ملأ نفسه حتى لم يستطع أن يسيطر عليها .
طلب الحاج محاميه ، أن يسرع و يأتي حالا إلى بيت حسين ، وأعطاه العنوان .
حضر المحامي بسرعة .. و نظر إلى الوضع مذهولا .. فالذي أمامه كارثة بمعنى كلمة الكارثة .
قال له الحاج :
سوف تذهب مع هذا الرجل ، و لا تدعه يذهب إلى السجن .. بعد أن تخرجه .. اذهب به إلى مطعم و أكله ، فيبدو أنه لم يأكل منذ فترة طويلة .
و أخذ الحاج المحامي بعيدا و تتم له بكلام كثير ، لم يسمعه أحد من الحاضرين .
ذهب المحامي إلى ضابط الشرطة ، و طلب منه أن يأخذ الرجل العجوز ، ويذهب إلى قسم الشرطة .. نظر إليه الضابط شزرا.. من هذا الذي يصدر إليه الأوامر ، وكاد أن يشخط فيه ، و لكنه تمالك نفسه ، ثم قال له :
سنذهب بعد قليل إلى قسم الشرطة لعمل المحضر اللازم ، ثم سيذهب إلى النيابة .
قال له المحامي متحديا الضابط الشاب :
أعرف كل هذه الإجراءات .. و سوف يتم إنهاءها اليوم .
قال الحاج لحسين :
لا داعي لوجودنا هنا .. أنت أذهب إلى أسرتك لتهدأ من روعهم و أطمئن عليهم ، فهم في أشد الحاجة إليك ، و لا تتركهم إلا بعد أن تشعر براحتهم .. خلي ناهد معاهم تشتري لهم ما يحتاجونه من ملابس ، أو غيره من لوازم البيت .. و أنا سأذهب إلى المكتب .
و افترق الاثنين كل إلى حال سبيله .
كان هذا الحادث بداية الأحزان التي توالت على حسين ، فلم يمض إلا يومين و قد جاءه خبر وفاة جارهم .. و كأن الأحزان لا تأتي فرادى .. أسرع إلى بيت خالد بن الوليد .. و باشر الإجراءات اللازمة لدفن المتوفي ، وعمل الليلة .
و بينما هو في شغل شاغل .. إذا به يسمع من أحد أخوانه .. أن أباه قد جاءته أزمة ، فاضطر إلى ترك ما هو فيه لأحد أخوانه .. و ذهب مسرعا لينقل أباه إلى أحد المشافي .
ووصلت الأخبار سريعا إلى الحاج ، فأسرع هو وفراشه إلى بيت خالد بن الوليد ، وترك الساعي ليقف مكان حسين ، و يعد العدة للجنازة ، ثم ما يتبعها من أعمال لهذه المناسبة .
ذهب الحاج إلى المشفى ، فوجد أمام المشفى جمهور غفير من الناس ، عرف بعضهم ممن يعملون في الميناء ، و لم يعرف الكثير .. طلب من الجميع أن يغادروا إلى أعمالهم ..و سوف يبلغ حسين أنهم بجانبه ، و أنهم يدعون لوالده بالشفاء العاجل .
انصرف البعض فضا لهذا الزحام ، و بقى البعض الآخر و كأن المصاب مصابهم .. و نحن عادة نحب أن نشارك في الأحزان كما نحب أن نشارك في الأفراح ، الأولى تشعرهم بآخرتهم التي ينسوها في زحمة الحياة ، و الثانية تشعر بالسعادة المفقودة في زحمة حياتهم المملوءة بالكد و التعب .. تلك هي شيمة شعبنا الأصيل ، فالأحزان تجمع القلوب ، و الأفراح تخفف المصائب .
تقدم أحد ضباط الميناء إلى الحاج وقال له :
نعرف يا حاج أنك موجود .. و إنك أب للجميع ، ولكننا جمعنا هذا المبلغ لمساعدة حسين في تكاليف العلاج .. كما كان يفعل مع الجميع .
مال عليه الحاج طالبا منه أن يرد المال ..ولكن الضابط أبى إلا أن يأخذ ما قد جمعوه .. فأخذه منهم ،و طلب منهم الانصراف .. و أنه سوف يطمئنهم على صحة والد حسين .
دخل الحاج إلى المشفى فوجد حسين وأمه يقفان بجوار النافذة الزجاجية في الغرفة التي يرقد فيها الوالد ..غرفة العناية الفائقة .
أخذه الحاج في حضنه ، فهو يشعر بمصابه ، فبكى حسين بحرقة ، و حاول الحاج أن يطمئنه وأنه سوف يجعل جميع العاملين في المشفى يضعونه تحت عنايتهم ، وطلب منه و من أمه الدعاء له بالشفاء العاجل .. و لطف الله تعالى .
وأسرع الحاج إلى الخزينة ليضع فيها بعض المال تحت الحساب ، فهو يعرف جيدا هذه المشافي .. بل أخذ يوزع بعض المال كبقشيش على الممرضات و الممرضين في جميع الأقسام حتى يهتموا بمريضهم .
أليس من المحزن ألا يؤدي الجميع أعمالهم بأمانة و ضمير ، لأن هذا عملهم ، في مجتمعنا لا بد من تكريم هؤلاء العاملين بهبة سخية حتى يهتمون بعملهم ، و من غير الهبة ستجد أن المريض لا يهتم به أحد .
ووعد الحاج بهبة أخرى حين يقوم المريض بالسلامة ، ومن غير ذلك ، فالمريض دائما في رعاية الله و رحمته .
لم تمض أيام ثلاث حتى استرد الخالق وديعته ، مات الأب ، وخرجت الجنازة من المشفى .. كانت الجنازة مهيبة . فقد احتشد الناس جميعا يتزاحمون على حمل النعش . أولاده و جيرانه ، أصدقاء حسين في الحي ، أصدقاء حسين في العمل .
و الموت بالنسبة لنا حدث جلل .. يبدأ و كأنه جبل من الهموم ينوء تحت حمله الكثير و الكثير ، وتسمع و ترى أشياء لا تسمعها و لا تراها إلا في ذلك الموقف .. العويل .. النشيج .. البكاء بدموع حارة .. و قد يتمادى الأمر فترى من النساء العجب العجاب من تشق جلبابها ، من تخدش بأظافرها وجهها ، من يغمى عليها من شدة الموقف .. و كيف لا .. و ها هو الأب الرمز الروحي للعائلة قد ذهب ، رغم أنه في كثير من الأحيان لا نشعر بوجوده ، و لن يعود .. ولن يراه أحد بعد ذلك .. إلا في ذكرياته .
وقد تسمع غير ذلك من بعض الناس المقربين له في الحي .. ربنا رحمه .. مرض و فقر ، لولا ابنه .. لولا هذا الرجل الغريب ، لكن إلى الآن أهله يعانون في سبيل إخراجه من المستشفى .. الحمد لله .
في الصوان الذي أعد الحاج عطية إعدادا جيدا لاستقبال المشيعين .. كان الموقف مهيبا جليلا .. فالمعزون و هم كثر ، جلسوا ، و لم يتركوا الصوان طوال الليلة .. و تحاشد الناس داخل الصوان الكبير الذي امتلأ عن بكرة أبيه و خارجه ، فالجميع جاءوا إلى العزاء.. و رغم أنهم لا يعرفون الميت إلا أنه أولا واجب اجتماعي تعودناه ، و من جهة أخرى فحسين قد وقف مع الجميع في أفراحهم ، و في أحزانهم ، حتى في مشاكلهم .. كبار رجال الميناء ، وصغارهم ..أبناء الحي القديم .. و تسابق القراء الكبار في إحياء الليلة .
بعد انتهاء أيام العزاء الثلاث المقررة حسب تقاليدنا العريقة .. زار الحاج حسين ليطمئن عليه و على أسرته .
سأل الحاج أم حسين :
هل ينقصكم شيئا ؟
شكرته أم حسين، و طلبت منه و الدموع تنهمر من عينيها : أن تعود إلى بيتها القديم .. إلى حيها القديم الذي عاشت فيه سنوات عمرها . فهي لم تعتاد أن تكون خارج بيتها التي عاشت فيه كل أيامها .. تريد أن تموت بسلام في بيتها .
قال لها الحاج بحنان بالغ :
ستعودين إلى بيتك القديم ، إن شاء الله .. فحسين يعمل الآن على تجديده بعد أن اشتراه لكم .. ليكون بيتكم .
نظرت الأم إلى ابنها باستغراب ، فلم يحدثها في ذلك الموضوع خلال الأيام القليلة الماضية التي أعقبت تركهم البيت ، أو حتى بعد وفاة أبيه .
و نظر الحاج إلى حسين المندهش من هول المفاجأة ، و قبل أن يتكلم ، قال له الحاج :
أما أنت فعندك إجازة مفتوحة حتى تنظم أمور الأسرتين .
نظر حسين إلى الحاج نظرة المستغرب ، فهو يسمع كلاما لا يعرف عنه شيئا .. متى اشترى البيتين ، و متى بدأ في إعادة بنائه .. و لكنه لم ينطق بكلمة واحدة ، بعد أن لمح نظرات الحاج إليه .
و بدأت في نفس حسين الحزينة صراعات من نوع غريب .. أحزان الموت التي يأتي فجأة فيفرق الأحباب ، و هذا الرجل الذي يعتبره في منزلة والده منذ أن عمل عنده .. يعمل الخير دون حساب ، ودون أن يخبره بما فعل .. لقد كان الوحيد الثابت الجنان ، المتصرف في كل الشئون ، و كأن المصاب مصابه ، و الجميع يأتمر بأمره .. كل العاملين لديه يجرون شمالا و يمينا ، حتى أنه لمح وهو يحاول أن يساعد في أي عمل ، لمح السكرتيرتين تجلسان بجوار والدته للمواساة ، بل و المساعدة في إعداد الطعام ليتناوله أهله البيت .. رغم وجود أخواته البنات .. لمس في كل هذا أسرة جديدة ، كما قال له الحاج عند بداية العمل لديه .. نحن نتعامل كأسرة واحدة ..
و كان العبء الأكبر في نظره هو ما تحمله المحامي و بعض مساعديه في إنجاز المعاملات بأسرع وقت ممكن .
قال له حسين في زحمة أفكاره :
لقد نظمت أمورهم . و سأعود إلى الشغل من الغد .
نظر الحاج إلى حسين و علامات الأستغراب على وجهه ، و لم ينطق بكلمة ، فهو يعرف حسين إنسان لا يحب الراحة ، و لا يشعر بالتعب مهما كان الحمل الذي ينوء به ، و راحته دائما في العمل .
بداية الطريق
في المساء جلس حسين إلى أمه وجارتهم .. لتنظيم حياة الأسرتين .. وتوزيع الأدوار التي يقوم بها كل فرد في العائلتين .. و قال لوالدته و جارتها .. أنه متكفل بكل مصاريف البيتين ، و لكنه في نفس الوقت على الرجال من الطرفين أن يقوم كل واحد بواجبه في نفقات البيت دون أن يشعروا أن هناك تغيير .
دعت له الجارة و أمه كل الدعاء .. أما الجارة فقد بكت ما شاء لها البكاء فقد تذكرت زوجها ، وقالت لحسين على حين فجأة :
ما ذنبك في تحمل نفقاتنا ، أولادي موجودين .
نظر حسين إليها و هو يعرف جيدا أنها لا تقصد الإهانة من وراء كلماتها ، وقال لها في حنان بالغ :
لن أستطيع أن أوفي كل جميلك علي .. فأنت التي قمت بتربيتي مع أمي ، و أنا صراحة اعتبرك أمي الثانية فأنت الخير لنا جميعا ، و بصراحة أنت و أمي أختان منذ زمن بعيد ، قبل أن أعرف الحياة .
لم يكن حسين أكبر إخوانه ، و لم يكن أيضا أصغرهم ، فهناك من يكبرونه ، و أيضا هناك من يصغرونه ، فالهواية التي تمارسها نساء الأحياء الشعبية هي الخلفة ، من ناحية لربط الزوج فلا يستطيع أن يتركها ، و من ناحية أخرى فالاعتقاد السائد هو أن الأولاد عزوة تنفع وقت الحاجة .
و حسين هو الوحيد تقريبا الذي ابتسم له الحظ دون أخوانه الصبيان ، و ضحكت له الحياة ضحكاتها ، أما البنات فهن قعيدات البيت انتظارا لابن الحلال القادم .
و قد أصر حسين على أن يكمل إخوانه الصغار بنين و بنات تعليمهم ، رغم المعارضة الشديدة التي واجهها من أمه و أبيه قبل أن يموت .. و ها هو يشترك معهم في التعلم تشجيعا لهم، و كذلك أخواته البنات اللاتي يكبرنه حتى يملكن شهادة ، لعل التعليم يكون المخرج لهم من هذا الفارغ الذي يعيشونه في حياتهم ، و لعله يفتح لهم أبواب الحياة الضيقة التي يعيشونها .
في نفس الفترة كان محامي الحاج ينفذ ما أمره به الحاج لتلميع صورة حسين في الفترة المقبلة ، و إظهاره بصورة أخرى غير صورته التي عرف بها .. اشترى البيتين القديمين و جعلهما بيتا واحدا كبيرا ، متعدد الطوابق ، و كلف من يقوم ببنائهم ، أخذ في شراء المحلات التي يعمل فيها أخوانه ، و أولاد الجارة .. على أن يظل أصحاب المحلات يديرونها ، وطلب من أصحاب هذه المحلات التكتم على الأمر ، و عدم البوح بهذا السر ، و عدم تغيير المعاملة مع أخوة حسين أو جارتهم ، بل و إعطاءهم نفس الأجور التي كانوا يأخذونها من قبل ، و الزيادة التي سوف يلونها تكون تدريجيا ، وأجزل لأصحاب المحلات راتب مغري ، رغم أنه أعطاهم حقهم في شراء المحلات .. على أن يتم بعد ذلك إيداع باقي الربح في حساب حسين .
كان الحاج يريد من هذا كله إظهار حسين بصورة رجل الأعمال الكبير ، ليكون الواجهة التي يعمل من خلفها .. و كان خطته هي السيطرة على حسين حتى يكون فيما بعد الخليفة له في أعماله .
لم يتم إبلاغ حسين بهذا كله .. و لم يدر في ذهن حسين إلا أن يؤدي عمله الذي كلفه به الحاج على أكمل وجه ، و كان في اعتقاده أن راتبه الذي يأخذه من الحاج يكفي و زيادة ، و أن ما يعطيه له الحاج من نسبة تجعله يعيش حياة كريمة سعيدة .
بعد أن عاد حسين إلى عمله بعد فترة الحداد القصيرة، و بعد الاستقبال الحافل الذي أستقبل به من قبل أصدقائه الكثر في الميناء .. تعرض حسين لأكثر من موقف من المواقف المحرجة .
ذات يوم تم تفتيش الشحنة المستوردة من الآلات الكهربائية تفتيشا دقيقا ، حتى أنهم قاموا بفك بعض الأماكن ليتأكدوا من خلوها من الأشياء الممنوعة ، فلم يجدوا شيئا .
كانت العملية مقصودة بالطبع .. فقد كان يقف مع مفتشي الجمارك رئيسهم ، بل انضم معهم رجال مباحث الميناء ، و رجال مباحث المخدرات ، و عدد من ضباط الشرطة ورجالها يقفون خلف حسين ، و كأنهم متحفظين عليه .. كان الموقف رهيبا ، و لكنه مر بسلام ، فلم يجدوا ما كانوا يبحثون عنه .
و أبلغ حسين الحاج بذلك هاتفيا .. فطمأنه الحاج إلى سلامة موقفهم ، و أن كل ذلك ليس إلا إجراءات تتخذ بين الحين و الحين .
في مساء اليوم ذاته جلس حسين مع ضابط المباحث في الميناء ، الذي كان يتحدث إلى حسين .. قال له :
إن بلاغ قد جاء لهذه الشحنة بالذات ، وإنه يستغرب من هذا البلاغ
ابتسم حسين و قال لضابط المباحث أمام الجميع :
هذه ضريبة الشهرة ، لقد زاد العمل عندنا بصورة كبيرة ، و أظن إننا أحسن من في هذا السوق ، و أظن أن المنافسين يحاولون الكيد لنا .. و أظن أنها لن تكون الأخيرة .
ضحك الجميع من هذا التعليق اللطيف الساخر ، فقد كان حسين يثق في الحاج كل الثقة ..
و قال ضابط المباحث لحسين :
ليست هذه المرة الأولى ، و لا الأخيرة .. نحن نؤدي عملنا كما تعرف يا حسين ، و لا نقصد الإهانة لك و للحاج عطيه ، و لكنه بلاغ و نحن نؤدي ما علينا .
قال حسين :
من قال إني زعلان ، أنا أقوم بعملي على أكمل وجه ، و أنتم تقومون بأعمالكم بكل إخلاص ، و هذه البضاعة ملك الحاج عطيه ، وهو يستورد دائما الكثير من البضائع من مختلف دول العالم . صحيح أن صورتي ستكون مهزوزة أمامكم ، و لكن هذا حال الدنيا ، سأبلغهم في المكتب بذلك حتى يأخذوا احتياطهم .
حدث ذلك أكثر من مرة ، و لكن الأمور صارت في مصلحة حسين دائما ، و استدعي للتحقيق الودي أكثر من مرة ، و كان رده المعاد دائما الذي مرنه عليه الحاج :
إنه ليس إلا مخلص جمركي ، وأن مكتبه لا يقبل إلا الأعمال السليمة ، ومن نشك فيه ، و هذا لم يحدث ، لا يتم التعامل معه ، فيكفي الرزق الشريف الحلال ، سواء في الشحن أو الاستيراد ، لنا أو لغيرنا .
و رغم ذلك فقد كانت تصله قبيل وصول الشحنة ، من خلال أصدقائه ، أن هناك حملة كبيرة على المركب الفلاني .. فيسارع بنقل الخبر إلى الحاج .. الذي يقوم بدوره بطمأنة حسين ، وهو يقول له وهو يضحك :
حط في بطنك بطيخة صيفي .. نحن نعمل في النور .
و ذات مرة قال له الحاج :
أظن أن هناك من يقدم فينا هذه البلاغات .
رد حسين :
المكاتب المنافسة لنا يا حاج .
قال له الحاج و هو يسرح بفكره :
لا أظن .. المسألة أكبر من هذا بكثير ، و سوف أعرف من يفعل ذلك .
و سرح الحاج بعيدا دون أن ينطق بكلمة ، و لكن الابتسامة لم تفارق وجهه الذي يميل إلى الاحمرار .
كان الحاج إلى جانب هذا المكتب يتاجر في أشياء عديدة .. أبسطها الأجهزة الكهربائية المستوردة بأنواعها المختلفة ، و من كل البلاد الأوربية و الأسيوية .. و كان يستورد بعض الأغذية المحفوظة و الحبوب و غيرها ، بالإضافة إلى الملابس الجاهزة ، و كانت هذه التجارة المشروعة تدر عليه دخلا كبيرا ، وكان هو من أكبر المستوردين ، و كان يتحكم في السوق تحكما شديدا . فهو الذي يوزع بضاعته على تجار الجملة .
و كانت له محلاته الخاصة التي يخزن فيها تلك البضائع ليوزعها على التجار الصغار بنسبة ربح بسيطة ، وكان يوزع بضاعته في مختلف أنحاء الجمهورية ، بل و يبيعها مثله مثل التجار الآخرين ، و بنفس الأسعار المتداولة في السوق .
و إلى جانب ذلك كان يقوم بتهريب بعض الأشياء الممنوعة بأنواعها المختلفة ، وبكميات معقولة في كل مرة ، كانت تدر عليه أيضا دخلا يصل إلى الملايين في كل عملية ، وكان يتصرف في هذه البضاعة في سرية تامة دون أن يدري أحد من العاملين المقربين معه ، و بعيدا عن أعين الرقباء .
بل كان له صبيان في الميناء ، يركبون اللنش ، و يذهبون إلى البواخر المنتظرة خارج الميناء لمبادلة بعض الآثار المزيفة ، أو بعض الممنوعات ، بالسجائر المستوردة أو الخمور أو الملابس أو غيرها من الأشياء الثمينة النادرة من تحف .. و كان هؤلاء الصبيان بارعون جدا في عملية المبادلة ، وكانوا أبرع في الهروب من رجال حرس السواحل . و كانت هذه التجارة تدر أيضا دخلا لا بأس به له و للعاملين معه .
كان من ضمن صبية الحاج في ذلك المجال فؤاد الذي برع في اقتناص ما يريد من خلال تبادل الممنوعات مع تلك البواخر ، و ظهرت براعته أيضا في طريقة هروبه من رجال خفر السواحل ، حتى كان يقولون عليه و على لنشه الداهية .
إذن وجود حسين بطهارته و أمانته كان الوجهة التي استطاع الحاج التخفي خلفها ببراعة .و كان لابد من الحرص و الحذر مع حسين نفسه .. وهو ينقل له صلاحيات تفوق صلاحيات وظيفته .
كان حسين بالنسبة له الملاك الطاهر الحامي بنزاهته أعمال الحاج .
و لهذا ظل الحاج يغدق عليه و على فؤاد الكثير من المال ، بل كان المتكفل بشئون البيتين ، فكان يرسل إليهما الخضروات و الفاطهة و الحوم و الدواجن ، بل كان بواسطة ناهد و هدى يشتري ملابس البنات .
فيلا الياسمين
اتصلت ابنة الحاج بمكتبه لتعلمهم أنه لن يأتي اليوم ، لأنه أصيب بنزلة برد شديدة .. وأخبرت السكرتيرة حسين بذلك الأمر .. فطلب منها أن تبلغ السائق بأنهم سيزورون الحاج بعد انتهاء العمل .
انتصف النهار ولما يحضر السائق .. و اقتربت الشمس من المغيب .. أمسك حسين سماعة الهاتف و طلب سكرتيرة الحاج مستفسرا عن سبب تأخر السائق .. فأخبرته أنه سيكون عنده في الساعة السابعة ، و أبلغته أن يأتي إلى المكتب لأنهم ذاهبون معه إلى الحاج في بيته .
طلب حسين من السائق أن يعرج بهم إلى محل حلويات و محل زهور ، ابتسم السائق ابتسامة عريضة ، فهو يعرف جيدا أخلاق أبناء البلد ، و فعل ما طلبه منه حسين .
وأخيرا وصل الركب إلى فيلا الحاج ، كان مكتوبا على يافطة باب الفيلا " فيلا الياسمين " ، وقف السائق ، و أطلق زمور السيارة ، ففتح له الباب على مصراعيه ، و أنطلق بالسيارة إلى باب الفيلا الفخمة بلونها الأبيض.. استنشق من في السيارة رائحة الياسمين المنتشرة في الحديقة التي مروا بها ، رائحة ذكية فواحة تبعث في النفس الشعور بالراحة و البهجة .
تذكر حسين ذلك الحلم الذي رآه قبل أن يتفق مع الحاج على العمل عنده ، إنه مثل هارون الرشيد في زمانه تلتف حوله الجواري - في عصر لا يوجد فيه جواري – بلباسهن الشفاف الذي يظهر مفاتن الجسد ، البعض يحركن المراوح يلطفن الجو حوله ، و البعض الآخر يدلكن أجزاء جسده بكل رقة . و لكنه انتبه فجأة من حلمه الذي تجدد في خياله مرة أخرى .
منذ ما يقرب من خمس سنوات .. منذ أن التقى حسين بالحاج عطية أول مرة ، و إلى الآن لم يكن حسين يعرف بيت الحاج .. ولم يكن الحاج قد دعاه إلى الحضور إلى بيته ، و ها هو يقتحم هذا العالم المجهول عليه ، و ها هي اللحظة قد حانت ليعرف أسرة الحاج . يعرف حياة الحاج التي لم يتكلم عنها قط ..
و تخيل فيما تخيل تلك الزوجة التي تختلف عن أمه كثيرا .. أكيد ، فهي تعني بنفسها و بزوجها و أطفالها.. و عدد من الأولاد ، بعضهم يكبرونه سنا ، و بعضهم يصغرونه .
ضغط حسين على زر الجرس ضغطة واحدة .. ففتحت الباب فتاة أنيقة في سن الزهور اليانعة ، تبتعد عن السمنة ، و لا تقترب من النحافة ، قمحاوية اللون ، ذلك اللون الساحر الذي تشتهر به الفتيات .. ترتدي فستانا طويلا ، يخفي أنوثتها .. رحبت بهم ، و طلبت منهم الانتظار في البهو الفسيح الذي يضم الصالون ريثما تأتي الهانم لاستقبالهم .
كان كل شيء في الفيلا يدل على الأناقة و الذوق الرفيع جدا .. وكل قطعة من الأثاث الموزع بعناية فائقة في أرجاء الفيلا كان يدل على أنه مستورد من مكان ما من بلاد العالم المختلفة ، و أنه لا يمت إلى مصر بأي صلة ، حتى بعض التماثيل التي كانت تعلوها أنوار خافتة ، تجسد التمثال تجسيدا حيا ، فتظنه أنه شخص حي يقف في هذا المكان يرحب بك ، و تبعث في المكان الإضاءة الهادئة ، و بعض التحف النادرة الشرقية و الغربية الغالية هنا و هناك ، تتناثر برقة و دقة ، و السجاد بألوانه البديعة ، ونقاشاته الفريدة بهرت الأنفاس قبل أن تبهر العيون .
بعد فترة وجيزة هبطت من الطابق العلوي فتاة أخرى تشبه الملائكة في خطواتها الوئيدة الرشيقة كالغزال ، وكأنها قد خرجت من الجنة منذ لحظات قليلة ، هي الأخرى تحفة فنية من الجمال الرباني مبدع الجمال في كوننا ، بياض صافي من الشوائب و الحبوب التي تصيب غيرها من بنات بني البشر ، عيون رمادية باهرة تلمع في هذا الجو الخافت الساحر ، و كأنها قطة سيامي ، شعر يميل إلى الاصفرار يختلط به بعض السواد ، قوام رشيق ، ليست بالقصيرة و لا الطويلة ، و كأن نحات من أبرع النحاتين قد أبدع تصميمه و تنسيقه ، صورة فنية أبدعها المولى سبحانه و تعالى .
سلمت بابتسامة رقيقة عذبة دون أن تمد يدها ، كعادة بنات الطبقة الراقية حين يسلمون على ضيوفهم ، و جلست تحملق بطرف خفي في الفتاتين و الشاب التي طالما سمعت عنهما و لم تراهما من قبل ..
و كانت الفتاتان تنظر إليها من طرف خفي ، في إعجاب ظاهر ، و إن كان حسين لم يطيل النظر ، و يكفي أن نظرته الخاطفة قد رسمت الصورة الجميلة في مخيلته ، بل لعله قال في دخيلة نفسه :
أ هي من حور الجنة ، سبحان مبدع الكون ، لقد أعطاها كل الجمال ، و لم يبخل عليها بهذا المنظر الخلاب .
ثم سألت الفتاتين :
من منكما هدى ، و من ناهد ؟
و قبل أن تتلقى ردا على سؤالها اتجهت ببصرها و قالت لحسين :
أما أنت فحسين .. أبي كل يوم يعطيني التفاصيل الكثيرة عنكم يوميا .. أما أنا فنادية .. شرفتمونا .
كانت الكلمات تنساب من بين شفتيها بطلاقة كأنه لحن موسيقي بديع من الألحان التي تعزفها الفرق الموسيقية ، كانت الكلمات التي تنطق بها سريعا واضحة ، تكاد تكون همسا رقيقا ، لحنا بديعا يداعب الأذن الصاغية إلى عيونها ، كما يداعب القلوب الواعية التي في الصدور .
مضت لحظات قصيرة .. دخلت الفتاة الأولى ، و قدمت العصير إلى الضيوف ..
سألتها نادية :
بابا نائم و لا صاحي يا صفاء .. خبطي عليه لكي يزوره أولاده .
صعد الثلاثة تتقدمهم نادية ، طرقت الباب برقة ولطف و دخلت ، و دخل وراءها الثلاثة .. وكانت حجرة نوم الحاج هي الأخرى تحفة من تحف الزمان .. السرير الكبير الذي يشبه أسرة الملوك ، وحوله ستائر بيضاء شفافة من كل الجوانب .. الدولاب يمتد من أول الحائط إلى آخره ، ولونه الوردي الفاتح يخطف الأبصار ، و مقابضه الذهبية ، و تناثرت بعض الكراسي الوثيرة ، و أمام كل كرسي طاولة صغيرة ، أما في الأعلى فكانت نجفة كبيرة تشبه القلب تتدلى تبعث العديد من الأضواء بين الحين و الحين ، و إن كان اللون الأبيض فيها ثابت دائم .. و تحت الأقدام كانت هناك طنفسة ( سجادة ) عليها بعض الرسوم البديعة ، و أخيرا هناك ثلاجة صغيرة في الزاوية اليمنى بديعة بلونها الذهبي .
حينما دخلت نادية قبلت يد والدها الراقد على سريره، وسألته عن صحته ، و كذلك فعل الجميع ، حاول أن ينهض ، فلم تسمح له نادية إلا بالاعتدال فقط على سريره . و حاول الحاج عطية أن يتبرم من توجيهات ابنته ، و لكنه أثر الهدوء ، فهو يعرف ابنته جيدا حينما تقول لابد أن ينفذ أمرها .
مضى الوقت في أحاديث متبادلة .. عن صحة الحاج الغالية .. عن العمل كيف يسير .. عن الحياة .. عن الناس .
نادى الحاج السائق و طلب منه أن يوصل البنات إلى منزلهما ، ثم يعود في الصباح ..
نظرت نادية إلى أبيها ، وقالت له :
لن تذهب إلى أي مكان قبل أن تبرأ من مرضك ، و أتأكد كل التأكد إنك بخير .. و كذلك فعلت ناهد و هدى وحسين ..
سألتهما نادية قبل أن يغادرا أن يأتيا إليها إذا سمحت الظروف لهما ، و لو مرة في الأسبوع يجلسا معها .. لكي يتحدثوا ، فهي وحيدة في هذا البيت الكبير ، لا تحدث إلا خادمتها في شئون البيت لا غير ..
قال الحاج لحسين، و هو ينظر إلى ابنته :
سوف تسهر معنا الليلة يا حسين ندردش سويا ، فأنا منذ الصباح لم أتكلم مع أحد ، وسوف تبات في الحجرة المجاورة لي ، و تذهب في الصباح إلى عملك .
طالت السهرة ، و تنوع الحديث بين العمل في المكتب ، و في الميناء ، و بين غيره من معرفة أخبار الأهل ..
و كان حسين طوال الجلسة واضعا وجهه في الأرض تحاشيا أن ينظر إلى ابنة الحاج .. لاحظ ذلك الحاج كما لاحظته ابنته .. بل كان حسين يتحاشى تلك النظرات الجانبية التي يصدرها أمثاله من الشباب حين يرون فتاة جميلة أمامهم .
قال الحاج لحسين : نادية ابنتي الوحيدة و في السنة النهائية في كلية الطب ، ودائما ما تنجح بامتياز .
قال حسين دون أن يرفع عينيه :
تشرفنا يا أفندم .. و بارك الله لك فيها يا حاج ، و ربنا يوفقها في حياتها .
نظر الحاج إلى ابنته و قال لها :
هذا حسين .
قاطعته نادية :
أعرف أن هذا حسين ، فأنت دائما ما تذكر حكاياته كل ليلة ، و كأنها حدوتة ما قبل النوم .
ضحك الأب و صفاء لهذا التعليق الساخر الذي داعبت به نادية حسين ووالدها ، وأحمر وجه حسين من الخجل .
قالت نادية و هي تستأذن لتذهب إلى النوم :
أظن يا حسين إنك عرفت البيت ، و أن البيت بيتك ، فنرجو أن نراك دائما عندنا ، ولكن المرة القادمة كن طبيعيا .
شعر حسين بنسمات حرة تهب على وجهه تلفحه من شدتها ، رغم أن هواء تلك الليلة كان شديد البرودة ، حين أصدرت نادية هذا التعليق ، بل شعر ببعض قطرات العرق تبلل وجهه وجسده ، و بعض القشعريرة تسري في كيانه .
كيف يكون طبيعيا ، و ماذا تقصد ، هل لأنه لم ينظر إليها احتراما لوالدها ، ووضع وجهه في الأرض ؟ هل لأنه يتحاشى النظر إليها و الحديث معها ، فهذه أول مرة يلتقي بها، و يتحدث إليها . و من عادته ألا ينظر إلى وجه أي فتاة مباشرة ، فهو من خلال النظرة الأولى يعرف من يتحدث إليه .
قال لها أبوها :
سيكون هنا كل يوم حتى أعود إلى العمل مرة أخرى .. تصبحي على خير يا ملاكي .
و بعد أن ذهبت نادية .. قال الحاج لحسين :
لقد طلبت من ناهد أن تعرض عليك كل البيانات ، وأن تمضي عليها بدلا مني .
قال حسين :
يعطيك العافية يا حاج.. ممكن أن نبعت لك الورق لتوقع عليه إلى أن تعود بسلامة الله .
قال له الحاج :
أريد أن أستريح من زحمة العمل ، و أريد أن تحل محلي في كل شيء تدريجيا ، و غدا سوف أشرح لك بكل صراحة كل أعمالنا .
شعر حسين من نبرات الحاج شبه الحزينة ، أن هناك شيء ما يدور في ذهن الحاج ، و لكنه قال له :
ألف سلامة يا حاج ، شوية تعب بسيطة، وبكرة تقوم ، و ترجع لنا بالسلامة .
شعر حسين أن تلميحات الحاج من خلال مرضه توحي بأشياء كثيرة جدا لها كثير من المعاني .. و تساءل بينه و بين نفسه ، رغم دعواته للحاج بالشفاء العاجل ، تساءل .. هل يشعر الحاج بما يشعر به من في سنه ، و أن النهاية قد اقتربت .. صحيح أن الحاج يعتبرني مثل ابنه ، و أنه يقف إلى جانبه في كل الأوقات منذ أن تعرف عليه ، ومنذ أن عمل لديه .. فهو يعطيه صلاحيات في العمل ، تفوق حجمه ، سواء في الميناء ، أو في خارج الميناء ، و ها هو يفوضه و بكل صراحة أن يحل محله في عمله في المكتب .
لم ينم تلك الليلة من التفكير المضني فيما يقصده الحاج ، وما يريده منه، سواء في المكتب ، أو في الميناء ، و ها هو يضيف إلى أعبائه عملا جديدا ، و هو الأشراف على كل أعماله ، و أنه له الحق في التوقيع بدلا منه على كل الأوراق التي تقدم إليه .
لم يشعر بشيء إلا بطرقات خفيفة على باب الحجرة التي نزل فيها في فيلا الحاج .. كانت صفاء توقظه في الصباح الباكر ليفطر معهم ، و يعد نفسه للذهاب إلى عمله ، فالسائق ينتظره .. و نبهته إلى وجود الحمام في الغرفة نفسها .
ما إن سمع الطرقات على الباب حتى هب من فراشه ، و فتح الباب ، فهو لم يغير ملابسه ، و نام على الكنبة الموضوعة في الحجرة بدلا من نومه على السرير ..
قالت له صفاء في الباب الذي أمامك في الحجرة في الداخل يوجد الحمام ، أعد نفسك ، سيبدأ الفطار بعد نصف ساعة من الآن ، فكن جاهزا . و تركته و انصرفت .
دخل الحمام فإذا به أمام تحفة فنية أخرى ، و تجرأ و أخذ دش ماء بارد ، حتى ينعش نفسه و يفيق من نومه المضطرب .
حياة جديدة لم بعرفها من قبل ، و ها هو يفتح بابا جديدا يطل على حياة الناس الأغنياء ، حياته الماضية كانت تمر أمامه كأنها كابوس ، و ها هو يلمح تلك الحياة الغريبة .
هبط مسرعا فوجد الحاج عطية و ابنته و صفاء على المائدة المستطيلة ، و كانت هي تحفة لم ير في حياته مثلها ، بيضاء، أرجلها على هيئة دلافين ، و حتى الكراسي البيضاء تعلو فلا يظهر الجالس عليها ، و هي أيضا تحفة من تحف البيت .
وجد أمام الكراسي الذس أشار إليه الحاج بالجلوس عليه العديد من أصناف الطعام : جبن أبيض ، و آخر رومي ، بسطرمة سادة و بسطرمة بالبيض ، بيضة عيون ، و كوب من الحليب .
لم يعرف كيف يتصرف وقد وضعت أمامه شوكة و سكينة و معلقة .
حاول أن يأكل كما يأكلون ، و لكن التجربة فشلت ، فسكت عن الأكل .
قال له الحاج :
كن على طبيعتك ، و كل كما كنت تأكل في بيتك ، سوف تتعود بعد ذلك على الأكل بهذه الأشياء التي أمامك ، أما الآن فكل و لا تنظر إلى شيء .
أحمر وجهه من الخجل ، فهو لم يعتاد على الأكل كما يأكلون ، بل كان أكله المفضل الفول بالزيت الحار ، و الطعمية بالبصل التي كان يأكلها في بيتهم أو في مكتب الميناء ، فهذه الأشياء في نظره لم تجعله يقف على رجليه في عمله .
وأكتفى من الأكل بشرب كوب اللبن مع بعض الخبز حتى يذهبه إلى عمله فيأكل هناك حتى يشبع .
عمل جديد
أربعة أيام مضت منذ أن أصيب الحاج بنزلة البرد الحادة، و التي أرقدته في الفراش بعيدا عن عمله المتواصل منذ الصباح الباكر إلى أول المساء .. من الثامنة صباحا إلى الثامنة مساء ، و متابعته من بعيد لكل أعماله .. لكنه بفضل الله و رعايته ، ورعاية نادية المؤقتة له ، و رعاية صفاء الدائمة .. استرد الحاج عافيته ، و رغم ذلك فلم تسمح له نادية بالنزول إلى عمله .
في هذه الأيام كان حسين يزور الحاج في بيته يوميا ، وكان البرنامج اليومي لهذه الزيارة .. العشاء .. التحدث الحر في وجود نادية ، ثم مغادرة نادية للمذاكرة لأن الامتحانات على الأبواب ، ثم التحدث في شئون العمل فيما بينهما .. ثم الذهاب إلى النوم ، بعد أن ينتصف الليل ، و في الصباح الإفطار ، ثم مغادرة حسين إلى العمل .
برنامج مرتب تعوده حسين ، ولم يحيد عنه الثلاثة قيد أنملة .. فكل منهم كان ملتزم به لغرض في نفسه .. أما نادية فلدراستها و امتحاناتها القريبة ، أما الحاج فلأنه حريص على أن تسير حياته على تلك الوتيرة التي انتهجها لنفسه طوال حياته ، و أن يسير العمل دون منغصات سواء في المكتب ، أو في تلك الأماكن التي كان يذهب إليها بسيارته يوميا .. أما حسين فكان يهدف إلى رعاية عمله ، ورضاء الحاج عنه ، و رعاية أسرته .
في اليوم الخامس قرر الحاج أن ينزل إلى عمله رغم معارضة ابنته الشديدة لهذا النزول المبكر ، و أما حسين فقد طلب منه أن يستريح استراحة كاملة مادام الشغل يسير بما يرضيه ، ودون أخطاء .. و لكن أحدا لم يستطع أن يثني الحاج عما عزم .. فالحاج يشتهر فيما يشتهر بثبات الرأي و العناد ، و تنفيذ ما يعن له من قرارات .
و أخيرا قالت له ابنته بعصبية :
أرجو أن تسمع الكلام و لو لمرة واحدة ، مثلما أنا اسمع كلامك ، و أنفذه دائما .
ضحك الحاج وحسين ، انسحبت نادية ، وهي تشعر ببعض الخجل ، فهى تطلق تعليقاتها بعفوية زائدة دون أن تشعر بما تفعل ، ببراءة طفولية مازالت تعيش في داخلها و لن تفارقها .
و نزل الحاج إلى مكتبه في الصباح بصحبة حسين ، كان استقبال الجميع له في كل مكان استقبالا حافلا .. و أمر الحاج سائقه المفضل الذي يلزمه في كل تحركاته ، الذي رافقه منذ سنوات طويلة كظله ، أن يذهب و يشتري عجلا كبيرا ، و يذبحه أمام المكتب ، و يوزع لحمه على الغلابة و الفقراء أبناء حي حسين صدقة على شفائه .. كما أمر فراش مكتبه أن يوزع زجاجات البيبسي على كل من في الحي .. و طلب من حسين أن يفعل ذلك في الميناء .. و أخيرا قرر أن يصرف مكافأة مالية لجميع العاملين عنده .
في المساء جلس الحاج إلى حسين ، و قال له :
غدا سوف تذهب لاستخراج جواز سفر لك .. سيكون السائق معك ، فهو يعرف الكثيرين هناك ،و سوف تستلمه في الحال .
قال حسين باستغراب شديد : و لماذا جواز السفر ، وكل عملي هنا في الميناء .
قال له الحاج :
سوف تحل محلي في السفر ، إنني كبرت ، و لا أستطيع الآن السفر الكثير ،واريد أن أنقل كل أعمالي لك .
قال حسين :
يعطيك الله الصحة و العافية ، مازالت شبابا يا مولانا .
قال له الحاج :
من الآن سوف تعرف الكثير عن أعمالي الكثيرة في الداخل و الخارج .. سأضع قدميك على أول الطريق ، وأحدد لك طرق التعامل مع من نتعامل معهم ، و سوف أتركك تتعامل بكل حريتك ، و لا مانع عندي من استشارتي في بعض المشاكل التي تواجهك في العمل ، و إن كنت أظن أن عقلك و ذكاءك سيجعلك تتصرف بحكمة و منطق.
قال حسين للحاج وهو مندهش :
ستجدني إن شاء الله تحت أمرك يا مولاي ، و سوف أنفذ كل تعليماتك بدقة .
و تساءل حسين بينه و بين نفسه مرة أخرى .. ما الذي يدور في ذهن الحاج ، كيف يحل محله ، هل هو قادر على أداء هذه المهام الكثيرة إلى جانب عمله في الميناء ، لقد كان الحاج يؤدي كل أعماله من مكتبه ، و من خلال التليفون ، و لكنه صمت لحظات وهو يفكر، وهو ينظر إلى الحاج منتبها إلى كلامه ، فهو يعرف الحاج جيدا .. و أن ما يقوله سوف ينفذ بكل دقة و دون مراجعة من أحد .
هل المرض الذي أصابه جعله يتخوف من الغد القريب ، ومما يحمله معه من مفاجآت لا يعلم إلا الله خطورتها ، أم الخوف على ابنته – وهي في ربيعها الثالث والعشرين – من تلك الثروة التي سيتركها لها ، وهي لا تعرف شيئا في أمور الحياة لأنها كان يحبسها ، فهي بالنسبة له جوهرة ثمينة ، و ما أدراه كيف تتصرف فيما تركه لها من أشياء كثيرة متشعبة ، يعرف أنها لن تستطيع أن تواجهها بمفردها ، فليس لها الخبرة بهذا كله ، فكل خبرتها كانت في دراستها الطبية ،وهي فوق ذلك كانت تريد أن تفتح لها عيادة ومستشفى .
مضت أيام قليلة ، وكان جواز السفر في يد حسين ، و مضت أيام أخرى حين طلب الحاج من حسين أن يأتي إلى الفيلا .
ذهب حسين في المساء إلى بيت الحاج ، وكان الاستقبال هذه المرة ملفتا للنظر ..
قالت صفاء مديرة المنزل بعد أن فتحت له الباب و هي تبتسم ابتسامة تدل على الود :
أتفضل يا حسين بك .. الهانم سوف تنزل حالا .. ماذا تريد أن تشرب غير الشاي و القهوة و العصير .. ماذا تريد أن أعد لك على العشاء .. أنت الآن واحد من أهل البيت .
استغرب حسين من تلك المعاملة اللطيفة الودودة ، و إن كان استغرابه أكثر من أن تكون مديرة المنزل صفاء هي من تقوم بذلك ، فصفاء كما تعود قليلة الكلام ، صحيح أنها تجلس معهم في المجلس ، و لكنها تقوم بين الحين و الآخر لتعد الشاي أو القهوة أو العصير ، و تختفي أحيانا لمدة ليست بالبسيطة لتعد الطعام ، أ هي تعليمات الحاج لها ؟ أم لأنه أصبح يأتي إلى الفيلا كثيرا ، و اعتادت أن تراه بينهم منذ أن مرض الحاج ، وكل من في المنزل يعامله كأنه واحد منهم ، حتى لم يعد ضيفا كما في أول مرة .
نزلت نادية بثوب أبيض جميل شفاف به بعض القلوب الحمراء يبرز كثير من مفاتن جسدها البض، نزلت بخطوات وئيدة ، وجلست بعد أن مدت أطراف أصابعها للسلام على حسين ، كعاتها ..
قالت له بصوتها الرقيق الهامس الدافئ ، و بسرعتها المعتادة في الكلام :
أين أنت ، لماذا لم تعد تأتي إلينا ، كما كنت تأتي ، لقد تعودنا على جلساتك الشيقة ، لماذا لم تعد تأتي يوميا ؟ المرة القادمة هات معاك ناهد و هدى ..
قال حسين لنادية و هو لا يكاد ينظر إليها إلا من طرف خفي كما تعود :
لا شيء يمنعنا عنكم إلا الشغل .. و أظن أنك في الفترة السابقة كان عندك امتحانات .. و الحاج معي كل يوم في المكتب .
قالت نادية :
الامتحانات انتهت ، و الصيف يحب السهر ، نتمنى أن تأتي كل يوم و تسهر معنا كما عودتنا ، و يا ليت تجيب معك ناهد و هدى ، إحنا في جانب نتحدث و نثرثر أحاديث البنات ، و أنت و أبي في الجانب الآخر تتحدثان في العمل أحاديث ألأعمال و الكبار .
نزل الحاج و هو يرتدي جلبابه الأبيض المفضل لديه ، وفوقه عباءة بنية اللون مطرزة باللون الذهبي ، جلس على كرسيه الهزاز المعتاد ، و تبادل الثلاثة الحديث في مرح ظاهر .
دخلت صفاء معلنة جاهزية العشاء.. و طلبت منهم الانتقال إلى غرفة الطعام .. جلس الحاج وابنته و حسين و صفاء على مائدة الطعام ، و استمر الحديث بينهم أثناء تناول الطعام .
قال الحاج لحسين :
تعرف يا حسين .. أن صفاء قريبة لنا ، و هي يتيمة ، و أنا الذي ربيتها منذ صغرها ، و سوف أعطيك أختها لتقوم على رعايتك في شقتك التي تقطنها بعيدا عن أهلك .
قال حسين للحاج ضاحكا : يتيمة أزاي يا حاج .. وأنت أبو الجميع ، ربنا يخليك لنا .
قالت نادية وهي تضحك :
بكاش ، هكذا سمعتها من زملائي في الجامعة ، فبعض الزملاء يقولونها لبعضهم .
قال حسين مدافعا عن نفسه :
و الله العظيم ، من أول يوم عرفت فيه الحاج ، و أنا أعتبره نفسي ابنه .. و الحاج قال لي بالحرف الواحد : أنت ابني .. صحيح يا حاج .
قال الحاج وهو يضحك بصوت عال :
صحيح يا حسين ..
ثم أردف و قال لنادية :
خفي على الولد .. صحيح أنه ابن سوق وولد ناصح جدا ، و شاطر جدا في عمله ، و لكنه لا يعرف المراوغة و القفشات التي تستخدمينها .
ضحك حسين و قال للحاج :
دعها يا حاج ، و خليها على طبيعتها.
شعر بسرور فقد رد إليها جملتها التي قالتها له في أول زيارة له لبيتهم ، و أحس براحة نفسية ، فقد تعود على نادية ، و إن كان كما كان لا ينظر إليها إلا من طرف خفي دون أن تلمحه هي .
قال الحاج لحسين منتقلا بحديثه إلى العمل :
سوف تذهب إلى بيروت بعد غد .
قال حسين و علامات الدهشة تعلو وجهه :
بعد غد .
قال الحاج بهدوئه المعهود ، ابتساماته الواثقة :
نعم .. كما قلت لك قبلا .. سوف أنقل كل أعمالي إليك تدريجيا .. و سوف أعودك على ذلك .. و سأشرح لك بعد العشاء ماذا تفعل .
قالت نادية و كأنها تريد أن تنبه أباها و حسين إلى وجودها :
بابا أريد بعض الملابس الجديدة .
قال الحاج مطيبا لخاطرها :
كالعادة .. اكتبي ما تريدين ، سوف يحضر لك حسين كل شيء .
قالت نادية موجهة حديثها لحسين :
أرجو أن تفهمني صح :
عندك أخوات بنات في مثل سني .
قال لها لحسين :
عندي ثلاث فتيات .. اثنين أكبر مني ، وواحدة صغيرة .
قالت له نادية :
ما رأيك أن أعطيك بعض الملابس لهم .. و على فكرة كل ملابسي جديدة . على فكرة يا أستاذ حسين أنا لا أستطيع التعبير مثلكم ، فأنا ليس لي أصدقاء ،و أنا لا أختلط حتى بزملائي في الجامعة ،و ليس لي إلا صديقة واحدة .
قال لها حسين :
و الله عندهم ، وأنا لا أبخل عليهم بشراء الملابس . وأنا لا أزعل من كلامك أبدا ،فأنت مثل أختى .
تدخل الحاج قائلا لابنته و كأنه يؤنبها :
ما رأيك يا نادية أن نزور أسرة حسين في بيتهم ، و تأخذي ما تريدين كهدايا لهم .. ولا داعي لإحراج حسين .
قالت نادية :
أريد أن أذهب إلى بيروت .. أريد أن ألف العالم ، أريد أن أرى الدنيا .
قال لها الحاج : قريبا جدا سوف تذهبين ، و ترين كل شيء .
جلس الأربعة حول حمام السباحة ، يستمتعون بالنسيم العليل ، الذي يهب بين الحين و الآخر .. جلسوا يتجاذبون أطراف الحديث في مرح و سرور ..
قال الحاج وهو يداعب ابنته ، موجها الحديث إلى حسين :
سأقيم حفلا صغيرا بمناسبة نجاح ابنتي .
قالت نادية مبتهجة : متى يا أبي ؟
قال الحاج : بعد ظهور النتيجة بأسبوع .
قالت نادية و هي تضحك و بأسلوبها الساخر :
أنا ناجحة يا حاج ، و بتقدير امتياز .. فلماذا لا تقيم الحفل غدا .
قال حسين لنادية :
ممكن الحاج يأخذك أنت وصفاء ، و تسهرون خارج البيت .
قالت نادية وقد بدأ على وجهها بعض علامات الحزن :
يا ليت .. و لكن أبي لم يعتاد أن يأخذني إلى أي مكان .. من البيت للشغل ، رايح جاي ، أما أنا فالبيت والحديقة و الجامعة هما كل ما اعرف في هذه الحياة ، بابا دائما مشغول ، و لا وقت عنده إلا للعمل ، أما أنا فليس لي أصحاب أزورهم و يزورني إلا صفاء ، و هي أيضا لا تعرف الطريق إلى باب الفيلا .
قال الحاج :
إن شاء الله ، سوف أصحبك إلى كل مكان .. سوف ترين العالم كله ،سوف أتفرغ لك من الآن فصاعدا ..
توجه الحاج بحديثه إلى حسين مرة أخرى قائلا:
التذكرة جاهزة .. و حجزت لك في الفندق الذي كنت أنزل فيه دائما ، و نفس الحجرة ، سيارة ليموزين سوف تقلك إلى كل الأماكن التي ستذهب إليها ، سائقها يعرفني ، و سوف تعجب به ، و هي تحت تصرفك خلال وجودك هناك ، لا تأخذ ملابس كثيرة لك معك ، سوف تشتري لنفسك ملابس من هناك .. خليك خفيف و أنت رايح .. سوف تقابل بعض الناس في جناحك .. و ستذهب إلى البعض الآخر ، السائق يعرف كل الأماكن التي سوف تذهب إليها .. أهم شيء أن تحضر الأشياء بسعر مناسب .. ستكون زيارتك لمدة ثلاث أيام فقط .. يومين للعمل ، واليوم الثالث مفتوح .. السائق سوف يريك معالم بيروت أيضا .
قالت نادية :
هذه ليست رحلة .. هذا عمل . أعمال شاقة من أعمالك .. يوم واحد راحة فقط .
توجهت نادية بالحديث إلى حسين :
خلي بالك ، بابا يقول دائما .. إن نساء و فتيات بيروت جميلات جدا ، و لهم سحر خاص .
قال حسين معقبا موجها كلامه للحاج :
حسبتك يا حاج مثلي .. ليس لك إلا في الشغل .
قال الحاج لابنته و بعض الجد يبدو على وجهه معاتبا لها :
سمعت جبت لي الكلام ، و خليت الرجل يشك في .. يا حسين يا ابني أنا لا أعرف في صنف النساء إلا.. ابنتي وصفاء ، وجوز العيال في المكتب . هذه هي دنيتي ، وهي في نظري أجمل دنيا ..
و ضحك الجميع ضحكا متواصلا .
كان حسين أيضا لا يعرف في حياته إلا العمل ، فلا وقت لديه للحب ، ولا وقت لديه لمصاحبة النساء ، كل ما يعرفه في دنيته أن يؤدي عمله .
********
في أحدى المرات طرقت باب شقته أمرأة ، ففتحت لها الخادمة ، و سألتها من تكون . فقالت لها رغم وجود حسين في الداخل :
سيدي لم يعود من العمل ، و هويأتي متعب
قالت المرأة بمرح زائد :
سوف أعود و أقابله .
********
قال الحاج لابنته :
لا داعي للهزاز الجامد مع حسين ، أنا أعرفه جيدا منذ أن عمل معي ، وهو لا يعرف أي امرأة ، بل أجزم لك صادقا أنه غير مرتبط بأي فتاة ، حياته تقريبا هي العمل و أسرته .
كان الحاج صادقا فيما يقول كل الصدق .. فحسين لا يعرف من النساء إلا أمه و أخواته الثلاث .. و ناهد وهدى .. و هو يعتبرهما مثل أخواته البنات ، فهو أن أراد أن يهزر فمرحه في حدود المعقول .. و بعد أن يمضي وقته في عمله ، يعود إلى البيت ، أو القهوة يجلس في سهرة بريئة مع أصدقائه القدامى - الذي لم يفارقهم - يحتسي الشاي. حتى من يعمل معهم في الميناء من نساء ، فهن ليس إلا موظفات يتعامل معهن لا أكثر و لا أقل .
و مضت السهرة في طريقها المعتاد .. و مضى الوقت سريعا دون أن يشعر به الجميع .
قالت نادية و حسين يهم بالانصراف :
أنا كده يا حسين ، أحاول أن أشاغب قدر الإمكان حتى أشعر بأنني موجودة في الحياة .
ابتسم حسين و قال لها :
أنا لا أزعل من أحد ، و إذا كان ولابد فسوف أحضر معي المرة القادمة .. يوم الإجازة ناهد و هدى ،و نخرج للنزهة في أي مكان .. بعد إذن الحاج .. لكي أريك الحياة كيف تسير الحياة في خارج الفيلا ..
قال الحاج :
و الله فكرة .. و أنا أ ليس لي نصيب ، و لا عجزت يا أولاد .
قالت حسين :
أنت الخير و البركة يا حاج .
و انصرف حسين رغم إلحاح الحاج عليه بالمبيت في الحجرة التي خصصها له ،
و لكن حسين قال له :
سوف أذهب إلى والدتي ، فأنا لم أراها منذ أسبوع تقريبا .. و بالمرة أسألهم عما يريدون من بيروت .
بيروت
في بيروت ، و في المطار استقبلته فتاة جميلة شقراء ، طويلة القامة ، نحيفة الجسد ، جذابة، فاتنة الجسد ، و علامات الأنوثة ظاهرة عليها ، رغم إنها ما زالت قريبة من سن حسين ، وضعت يافطة عليها اسمه ، أتجه إليها و هو يبتسم ابتسامته المعهودة ، رحبت به كل الترحيب ، و سألته عن الحاج و صحته ، اصطحبته إلى الفندق الذي حجز له فيه ، تركته ليستريح بعض الوقت .
لم يمض وقت طويل من نفس اليوم حتى جاءته الفتاة مرة أخرى ، ترتدي ملابس غير التي أردتها حين أستقبلته ، و قد ظهر في فستانها مفاتن جسدها ، و طلبت منه أن يستعد لاصطحابه إلى زيارات العمل المقررة له .. سألها بعفوية عن عملها فأجابته بابتسامتها الساحرة الجذابة ، أنا جورجينا ، أنا مديرة أعمال الحاج هنا في لبنان ، و سوف اصطحبك إلى جميع الاجتماعات المقررة لك ، سأكون كظلك في فترة إقامتك هنا ، و بعد أن تسافر سوف أقوم بشحن باقي الأغراض التي طلبها الحاج ، و سوف أريك في النهاية بيروت و جمالها في اليوم الحر المقرر لك .
مضت الأيام الثلاث الأولى في اجتماعات عديدة ، منها الثياب الجديدة نسائية و رجالية و شبابية .. و منها بعض التحف الفنية المبهرة ، و استطاع بمهارته أن يدير هذه اللقاءات بمهارة ، و استطاع أن يحدد الأسعار المناسبة التي طالبه بها الحاج .
قال له جورجينا بمرح :
أظن لو أن الحاج كان يدير هذه اللقاءات فلن يديرها بتلك البراعة
ابتسم حسين و لم يعلق على تعليقها .
استراح في الفندق في آخر النهار ، و في صباح اليوم التالي جاءته في الصباح الباكر ، و أيقظته من ثباته العميق ، و قالت له بابتسامتها الجذابة الساحرة التي تخلب القلوب :
اليوم يوم حر جدا ، هذه أيام الصيف في النهار حارة والليل باردة ، و سوف نخرج سويا إلى بيروت ، لقد تجولنا في الأيام الماضية في داخل بيروت ، و لكننا اليوم سوف نخرج إلى أطراف بيروت ، سوف نذهب إلى الساحل البديع برمله الذهبية وصخوره ، ومياهه الزرقاء والبيضاء والخضراء .
بيروت من المدن القديمة كالإسكندرية تماما ، و كلمة بيروت ترجع نسبتها إلى آلهة الصنوبر التي تنتشر بجوار شبه الجزيرة المطلة على البحر . و بيروت مثل الإسكندرية مصيف عالمي بديع فيه العديد من الفنادق ، و الملاهي الليلية ، و الشواطئ الرملية التي سوف تعجبك ، سوف ترى ما لم تراه في الإسكندرية .
ومن العجب العجاب أن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا فتح بيروت ، و هو السبب في جمالها الذي تراه بعد الحكم العثماني البغيض الذي حول بيروت إلى مقبرة ، لقد منع أهلها من السكن فيها ، و أمرهم بالسكن في ضواحيها ، كان متعسفا في كل أفعاله و احكامه – ولهذا نحن نحب مصر حبا يفوق الوصف،والمصريون أيضا نحبهم لخفة دمهم ، و العرب يأتون إلى لبنان كمصيف وتجارة .
إننا اليوم سوف نخرج عن النظام المعتاد في الأيام السابقة ، سوف نذهب إلى الشاطئ ، و سوف تمرح ما شاء لك المرح ،مرح لم تعرفه في حياتك ، و سوف تأكل بعيدا عن الفنادق و اطعمتها الجاهزة، ستقوم بالشواء بأنفسناعلى الشاطئ ، و سوف أعد لك التبولة أفضل سلطة لبناني في العالم ، وف تاكل و لن تشعر بالشبع .
انطلقت بسيارتها الصغيرة بسرعة جنونية ، صاعدة نازلة فوق الجبال .. في أول الأمر شعر ببعض الخوف ، و لكنه كتم خوفه ، فهو قد تعود أن تكون مشاعره غير واضحة .
قالت له على حين فجأة :
انظر – أمامك - نحن الآن على الشاطئ الصخري ، بعض الناس يأتون هنا و يخيمون صيفا و شتاء ، فالجو جميل هنا طيلة النهار ، و لكنه بارد جدا في الليل ، في الزيارة القادمة سوف اصطحبك إلى هنا لتغير الجو ، لتشعر بالراحة من عناء العمل .. بعد قليل سوف نكون في الجزء الشمالي ، على الساحل الرملي ، حيث المصايف البديعة .
ركنت السيارة في موقف جانبي بجانب السيارات ، ورحب بها جميع الأصدقاء الذين سبقوها إلى هناك ، جلست تحت الشمسية فترة من الوقت ، ثم نهضت ، و أخذت بيد حسين و أعطته مايوه للسباحة ، نظر إليها و علامات الاستغراب و الدهشة على وجه ، و سأل نفسه :
هل كان الحاج يفعل ذلك.. إذن فالحاج كان يفضل بيروت على جميع البلاد التي زارها . وابتسم .
فقالت له بسرعة و هي تضحك :
حسين بك أن اليوم حر جدا ، عيش فترة شبابك دون قيود . بسرعة المياه هنا جميلة ، ستشعر بالبرودة أولا ثم سيتعود جسمك على المياه تدريجيا .
دخل إلى الشاليه ، و لبس المايوه ، و خرج ليجد أن الفتاة ترتدي مايوه باكيني مثير هي وزميلتها و زملاءها ، و أخذت بيده إلى المياه الباردة ، لينزلوا جميعا فيها ، و أخذوا في السباحة و اللعب حتى نال منهم التعب و الجوع .
خرجوا ، و قد وجدوا الشواية منصوبة ، و الفحم جاهز ، أخذت الفتيات في إعداد السلطات ، و أخذ الشباب يشوون اللحم و الفراخ على الشواية . و كانت الفتيات تعد التبولة .
تناولوا طعامهم الشهي في مرح و سرور ، و أخذوا يشربون من العصير و البيرة التي احضروها معهم في ثلاجات صغيرة مخصوصة ، ثم جلسوا على الكراسي فترة من الوقت للاسترخاء ليهضموا ذلك الطعام الدسم .
اصطحبت جورجينا حسين للسير على الشاطئ ، هو يرتدي المايوه ، و هي ترتدي المايوه البكيني المثير ، في أول الأمر كانا يسيران متجاورين ، ثم فجأة أمسكت يده ، فأحس برعشة تسري في جسده ، أحس بأن الحياة لم تعد هي لحياة التي يحياها.. هو لم يتعود أن يمسك بيد فتاة ، بل تذكر حديث أمه أنه لا علاقة لشاب مع فتاة قبل الزواج .
ضحكت جورجينا ضحكة عالية – وكانها شعرت بما يدور في باله - و قالت له :
أ لم تمسك يد فتاة من قبل ، لقد شعرت برعشة يدك . هنا يا حسين نحن أصدقاء فقط ، الجميع أصدقاء فقط ، و نمارس حياتنا بشكل طبيعي نعيشها في يسر و سهولة ، لا نحب التعقيد ،نحن نعيش حياتنا في وقت فراغنا . لا فرق بين الأصدقاء ، و أظن إننا سوف نكون أصدقاء ، فلا تنسى ذلك .
في نهاية اليوم رجعت هي و حسين إلى الفندق ، كانت الشنط قد جهزت بما أخذه حسين من المحلات ، و قد كتب على كل شنطة .. نادية .. حسين .. هدايا .
قالت له مديرة الأعمال جورجينا في جدية :
سوف أشحن لك كل ما تعاقدت عليه في الأيام السابقة ، وسوف تستلمها من المطار باسم مندوب مكتبكم .
ثم نظرت إليه و قالت :
حسين بك ، أظن سوف تأتي مرة أخرى ، و سوف أجعلك تعيش أجمل أيام حياتك .. ثم طبعت قبلة على خديه ، و أحمر وجه من الخجل ، فابتسمت و انصرفت .
أحس لوهلة إنه سوف يغمى عليه ، فهو لم يقبل أي فتاة من قبل ، حتى أمه التي يحبها لم يقبلها ، و لم تقبله . و ها هو يرى عادات أخرى و تقاليد تختلف عن العادات و التقاليد التي عاشها في بيئته الفقيرة ، أو في بيئته التي قفز إليها بسرعة الصارخ لو إن فتاة قبلت فتى في الشارع كما فعلت جورجينا ، لسمع كلاهما الكثير و الكثير من التعليقات الساخر و البذئية ، بل قد يصل الأمر إلى الاقتياد إلى قسم الشرطة .
و سأل نفسه سؤالا يشغل باله :
هل هدف الحاج من هذه الرحلة هو العمل فقط ، و لماذا قرر أن يكون هناك راحة في اليوم الأخير ، إن ما يراه هنا شيئا لم يعتاد عليه في الإسكندرية ، الحرية الزائدة عن اللزوم ، و لا أحد ينظر إلى الآخر ، كل في شأنه ، كل يعيش حياته كما يحلو له أن يعيش ،
أظن أن الحاج أراد أن أتعلم شيئا جديدا غير تلك الحياة التي أعيشها ، عمل ثم عمل ، لا شيء غير العمل ، حتى بعد انتهاء العمل كانت سهراته المفضلة هى الجلوس مع أصدقائه في المقهى على الشاطئ ، كانوا يتحدثون في لا شيء ، و المشروب المفضل لديهم هو الشاي و الشيشة ، و لعب الدومينو أو الكزتشينة .
تذكر حسين حين عزم عليه أحد أفراد الشلة أن يشرب من الشيشة ، و لكنه رفض قي أصرار ، ثم أمام ضحكات الجميع اخذ نفس ، فإذا به يسعل ما شاء له السعال ، و حينما استرد أنفاسه و جد الجميع يضحكون ما شاء لهم الضحك .
رغم أن شواطئ الإسكندرية كبيرة و جميلة إلا أنه لم ير أحد يشوي اللحم أو الفراخ كما رأى في بيروت ، كانوا يأتون بالسندوتشات الجاهزة , المعدة في البيت ، رغم وجود مطاعم متناثرة على الشاطئ .
الوجه الآخر
عاد حسين من بيروت محملا بالهدايا البسيطة التي أوصاه بها الحاج لابنته ، و بعض الهدايا الأخرى ، و ذهب من المطار إلى مكتب الحاج مباشرة كما أوصاه الحاج بذلك قبل سفره ..
في المكتب أخذ حسين يوزع الهدايا الخاصة التي اشتراها لمن معه .. هدي فستان .. ناهد فستان .. و فراش المكتب بدلة صيفي ، وفراش الميناء أيضا بدلة صيفي .
قالت له ناهد :
أشكرك يا حسين ، الفستان ذوقه جميل ، و رقيق ، ربنا يخليك لنا ، ممكن أعرف أنت الذي اشتريت ، أم كانت هناك فتاة إلى جوارك .
و تذكر حسين حين وصف لجورجينا مقاس ناهد قائلا لها :
إنها أقصر منك بكثير ، و أسمن منك بكثير .
قالت له جورجينا :
و بشرتها .
قال لها :
ليست فاتحة ، و ليست غامضة .
و تذكر ضحكة جورجينا التي قالت له :
أنا عارفة أنتم المصريون تحبوا الفتاة السمينة .
قال لها :
هذه زميلتنا في المكتب .. تعرفي أمي حجمها أكبر منك أربع مرات أو خمس .
و ضحكت جورجينا بصوت عال ، لقد شعرت إن حسين يتمتع ببراءة لم تجدها في كثير من الشباب الذين اختلطت بهم خلال عملها .
و ارتد إليه صوابه قبل أن يلاحظ أحد عليه الشرود ، و مد يده بفستان آخر إلى هدى .
و ابتسمت هدى ابتسامة عريضة ، و أحمر وجهها ، فالفستان رغم جماله سيكشف الكثير من جسدها ، وهي لم تعتد على ذلك، و شكرته على ما قدم لها ، و رددت نفس الكلام الذي قالته ابنة خالتها .
عجيب هذا الفتى إنه يفهم في كل شيء ،إلا إنه لا يعرف معنى الحب ،معنى العلاقة بين الفتاة و الفتى ، ليته كان طبيعيا مثل جميع البشر ، ساعة لربك وساعة لعملك و ساعة لقلبك ،ولكن حسين كل الساعات لربه و لعمله فقط و لا شيء غير عمله .
أما فراش المكتب فارتسمت علامة الفرح على وجهه ، و أخذ يدعو حسين ، وقال له :
جاءت في وقتها ـ البدل هنا أسعارها نار .
و رغم أن الهدايا كانت بسيطة ، إلا أن الجميع شعروا بالسعادة ، و عمت موجة من المرح و الفرح ، فحسين لم ينس الجميع ، نفس ما كان يفعله الحاج ،ولكن حسين يختلف في إنه يفهم نفسية الشباب ، و يأتي بما يناسب كل شيء ، أويشتهيه .
و ناول الحاج شنطة قائلا له ووجهة يلمع بالبشر و البهجة :
هذه الشنطة بها ما طلبته الآنسة نادية مني .. كما هي من المحل الذي أشرت إليه يا حاج .
أما هذه الشنطة ففيها بعض الهدايا البسيطة ، للسائق ، وسائق المنزل ، وبعض القمصان لنفسي و البنطلونات ..
قال له الحاج و على وجهه ابتسامة باهتة :
و أظن أنك نسيت من في البيت كالعادة ، كان من المفروض أن تحضر لهم هم أيضا بعض الهدايا البسيطة ،و لكنك تذكرت ما قلت لك أن تكون خفيفا .
قال حسين وهو يبتسم :
سوف اشتري لهم الآن من بعض المحلات الموجودة هنا .. أحسست أن الوزن سيكون أكثر من اللازم .. وأنا عارف رجال الجمارك .. سيفتشون و يقلبون ما في الشنط .
تمتم الحاج في سره :
خير فعلت . حذرك ، و ليس بخلك جعلك تنجح في أول اختبار لك ، فالتفتيش كان من الممكن أن يكشف ما بعض الأشياء التي احضرتها .
ثم قال لحسين في لهجة آمرة :
انزل الآن وفورا، و أذهب مع السائق ، و هات الحاجات التي تريدها من أرقى محلاتنا، و على حسابي أيضا .. أوعى تنسى جارتكم و بناتها .
قال حسين :
خيرك سابق يا حاج .
قال له الحاج :
سأنتظرك على العشاء .
كالعادة ذهب حسين إلى المحلات التي كان الحاج يرسله إليها دائما في كل مرة ، و بالشنط المعهودة ، و لكن هذه المرة اختار الملابس بعناية فائقة .. مما عليه تكت أجنبي لكي يوزعها على أخواته و أخوانه ، و بنات جارته كما قال الحاج ..
و بعد مضي ساعتين أو أكثر اشترى شنطة كبيرة ليضع فيها كل ما أشترى من ملابس ، ليوهم الجميع أنه اشترى هذه الأشياء من الخارج .
في بيته كانت الدعوات من نصيبه من أمه و جارتهم ، و شعر أن الفرح يسود جو البيت ، فهذه هي المرة الأولى التي يأتي بها ملابس جديدة ،و بهذه الكمية الوفيرة ، ففي السابق كان يأتي بجلباب لكل من أخواته البنات وأمه .
قالت أمه :
سوف أحضر لك الأكل علشان تأكل معنا .
قال لها حسين و هو يداري وجه :
على فكرة أنا معزوم على الغداء ، في وقت تان سوف أكل من يدك الأكل الذي أحبه .. فأنا مشتاق إلى طبيخك اللذيذ .
قالت له و بعض علامات الغضب :
يعني الناس اللي ها تأكل عندهم أحسن منا ، أنت من زمان لم تأكل معنا .
يا أمي هذا غداء عمل ، اقول لك سوف أكل معك ولو قليلا حتى لا تزعلي ،وإن شاء الله سوف أكل معاكم غدا .
ذهب حسين إلى بيت الحاج في المساء حاملا شنطة متوسطة الحجم ، فتحت له صفاء ، و رحبت به كالعادة .. و ما هي إلا لحظات حتى هبطت نادية - بسرعة على غير عادتها - شاكرة لحسين على هذه الملابس الجميلة ، و هبط الحاج أيضا إلى الصالة مرحبا بحسين الذي كان يجلس فيها مع نادية .. و قدمت صفاء أكواب العصير كالمعتاد .
فتح حسين الشنطة التي أحضرها معه ، وقدم لصفاء فستانا أنيقا قائلا لها :
أرجو أن يعجبك ذوقي ..
شكرته صفاء على هذه الهدية الجميلة و دعت له .. ثم قدم فستانا آخر لنادية أبيض به بعض الورود الحمراء صغيرة.. و طقم أقلام و مسبحة للحاج .
بعد تناول العشاء و أثناء جلستهم المعتادة .. قال الحاج لحسين :
لقد أخبرتني جورجينا ببراعتك في الفصال ، و قدرة على كسب من أمامك ، ستذهب هذه المرة إلى كوريا ؛ للاتفاق على بعض الأجهزة الكهربائية من هناك ، و قطع الغيار اللازمة لها .
قال حسين :
و لكنني يا أبي الحاج ، لا أعرف اللغة الكورية ، أما اللغة الإنجليزية فأنا لا أعرف منها إلا القليل الذي تعلمته لمباشرة عملي في الميناء .
قال الحاج ضاحكا ممازحا:
و لا أنا .. هناك مترجم سيكون معك .. باللغة العربية الفصحى .. المهم أن تتفق على كل ما أعطيك إياه ، و بسعر مناسب .
قالت له نادية بسرعة و عفوية :
أنا سأذهب معه ،فأنا أتكلم الإنجليزية بطلاقة .
ضحك الأب ، وهو يسعل ، وقال لابنته بسخرية لاذعة :
ستذهبين معه بأي صفة ؟
قالت له نادية ببراءتها و عفويتها :
بصفته أخي ..
و نظرت إلى حسين قائلة :
أ لست أخي يا حسين .
قال الوالد لابنته بشدة وحزم :
هل هناك أوراق قانونية تثبت ذلك يا آنسة ؟
أحسست نادية بالإحراج الشديد ، فهذه أول مرة تجد في لهجة أبيها السخرية اللاذعة ، و هذه هي المرة الأولى أيضا التي لم تسعفها عفويتها و براءتها ، و كسا وجهها الخجل فأحمر،وتساقطت بعض الدموغ على خديها ، و لاحظ ذلك حسين وصفاء .
قال الوالد و على وجه ابتسامة غريبة و قد تمكن أخيرا من ابنته البريئة في تصرفاتها :
و لكن من الممكن أن تسافري معه بصفتك زوجته .
كانت المفاجأة مدوية .. لم ينتظرها الجميع .. حتى أن الصمت جعلهم ينظرون إلى بعضهم في دهشة و استغراب ... و قطع الأب هذا الصمت موجها حديثه إلى حسين :
ما رأيك ؟
قال حسين دون تفكير و إن كان يشعر بالخجل :
الرأي رأي الآنسة نادية ، و رأيك أنت بالطبع يا حاج .
نظر الأب – نظرة خاطفة من جانب عينيه - إلى ابنته التي لم تزل ساهمة واجمة ، و علامات الدهشة قد كست وجهها الحمرة الشديدة و الاستغراب ، لم يتعود والدها على إحراجها أمام أحد ، و لكن هذه المرة ها هو يوجه لها الإحراج تلو الإحراج ، و المفاجأة تلو المفاجأة ، و أمام من .. أمام حسين الذي اعتبرته أخا لها ، رغم أنه ليس أخاها ، و في موضوع لا يمكن فتحه إلا بينهما فقط .
أطال الوالد - نظرته الثابتة - إلى ابنته الواجمة الساهمة :
هل يعني هذا إنك موافقة ، يقولون في أمثلنا الشعبية " أن السكوت علامة الرضا " .
و طال الصمت بعض الوقت بين الجميع ، صمت لم تدر نادية كيف تواجهه ، و لم يجد أبوها فرصة للتراجع عن قراره .
و تدخل حسين – في الوقت المناسب - في حوار الأب وابنته الصامتة الساهمة الواجمة ، و التي لم تجد جوابا للرد على أبيها و قال :
إنها لم تقل شيئا يا حاج ، ثم أريد أن أبدي و أعلن رأي في مسألة في غاية الأهمية من هذه المسألة يا حاج .
قال الوالد وهو ينظر إلى حسين - و فد أحس أن حسين يريد أن يلطف الجو بأسلوبه - وعلى وجهه ابتسامة باهتة :
قل ما تشاء .
قال حسين ، و يبدو أنه قد رتب أفكاره لمواجهة هذا الموقف الصعب :
الآنسة نادية متعلمة تعليم عالي جدا ،أما أنا ففي بداية سلم التعليم ، الآنسة نادية ذات أصل و حسب ونسب رفيع ، أما أنا فأنت تعرف يا حاج أهلي و حالنا .
قاطعه الأب في شدة و حزم :
كل ما قلته صحيح ، و لكنني أعرفك أنت ، و أنت ستحافظ على ابنتي . لقد لمست فيك الأمانة من أول يوم عملت معي .
قاطعه حسين :
ولكن الآنسة نادية لا تعرفني إلا من خلال وجودي عندك في البيت ، و من خلال حكاياتك عما يدور بيننا في المكتب ، لا أكثر و لا أقل ، و أن ما في قلبها نحوي ما هو إلا حب أخوي لا يزيد عن ذلك .. كما قالت في أول كلامها .
كان كلامه صادر عن فكره الذي تعوده مع الآخرين ، و لكن هذه المرة لم يكن ينظر إلى نادية التي كان يتحدث معها بعفوية زائدة ، و قد أحس أن الحاج قد وضعها ووضعه في موقف صعب يحسدان عليه ، و لهذا لم تنطق بأي كلمة طوال الجلسة التي استمرت إلى منتصف الليل .
صمت قليلا ثم توجه بحديثه إلى نادية قائلا :
آنسة نادية ، لقد تعودت مع الحاج على المناقشة الحرة الصريحة و الحوار قبل اتخاذ القرار ، قد نختلف ، و غالبا ما نختلف في رأينا ، و لكن في النهاية نصل إلى اتفاق .. فأرجو ألا يسبب ذلك لك أي إحراج .
قال الحاج لحسين :
أشكرك يا حسين على هذا الموقف النبيل .. ممكن نادية تكون مختلفة عنا .
ثم توجه بالحديث إلى ابنته التي أصابها الوجوم و الدهشة من هول المواجهة :
سأترك لك فرصة يومين ، إما الزواج و إما الأخوة . و في الحالتين فحسين هو أحد أفراد هذه الأسرة ، وهو المسئول الأول عن جميع أعمالي ، وهو المسئول عنك بعد وفاتي .
نظرت نادية إلى أبيها ، و كأنها تريد أن تقول له : بعد الشر عنك ، و لكن الكلمات جفت في حلقها ، و لم تستطع الكلمات التي تخرج من بين شفتيها .
و استطرد الأب و هو يبتسم :
خلال اليومين حاولي التقرب من حسين ، ومعرفته أكثر ، و أنا وهو سنحترم قرارك مهما يكن .
صمت الأب قليلا ثم قال لها :
و الآن عندي شغل مع حسين ، فدعونا لوحدنا .
جلست نادية في غرفتها و بجوارها صفاء .. ترتب أفكارها المشتتة ، و قد اغرورقت عيناها بالدموع .. فهي لم تفكر في الزواج أبدا ، و تظن أن فكرة الزواج بعيدة كل البعد عن مخيلتها ، لقد كانت حياتها خالية من الجنس الآخر ، فهي لم تعط فرصة لأي شاب أن يتكلم معها ، و هي أيضا كانت تعامل الجميع شباب و شبات في الكلية على قدم المساواة ، زملاء فقط ، زملاء لا غير .. فبعد أيام قليلة سوف تظهر النتيجة .. و هي تريد أن تستثمر الشهادة التي نالتها ، وممارسة مهنة الطب التي كانت تحلم بها ، بل هي تريد أن تواصل تعليمها العالي فتأخذ الماجستير و الدكتوراة ، و الاعتماد على نفسها في حياتها القادمة .. ورؤية العالم الخارجي الذي لا تعلم عنه إلا الصورة الوردية التي رسمتها لهذا العالم من خلال حركتها المحدودة ، فهي إن شئنا الدقة حبيسة هذا البيت ، و هي أيضا كانت تعتمد على والدها في شراء كتبها ، وحتى في شراء ملابسها .
هي تريد الآن أن ترى الناس على الطبيعة لأنها عما قريب سوف تنزل إليهم من برجها العاجي الذي أجبرت على العيش فيه، بسبب خوف أبيها عليها ، تنزل و تتعامل مع الناس ، بل و تساهم في معالجة مشاكلهم إن أمكنها ذلك .
صحيح أنها التقت خلال مراحل التعليم المختلفة ببعض الزميلات في مثل سنها ، و لكن لم يكن بينها و بين أحد منهن أي علاقة تذكر .. دردشة في لا شيء ، حتى هؤلاء الفتيات التي قابلتهن كن من نفس الطبقة التي هي منها ، إن لم يكن من طبقة أعلى . كلهن كن يتعاملن بحساب دقيق ،.. فالكلمات تخرج من أفواههن بحساب مبالغ فيه ، و هن يحتفظن بأسرارهن لنفسهن دون البوح بها ، و إن تركن الابتسامة جانبا ، و ضحكن الضحكة الهادئة .
كانت الفتيات الأقل منها في مستوى المعيشة يتحاشين تلك المجموع من الفتيات الأغنياء لأسباب كثيرة .
لقد طلبت من سائقها الخصوصي ذات مرة أن يذهب بها إلى أحد الأماكن الشعبية ، التي يكثر فيها الناس ، تكثر فيها الحركة ، صحيح أنه لم يرفض ، و بالطبع لن يستطيع الرفض ، و لكنه كما قال لها بأمر الحاج ممنوع النزول من السيارة ، و هي تعرف جيدا أن السائق لم يذهب بها إلا إلى تلك الأسواق الشعبية التي تكثر فيها الحركة بيعا و شراء ، لقد ذهب بها إلى الأماكن الراقية التي تكثر فيها المحلات الراقية ، طلبت منه في رجاء أن يدعها تسير في الشارع ، و يسير بجانبها إذا أراد ، أو يراقبها عن كثب إذا شاء ، حتى يكون قد نفذ أوامر والدها .
قالت لسائقها :
أنا زعلانة منك ، لقد طلبت منك أن نذهب إلى الأسواق الشعبية ، وها أنت تذهب بي إلى أماكن قد سمعت عنها من زميلاتي .
سألت ذات مرة صفاء قريبتهم عن الناس في الخارج ،هل يختلفون عنا ، فابتسمت لها صفاء ، وقالت لها في صوت حزين ، من يوم أن دخلت هذا القصر ، و أنا لم أخرج منه ، و أظن إنني لن أخرج منه أبدا ، يمكن أنت تخرجين ، تذهبين إلى الكلية ، صحيح إنني حاولت أن أتعلم ، و لكنني فشلت ، أما أغراض البيت فيأتي بها السائق كل يوم ، فأنا لم أذهب إلى أي سوق يوما من الأيام ، و لا أعرف كيف يتم الشراء أو البيع في السوق أو في المحلات .. حتى ذكرياتي السابقة عن الحياة في القرية التي كنت أعيش فيها ذكريات باهتة مشوشة ، لقد مضت سنوات طويلة ، لقد جئت إليكما و أنا فتاة صغيرة .
انتبهت نادية على صوت صفاء و هي تقدم لها كوب من الليمون لتهدأ نفسها .. وقالت لها :
لماذا يفكر أبي بهذه الطريقة ؟ . لقد شعرت بالحرج الشديد أمامه، و لماذا حسين بالذات ؟ و حسين ذكر له أن هناك فروق كثيرة بيننا في كل شيء .
قالت لها صفاء :
الحاج أدرى بمصلحتك .. و لكنه لم يغصب عليك ، لقد خيرك بين الزواج و الأخوة .
ولكنه قال بالحرف الواحد أن حسين مسئول عنا في كل شيء . إنه شاب صغير ، من أين ظهر حسين هذا ، حتى يسلم له أبي كل أعماله بثقة زائدة .. أنا لم أرى في حياتي مثل هذا .
قالت صفاء :
و هل رأيت في حياتك إلا أنا وأبوك و سائق سيارتك .. وصمتت .. ثم استطردت قائلة : وحسين .
********
نظر الحاج إلى حسين في ذلك الوقت نظرة ود و إكبار ، وقال له :
بخصوص السفر ، فأمامنا الوقت الكافي للحديث حتى في المكتب .. و لكني اليوم أريد أن أتحدث معك في أمور أخرى في غاية الأهمية ، و سأسألك سؤال مباشر : ماذا تعرف عن أعمالي ؟ .
قال حسين وهو ينظر إلى الحاج مستغربا :
كل ما أعرفه إنك تملك مكتب التخليص الجمركي .. و مكتب الاستيراد و التصدير ، وبعض المحلات للأجهزة الكهربائية في أماكن متفرقة ، و أكثر من سوبر ماركت ، و بعض البيوت أيضا في أماكن متفرقة .
قال الحاج و هو يضحك :
إلى الآن ، ورغم إنك معي منذ سنوات كثيرة ، و رغم إنك – كما تعرف – يدي التي أعتمد عليها ، لا تدري عن أعمالي المختلفة شيئا .. كل ما قلته صحيح ، و لكن هناك أعمال لا تعرف عنها .. أبسطها مكتب السمسرة التي تؤجر الشقق ، و مكتب المحاماة الذي يديره أشهر المحامين في الإسكندرية ، و مكتب للإنشاءات الهندسية يعمل في شتى الاتجاهات ، و بعض الشاليهات في الساحل الشمالي .
قال حسين بعفوية :
ربنا يزيد و يبارك يا حاج ، ما يحسد المال إلا أصحابه ، كما تقول أمي.
قال الحاج مسترسلا في حديثه :
لدي مفاجأتان لك .
قال حسين مستغربا :
مفاجأتان مرة واحدة .
استطرد الحاج غير مبال بما يقول حسين :
المفاجأة الأولى لك .. أنت شخصيا تملك البيت الذي تسكن فيه أسرتك . أتذكر علامات الدهشة و الاستغراب التي كست وجهك يوم انهدم البيت المجاور لبيتكم ، يومها كلفت المحامي بشراء البيتين ، و اعطيت مكتبي الأرض للبناء عليها بيتا يليق بمنزتك الجديدة مكافأة لك على إخلاصك في الأعمال التي كنت أكلفك به .
نظر حسين إلى الحاج و هو لا يستطيع التعبير عن أفكاره .. فقد سبق وقال تلك الجملة لأمه حين أرادت أن ترجع إلى بيتها القديم ، ورغم ذلك فقد ذهبت عن فكره حتى إنه نسيها تماما ، كان يظن أنها مجاملة لتهدأ الخواطر وقت المحنة التي عاشتها الأسرة .
و لكن الحاج لم يمهله كثيرا فقال له :
و جميع المحلات التي يعمل فيها أخوانك و أولاد الجيران كلها باسمك أنت وحدك ، بالإضافة إلى حساب في البنك ، أضع لك فيه أرباحك و مكافأتك عن الأعمال التي تؤديها .. و من حساب المحلات التي تملكها .
قال حسين – وهو مبهوت - و لم تزل آثار المفاجأة على وجه :
كل ذلك ، و لا أعرفه يا حاج .
قال الحاج لحسين ، وهو ينظر إليه ليرى تلك العلامات التي ارتسمت على وجهها من شدة المفاجأة :
أنا أحب مكافأة العاملين المخلصين لدي .. من ناحية .. و من ناحية أخرى .. لقد خفت عليك حينما تعرف ذلك مبكرا أن تغير اتجاهك . و أظنك لن تغير نفسك ، وسوف يظل ذلك طي الكتمان .
قال حسين للحاج :
أنا لا تغيرني الفلوس أبدا يا حاج ، أنا لي مبدأي ، و لا أخون أبدا من يحسن إلي .. و أنت صاحب إحسان كبير .
قال الحاج لحسين :
و أنا لم أعطيك كل ذلك مجاملة لك ، فأنت تؤدي عملك بإخلاص و إتقان و أمانة وجد ، منذ أن عملت معي ، استطعت أن أتفرغ لعملي الأساسي .
صمت الحاج قليلا ثم قال لحسين :
كانت هذه المفاجأة الأولى ، أما المفاجأة الثانية ، فأنا أستورد ..
و ساد الصمت في الفضاء الواسع أمام حمام السباحة ، و رغم الإضاءة الخافتة التي تسود هذه الليلة التي اختفى فيها القمر إلا أن كل من الحاج و حسين كان يستطيع أن يرى وجه الآخر ، و يرى كلا منهما ما يرتسم على وجه الآخر من علامات الدهشة .. و قطع حسين هذا الصمت :
وماذا تستورد يا حاج ؟ .
قال الحاج ، وهو ينظر إلى حسين بنظرة جامدة :
أنا أستورد الحبوب المخدرة و الهيروين .
قال حسين و قد بهت من أثر المفاجأة ، و أصفر وجه :
ماذا ؟
قال الحاج وبسرعة غير مبالي بردة الفعل التي انتابت حسين :
هذه هي المفاجأة الثانية .
قال حسين المبهوت و قد أستطاع أن يتمالك نفسه من شدة دهشة المفاجأة :
و لكنني لم أر أي من ذلك من خلال البضاعة المستوردة لأي من معاملتك .. بل أن التفتيش الجمركي أثبت أن جميع معاملاتنا سليمة مائة في المائة .
قال الحاج في برود :
و هذا هو المهم .
نظر الحاج إلى حسين و قال له :
سأوضح لك كل شيء و بالتفصيل .. أما الهيروين فيأتي في أزرار بعض الملابس التي نستوردها .. في قطع معينة من هذه الملابس .. و ليس الكل ، وعندما يتم الإفراج عن هذه الشحنة .. تذهب إلى المخزن ، و يتم فرزها . و إخراج هذه القطع و نزع الأزرار منها ، و تركيب أزرار أخرى مشابهة لها .. ثم يوضع الهيروين في أكياس .. و بعد ذلك يذهب إلى المعمل لأنه خام ، و بعد الإضافات يتم توزيعه على بعض التجار .. سوف تعرفهم كلهم قريبا .
تذكر حسين وهو في حالة الدهشة من المفاجأة ،إنه قد اشترى بعض الملابس من مكان معين في بيروت ، وخصوصا ملابس نادية ، و أن صاحب المحل أمهله يوما حتى يرسل إليه هذه الملابس إلى الفندق ، و أنه حينما سلمه ما طلب ، سلمه أيضا بعض الأزرار في كيس خاص ، و أوصاه الرجل أن يحافظ على ذلك الكيس جيدا ، و قال له صاحب المحل وهو يبتسم :
أن هذه الأزرار لا يوجد مثلها في أي مكان ، فمصنعي هو الوحيد الذي يقوم بعملها .
قال حسين و عيناه شبه زائغة ، و لكنه كان مركزا مع الحاج في حديثه :
هذه قصة الهيروين ، فما قصة الحبوب المخدرة .
قال الحاج وهو يضحك :
الأقراص المخدرة أيضا كانت توضع في الأجهزة الكهربائية بعناية فائقة .
قال حسين : و لكنهم أكثر من مرة كانوا يفتشون تلك الأجهزة الكهربائية الواردة إلينا ، و بعناية فائقة أيضا ، و تحت رقابة مشددة ، و لا يجدوا شيئا .
قال الحاج : كانت تخبأ في حشو الثلاجة الداخلي ، ليس في كل مرة ، و بهذا كانت تخرج المهربات دون أن يشك فيها أحد .
و استمر الحاج :
و هناك طرق أخرى ، تلك اللنشات التي تسرح في البحر و تبيع الآثار المزيفة ، بعضها يذهب إلى أماكن تسليم البضاعة ، و يعودون إلى المركب الراسي في الميناء ، أو المركب المنتظر الرسو حتى لا يشك فيهم أحد ، و هؤلاء من أمهر الأشخاص يستطيعون أن يهربوا بسهولة من حرس السواحل .
قال حسين و قد زالت عنه الدهشة ، و تمالك نفسه :
و لكن لماذا التهريب ، وعندك الخير الوفير يا حاج ؟
قال الحاج و قد بدت على وجهه بعض علامات الحزن :
تلك قصة طويلة يا حسين .. قصة حياتي ، السر الرهيب الجاسم على قلبي .. و لا أستطيع أن أبوح لأحد به مهما كان .. و أنت أصبحت الآن أهم شيء في حياتي ، أصبحت الولد الذي لم أنجبه ، وكنت أتمناه طوال حياتي ، و أظن إنني لو أنجبت ولدا لن يكون أبدا مثلك ..
وصمت برهة ، استطرد في الحديث :
أ تحب أن تسمع تفاصيل هذه القصة .. فأنت الآن و بحق لست ابني فقط ، و لكن أعز ما أملك في هذه الدنيا .. أظن أن من في البيت قد ناموا جميعا .. إلا نادية فهي ساهرة تفكر ، سنعد القهوة سويا .
و فاجأه حسين بسؤال :
و لكن يا حاج ؛ لماذا تريد أن تزوج ابنتك من شاب مثلي ، لا أصل له ؟ .
و تجاهل الحاج السؤال فقد كان ذهنه مركزا في اتجاه واحد .
كان الحاج قد أعد القهوة على ذلك البوتاجاز ذات العين الواحدة الموضوع في ركن الحديقة ، و أخذا يرتشفانها في استمتاع .
و نظر الحاج إلى حسين ، وقال مبتدئا حكايته :
كنت صغيرا مثلك حينما تعهدني أحد التجار الكبار .. تاجر حشيش .. كان عملا صعبا يتسم بالمجازفة و المخاطرة ، فالحشيش و الأفيون يحتاج في تهريبه لكبر حجمه إلى السرية ، فنحن مراقبون دائما .. و العيون مفتوحة علينا .. ذات يوم كدنا أن نقع في أيدي رجال مكافحة المخدرات ، عرفوا المكان الذي نستلم منه الشحنة ، كيف ؟ لا أعرف ، أظن أن أحد رجالهم كان بيننا ، أو قد يكون من بيننا عينا لهم ، و هجموا علينا ، استطعت أنا و معلمي أن نهرب بأعجوبة ، قبضوا على البعض ، و مات البعض الآخر ، و أخذوا الشحنة كلها ، و حينما تأكدوا أنهم قبضوا على جميع الموجودين ، غادروا المنطقة ، و بذلك نجوت أنا و معلمي .
أطن أنهم كانوا يعرفون المعلم معرفة تامة ،ولهذا أخذوا يبحثون عنه في كل مكان
اختبأنا في كوخ صياد نعرفه .. و رغم أن الشرطة جاءت و فتشت الكوخ ، إلا أنهم لم يعثروا على الهاربين ، بعد عدة أيام عدنا إلى بيت معلمي في السر..
كان لهذا التاجر ابن وابنة ، أما ابنه فقد مات أمام عينه في حادث سيارة أليم مروع على الطريق الصحراوي .. و بقيت الابنة رغم الإصابات الخطيرة التي أصيبت بها في ذلك الحادث . فقد كان يحلو له أن يصطحب أخته لكي ينزهها .. و أصيبت الابنة بحالة هستيرية ، و ظلت حبيسة البيت.
أشرت على معلمي أن نغير نشاطنا بما تبقى لدينا من أموال كثيرة ، أن نغير مكاننا ، استمع إلى و أعجبته الفكرة ، فبدأ في تنفيذها ، و إلى الآن و أنا أعمل بنفس الأسلوب ، تجارة عادية نخفي وراءها نشاطنا ، فنكون في أمان .. بعد أن نجحت في فكرتي ، وأصبحت المساعد الأول له ، قرر أن يزوجني ابنته – رغما عنها ، و برغم العاهة المستديمة التي أصابتها في الحادث من تشويه شديد و عرج واضح – لكي يطمئن أن سره لن يخرج إلى احد ، و هي كانت تعرف سره أيضا ، و بالفعل تزوجتها ، و شاء القدر أن تموت زوجتي أيضا أثناء الولادة ، و قرر معلمي أن يكتب كل شيء باسمي ، و أوصاني أن أحافظ على كل ذلك لحفيدته ، و لم يلبث أن مات تاركا لي كل شيء .
قال حسين :
و لكن ..
قاطعه الحاج مستطردا كلامه :
هناك فرق ، أعرف ذلك وأعرف إنك سوف تصون سري .. سواء تزوجت ابنتي ، أو لم تتزوجها ، و إنك سوف تحافظ على ثروة ابنتي .
قال حسين :
و لكن المشكلة ..
قال الحاج مقاطعا :
أعرف أن ابنتي قد نكون غير راضية للأسباب التي ذكرتها أنت ، و لكني واثق أنها ستوافق على ما أريد ، و أريد أن تساعدني في ذلك .
قال حسين :
و كيف أساعدك ، و أنت تعرف إنني لم أصادق في حياتي أي فتاة ، و أنت تعرف إنني لا أجيد غير العمل ، حتى كلماتي المعسولة المنمقة فأنا أيضا استخدمها للعمل فقط . و لا أظن إنني استطيع أن أخدع أي فتاة بكلماتي ، فأخلاقي لا تسمح بذلك .
قال الحاج :
أعرف ذكائك جيدا ، خذها يوما لزيارة أهلك ، خذها بعد الغروب و أجلسا في مكان شاعري من الأماكن التي على الكورنيش ، وهي كثيرة ، خذها و نسمها الهواء في الأماكن التي لا تعرفها هي .
قال حسين للحاج :
سأقول لك على فكرة ، لماذا لا نأخذها ، ونسافر ثلاثتنا إلى كوريا ،سترى أشياء جديدة ، وفي نفس الوقت ننجز أعمالنا ، و لا أظن أنها ستعرف شيئا عن عملك رغم ذكائها .
قال الحاج مبتسما و قداستحسن الفكرة :
أرأيت أن ذكائك لا حدود له .
كان الصباح قد أشرقت شمسه على استحياء .. و بدأت الحياة تدب في البيت ، و على مائدة الإفطار ، قال الحاج للجميع :
سوف نسافر كلنا إلى كوريا .. نادية .. صفاء .. سوف أبعث السائق لكما لكي يستخرج جوازات السفر لكما .
نظرت صفاء إلى نادية نظرة استغراب .. ما الذي حدث في فكر الحاج ، إنه أول مرة في حياته يصطحبهما إلى خارج البيت . و أين إلى بلد أجنبي .. ماذا يدور في فكر الحاج .. لعل هذه الرحلة كي أوافق على الزواج من حسين .. أم هي رحلة عمل ومن خلالها أرى ما لم أراه في حياتي .
نظرت نادية إلى الحاج وقالت له ببراءة الأطفال ، و خبثها البسيط :
فكرة من هذه يا حاج .. فكرتك أو فكرة حسين . أظن أنها فكرة حسين .
ابتسم الحاج و لم يرد على ابنته ، و أخذ حسين من يده و انصرفا إلى عملهما .
شعرت نادية شعورا غريبا .. أن حسين هذا يسيطر على أبيها الحاج سيطرة كاملة .. و أنه بدلا من أن يرغمها على الزواج من حسين غصبا عنها ، فلماذا لا يقربها من حسين حتى تستطيع أن تفهمه ، و أن يحدث بينهما انسجام ما ، فيكون الطريق ممهدا إلى الزواج .
و ماذا ستخسر إذا حاولت محاولة في فهم حسين ، المهم ألا تشعر والدها بأنها رافضة الفكرة للزواج ، فيصبح عنيدا و يصر كعادته على ما أمر به .
و هي تستطيع أن تكسب حسين إلى صفها ، فهو يدافع عن وجهة نظرها ، ولكنها تعرف أن حسين هو المسيطر على أبيها سيطرة كاملة .. لماذا ، سوف تعرف هذا قريبا ، أو مع مرور الأيام .
المهم إنها سوف نخرج من البيت إلى العالم الخارجي ، و أي عالم ، عالم لا يمت لها بصلة ، و فوق ذلك سوف ترى ما تريد من أحدث المعدات الطبية التي تريدها .
أما صفاء فقد فرحت لهذه الفكرة التي جاءت لها ، فها هي أخيرا سوف تستمتع بإجازة من أعمال البيت ، و خصوصا أن الحاج قد رفض أكثر من مرة أن يأتي بفتاة أخرى تساعدها حتى في تنظيف البيت .
الحفل
عاد الأربعة من رحلتهم في كوريا ، و قد بدا السرور عليهم جميعا .. فقد تحققت الاحلام التي كانت تراود كل منهم
أما الحاج عطية فلأن حسين أنجز له ما يريد في دقة وسرعة وأسعار مغرية لم يكن يتوقعها .. و لم يحققها هو في أي رحلة عمل قام بها . لقد اثبت براعته و حنكته في إدارة الحوار ، و في هدوءه أثناء اشتداد حرارة الحوار .
أما نادية فقد فازت من هذه الرحلة بعدة فوائد .. لقد رأت ما لم تراه في حياتها المغلقة التي كانت تعيشها في فيلا الياسمين .. فهي لم تكن تخرج إلا للذهاب إلى جامعتها تحت مراقبة السائق الآخر ، وفي سيارة صحيح أنها ملك لها ، و لكن أبدا لم تقعد خلف مقود القيادة .. حتى كتبها فقد كانت تحضر لها من المكتبات ، بل كان الحاج في كثير من الأحيان يشترى بعض الكتب الطبية من الخارج .. حتى ملابسها كانت تشترى لها من قبل والدها .. و لأول مرة تنزل إلى المحلات و تشتري ما تريد لنفسها وبنفسها .
و فوق هذه النزهات التي تمتعت بها وفيها بسحر الطبيعة الخلابة الساحرة ، و رؤية حضارة جديدة عليها .. و جلست في أماكن لم تكن تحلم أن تجلس فيها .. جلست في أحد المقاهي المنتشرة في الشارع ، و رأت الرجال و النساء ، الشباب و الشابات و هم يدخنون أو يشربون الشيشة.. جلست على الشاطئ الذي يختلف عن شاطئ الإسكندرية كثيرا ، و رأت ما لم تراه في الإسكندرية نفسها .. فتيات بالمايوه البكيني الساخن الذي يكشف مفاتنها الأنثوية يسبحن في المحيط بحرية دون رقابة ، و دون ملاحقة الشباب لهن ، قبلات حارة بين الشبان و الشابات قي كل مكان بلا حرج ، و كل من في الشاطئ في وادي لا ينظر إلى غيره ، أما هي فقد رأت من أصناف الناس ما رأت من العجب .
و بالإضافة إلى ذلك فقد فازت بعقدين من هذه الرحلة ، فحسين أمن لها عقد وكالة سيارات .. و عقد قطع غيار لهذه السيارات .. و هذا الشيء لم تكن تحلم به أبدا في حياتها .. كانت أمنيتها أن تنشأ عيادة خاصة لها بعد التخرج لتمارس فيها مهنة الطب التي درستها و تفوقت فيها ، و قد عرضت عليها الكلية أن تستمر في دراستها العليا ، أما الآن فهي سيدة أعمال من الدرجة الأولى ، لقد أعطاها حسين أكثر مما تتوقع ، أكثرمما تريد و تحلم به . .
و أمنت بعيقرية حسين و بقدراته ، و أن وجهة نظر أبيها سليمة في ان يدير حسين كل أعماله ، بل أعمالها في المستقبل القريب .
أما صفاء فقد استمتعت برفقة نادية ، و ظلت كظلها تذهب معها إلى حيث تذهب و لا تفارقها ، ليس كحارسة لها ، بل كصديقة .. و لعل الأهم لها أنها تركت أعمال البيت الكثيرة في هذه الأيام ، و تفرغت للنزهة في شتى أرجاء كوريا ، و رأت ما لم تر في حياتها المغلقة ، سواء حين كانت في قريتها تخرج إلى الحقل ، أو في فيلا الحاج حيث عملها، و كانت نزهتها الوحيدة في الحديقة حيث تجلس هي و نادية في أوقات فراغ مخدومتها و صديقتها .
لقد شعرت صفاء إنها إنسانة مثل الجميع ، و أن مذاق الحرية رائع و مبهج ، فها هي الحياة تبتسم لها ، صحيح أنها أيام قليلة ، و سوف تعود إلأ ما كانت عليه ، و لكنها غلى كل حال أيام جميلة .
وقفت مرة أمام البائع المتجول ( بوجانجماتشاس ) و أكلت كعكة السمك .. و صحبهما حسين مرة إلى أحد المطاعم الكورية الشهيرة ، فأكلت (بولجوجي ) اللحم البقري المشوي ، مع ( البييم باب ) الأرز و الخضار ، و صلصة ( جونشوكانج ) الحارة ، و ( رامبون ) المعكرونة الفورية . و قد أحمر وجهها بشدة حينما تناولت طعامها ، فقد كان معظمه حارا .
خرجت عن الروتين المفروض عليها ، فأبوها كان يخاف عليها خوفا شديدا ، و لكنه في هذه الحرية التي منحها لها في هذه الرحلة ، أحست إنها تعيش حياتها التي لم تعشها .
كانت كوريا بالنسبة لها نقلة غريبة ، فالتطور موجود أمامها في كل مكان .. ناطحات السحاب المنتشرة ، الشوارع النظيفة ، و رجت المترجم الذي يصطحبها أن تزور إحدى المشافي ، لترى كيف تسير تلك المشافي .. فهالها ما رأت ، النظام و الهدوء و النظافة ، و العناية الفائقة بالمرضى، و رأت الأجهزة الحديثة التي في المشافى . الجميع يعمل في جد و نشاط ، ساعة منظمة .
لو لم تكن في كوريا لظنت إنها في أوربا .. فرغم الحركة الدائبة كان الهدوء التام يعم كل المشافي التي زرتها .
كلمت حسين – ذات مرة - في شراء بعض الأجهزة الحديثة للعيادة و المستشفى ، وعدها حسين أن يشتري لها كل ما تريد ليس من كوريا و لكن من أوربا أو أمريكا ، و لكن المهم الآن هو اختيار المكان المناسب للعيادة والمستشفى حين العودة .
أما صفاء فقد عرفت أن الكوريين أكلهم حار جدا ، و أن نساءهم حارة كذلك ، فهى هى ترى الفتيات يرتدين الشورت القصير و البلوزة المكشوفة في الشارع ، والشباب يسيرن بالشورت .
********
في اليوم التالي لعودتهم .. ذهب الحاج و حسين ونادية إلى المحامي الذي رحب بهم أشد الترحيب ، و على وجهه علامات الفرح من زيارتهم ، و إن لم تخلو من الدهشة و الاستغراب . لقد كان الحاج يتصل به بالتليفون و يبلغه بما يريد ، و كان ينفذ كل ما يطلبه الحاج على الفور، أما هذه الزيارة ، و هذا الوجه الجديد الذي يراه لأول مرة .. نادية ، فذلك ما يدعو إلى الاستغراب .
قال المحامي لنادية :
مبروك يا آنسة نادية النجاح .. لقد ظهرت النتيجة ..و بامتياز ، بنت سيد البلد بصحيح ، و الجامعة تعرض عليك أن تدرسي فيها و تكملي تعليمك العالي .
قال الحاج في سرور بالغ :
أرجو أن تجهز لها عيادة على أحدث طراز .. و مستشفى في مكان راق .. تليق بها ، و كل احتياجاتها من الخارج ، و كمان أوعى تنسى ، وهي معك ، أن يكون أكبر الدكاترة في مصر أو في الخارج في هذا المستشفى الجديد الكبير ، تلك هي هدية نجاحها .
ابتسمت نادية ابتسامة المنتصر، فقد تحقق حلمها أخيرا ، و قالت لهم و البهجة تشع من عينيها :
شكرا يا أستاذ وائل .. شكرا يا أبي .. شكرا يا حسين ..
و توجهت إلى المحامي تحدثه :
أنا عاوزه عيادة كبيرة في منطقة شعبية ، سيكون العلاج فيها بسعر رمزي يناسب الفقراء ، و يكون فيها كل التخصصات لخدمة الناس الغلابة . أما المشفى قتكون في أرقى أحياء الإسكندرية ، أظن سوف يكون اسم المشفى هو مشفى الياسمين ،
قال لها المحامي وهو يبتسم :
صحيح من خلف ما مات ، بنت أبوها .
قال الحاج للمحامي :
أشكرك .. عندك بعض الأعمال سوف تنجزها في اليومين التاليين .. العيادة .. المستشفى .. كل ذلك باسم نادية وحدها ..
قال المحامي :
واحدة واحدة يا حاج .. وأنا جاهز لكل طلباتك .
و استطرد الحاج قائلا :
من الآن فصاعدا جميع أعمالي ستكون باسم حسين .
قال المحامي مستغربا هذا القرار:
يا حاج !
قاطعه الحاج بشدة و حزم :
نفذ ما أقوله لك فورا .. لا تكن مثل ناهد .
قال المحامي مضطربا :
حاضر يا حاج .
قال حسين للمحامي في لهجة جادة :
أول طلب أطلبه منك .. و بأسرع ما يمكن .. تأسيس وكالة سيارات .. وقطع الغيار .. باسم الآنسة نادية وحسين مناصفة .
قال المحامي ضاحكا :
من أولها ، المفروض يا حسين بك إن وكالة السيارات تكتب باسم حد تاني علشان الضرائب .
قالت له نادية و قد أحمر وجهها خجلا من شدة الفرح :
و لسه ، أفكار حسين كثيرة .
رغم عفويتها كانت تشعر في قرارة نفسها أن حسين أصبح هو المسيطر على أبيها ،وأن أبيها يسلم نفسه لحسين تدريجيا ، بل أن حسين هو المسيطر عليها ، و إنه قد اكتسب ثقتها ، و أن وجهة نظر أبيها سليمة ، و أن فكرته في التعرف على حسين صحيحة . .
قال الحاج محولا الحديث في اتجاه آخر :
سنقيم حفلا بمناسبة نجاح نادية ، فأرجو أن تدعو إليه كل من نعرفهم ، و أن تكون أنت شخصيا المشرف على هذا الحفل .
قاطعه حسين:
أنت أولا ، ومعك البشارة .. ثم كبار رجال الميناء .. ثم المهمين الذين تعرفهم .. كل هؤلاء و معهم زوجاتهم .
ثم توجه إلى الحاج بحديثه :
و سيادتك يا حاج من ستدعو .
قال الحاج :
المحامي عارف .
ثم قال لنادية :
و أنت من ستدعين .
قالت نادية :
سأدعو جميع الدكاترة في الجامعة ، وبعض الأصدقاء الذين أعرفهم .
قال الحاج للمحامي :
سوف نعلمك بموعد الحفل .
في العشاء اليومي جلس الأب و ابنته و حسين و صفاء يتناولون الطعام ، و الفرحة غامرة على قلوبهم ووجوههم ، لقد كانت رحلة كوريا التي أشار إليها حسين ، سببا في إزالة التوتر الذي كان يسود الفيلا ، بل كانت هذه الرحلة سببا أيضا في رفع الكلفة و الحرج بين حسين و نادية .
عادت نادية إلى طبيعتها المرحة و عفويتها الزائدة ، و أصبحت أكثر قربا من أبيها و حسين ، بل و أصبحت صفاء صديقتها المخلص التي تختزن لديها أسرارها ، و تبوح لها بما يدور في خاطرها .
قالت صفاء لنادية :
أريد أن أسمع خبر يفرح اليوم .
قالت نادية و قد أحمر وجهها خجلا ، و تضع أصبعها في فمها :
سوف تسمعين هذا الخبر في القريب العاجل .
حاول الأب أن يعرف ما يجري – رغم أنه فهم المقصود – إلا أن الفتاتين ضحكتا ، وقامتا لتعدا العشاء ، و كانت تلك أول مرة تذهب فيها نادية إلى المطبخ .
أثناء سيرهما ، قرصت نادية صفاء في كتفها ، فصرخت صفاء ، و لكنها ضحكت ، وضحكت معها نادية .
ذات يوم جلس حسين و نادية في حديقة الفيلا ، وقد انسحب الحاج وصفاء ليخلو الجو لكليهما للحديث .
قال حسين لنادية ، وعلامات التوتر عليه :
لم أكن أنا صاحب فكرة الجواز منك ، ولا أعرف لماذا أراد الحاج ذلك ، و أنا شخصيا لم أفكر إلى الآن في الزواج .
قالت نادية و هي متأثرة :
لقد استغربت أن يفاتحني والدي في الزواج بهذا الشكل و أمام الجميع ، أبي لم يفعلها من قبل ، صحيح أنه كان يقول لي ما يريد ، و أنا أنفذ طلباته فورا ..
قال لها حسين محاولا مدارة توتره :
و إذا كنت لا تريدين الزواج ، فسوف أقنع الحاج ، بل سأقنعه أن القرار قراري ، و إنني لن أتزوج الآن ، و إنني أبحث عن عروس مناسبة لي .
قالت نادية و علامات التأثر واضحة عليها :
أنت لا عيب فيك يا حسين بالنسبة لأي بنت ، و لكنني لا أفكر حاليا في الزواج .. أ تعرف يا حسين أريد أن أسير في الشوارع لأعرف الدنيا التي لا أعرفها في بلدي .
قال لها حسين :
اعتبري نفسك من الآن في الشارع ( و ضحك وضحكت من هذه العبارة ) ، أسف لم أقصد المعنى الحرفي للكلمة
و استطرد حديثه :
سوف اصطحبك إلى كل مكان ، وسوف أريك كل الأماكن الشعبية التي تريدين أن تريها، و إن كنت تريدين سوف أفتح لك عيادة في أحد الأماكن الشعبية .. وسوف أقنع المحامي في ذلك ، و من الممكن أن يساعدك بعض زملائك ، يكون اجر الكشف رمزي ، و سعر الدواء كذلك وسوف ندفع تلك الأجور من المستشفى .
********
في الحفل الذي أقيم بمناسبة نجاح نادية .. كان الجو بديعا .. نسمات الهواء العليل تنتشر في أرجاء المكان الفسيح .. صفت الطاولات وحلقت الكراسي حولها ، و أخذت شكل شبه دائري إلا من ناحية باب الفيلا الداخلي المطل على حمام السباحة .. حيث جلست فرقة موسيقية تعزف الألحان الهادئة .. و كانت الأنوار المختلفة الخافتة تنتشر في كل مكان .. تعلن فرحتها ، و في البهو وضع البوفيه المفتوح الذي جاء من أرقى فنادق الإسكندرية .
و لم يستسلم الضيوف للجلوس إلى المقاعد المخصصة لهم .. بل وقفوا في كل مكان يتحدثون ، غير مكترثين بالطاولات التي صفت لهم في أنحاء المكان ...
كانت نادية تقف مع صويحباتها في جانب بجوار حمام السباحة يتبادلن الحديث الهامس و الضحكات الخافتة ، و قد ارتدت ثوبا أبيض جميل و به بعض النجوم الحمراء الكبيرة .. ذلك الثوب الذي أحضره لها حسين من بيروت .. ألوانها المفضلة التي تجعلها كأنها ملاك هبط إلى أرضنا من السماء .
و كان حسين يقف بحلته السوداء مع المحامي و الحاج عطية في حديث متشعب ، و بعض رجال الأعمال يتحدثون معهم .
و في مكان آخر وقف بعض الرجال .. و النساء يتسامرون .
اقترب رجل من المدعوين من الحاج ، و طلب منه أن يحدثه على انفراد .
قال له الحاج ، قل ما تشاء فليس هناك أسرار بيني و بين المحامي ،و حسين واحد من العائلة .
قال الرجل :
أريد أن أخطب كريمتكم لابني المهندس .
ابتسم الحاج و قال :
لقد جاءت متأخرا ستعرف بعد قليل نبأ خطبة ابنتي على حسين .
وقفت نادية فجأة أمام الفرقة الموسيقية ،و طلبت منهم التوقف لبعض اللحظات ، و طالبت الجميع أن ينتبهوا إليها ، و دعت والدها إلى الوقوف بجانبها ، وهمست في أذنه ببعض الكلمات .. أشار الحاج إلى حسين أن يأتي ويقف بجانبه .
أخذ والدها الميكرفون و قال :
أشكركم على حضوركم هذا الحفل بمناسبة نجاح ابنتنا الغالية ، و أحب أن أزف خبرا آخر جميلا ، النهاردة يوم الأخبار الجميلة ، و أعلن لكم خطوبة نادية و حسين .
انطلقت عدة زغاريد من طاولة في نهاية الحفل ، فوجئ حسين بأن والدته و أخواته يجلسون عليها . و لم يكن قد رآهم من قبل . و لم يكن قد دعاهم إلى الحفل .
قالت له نادية :
مفاجأة .. أ ليس كذلك .
قال حسين وهو متأثر من هذه اللفتة التي قامت بها نادية :
أشكرك على كل شيء .
و قفت نادية بجوار حسين ، وهي تبسم ابتسامتها الساحرة ، و قالت له و وجهها يشع بالبهجة :
أظن أنها مفاجأة من العيار الكبير ، لقد فكرت وعرفت إن والدي على حق ،وإنك سوف تسعدني وتساعدني و تقف بجانبي في كل أعمالي التي أحلم بها .. صجيج إن وقتي ضيق،كما إن وقتك أنت أيضا ضيق ، و لكننا سوف نعالج فيما بيننا تلك المسائل .
مضى الحفل إلى غايته المرسومة ، و أقبل الجميع مهنئين حسين ونادية على الخطبة ، و كانت تعليقات حسين اللاذعة تبعث البهجة في نفوس الحاضرين ، فكل مهنئ يذكره بنجاح نادية دون أن يذكر الخطوبة .
توجه حسين إلى الطاولة التي كانت تجلس عليها والدته ،وقال لها ، أنا لم أعرف بهذه الخطوبة إلا الآن ، لقد أمر والدها أن يزوجني ابنته ،ولم أقل له شيء .
قالت له أمه شبه معاتبة :
أنا آخر من يعلم ،كان من الممكن أن تقول لي حين حدثك والدها .المهم أنا فرحانة جدا إن ربنا أكرمك بهذه الزيجة ، و بهذا الرجل الطيب الكريم .
كانت ليلة لا تنسى .
الحب
الحب تلك الكلمة السحرية التي تتسلل إلينا منذ الصغر ، فالطفل أول ما يتعلم ، يتعلم الحب في أحضان أمه الحنان و الدفء و الشبع ، و شيئا فشيئا يقترب في حب الآخرين أبوه أخوته وأخواته حين يداعبونه ، ومع هذا الحب ينشأ شعورا آخر الشعور بالغضب والنفورمن بعض المقربين منه نتيجة لبعض الأفعال الصبيانية .
و الحب هوالمسيطر على حياتنا فيمتد إلى خارج المنزل ، أبناء الجيران ، و أولاد الشارع الذين نلعب معهم ، و إن كان الحب و البغض يبادلان أمكانهم بيننا نتيجة إحساس خفي أو ظاهر في تصرفات الآخرين .
أما حب الجنس الآخر فلا يظهر مبكرا في حياتنا بمفهومه الذي يعرفه الجميع ، فصحبة الفتى للفتاة في أحيائنا الشعبية وصمة عار وخصوصا للفتاة ، و إذا لم يكن بدا فبعيدا عن الأعين .
لم يكن هناك وقت للحب عند حسين حتى في فترة شبابه ، لقد كان هدفه الأول و المسيطر عليه ، هو أن يخرج من دائرة الفقر التي كان يعيش فيه منذ نعومة أظفاره ،الفقر الذي لا يعطي فرصة للإنسان أن يفكر في أي شيء غير لقمة العيش .
لقد كانت صور الحب التي يراها خلا ل حياته ، و من خلال بيئته التي تربى فيها ، تدعوه أن ينفر من الحب بمعناه التقليدي الذي عرفه .. فإذا كان الحب هو انجذاب طرفين أو انسجامهما ، فإن حبه لذاته قد فرض عليه ، أما حبه لأمه و أخواته و أخوانه فتلك فطرة قد فطرها الله لجميع الكائنات إلا ما ندر .
أما إنجذابه للجنس الآخر فقد تدخلت عوامل كثيرة منعته من أن ينظر إلى أي فتاة مهما كان جمالها ، و مهما كانت جاذبيتها ، و مهما كانت أخلاقها .
ذات مرة وجد أمه تنهر أخاه الأكبر ، حينما شاهدته يقف مع فتاة ، لقد وبخته أشد التوبيخ قائلة له :
هل ترضى أن تشاهد أختك تقف مع شاب ؟ ما لا ترضاه لنفسك لا ترضاه لغيرك ، بنات الناس ليست لعبة ، أنت لا تربطك بها أي علاقة ، فلماذا تشوه سمعتها في الحي .
و ذات مرة وجد أمه تشد على أخته لأنها وقفت في النافذة تكلم إحدى بنات الحي ، .. قالت لها :
أظن أنك بهذا الحديث تريدين أن تنبهي شباب الحي إلى وجودك .. إذا أردت أن تكلمي أي بنت في الحي ، أجعليها تصعد و تحدثا هنا أمام الجميع .
في يوم من الأيام ، وجد جلبة و ضوضاء في الحارة ، و نظر فإذا شاب من شباب الحي يصرخ في فتاة ، و يتهمها بأنها تكلم غيره من الشباب ، و كأنها ملكية خاصة له ، فريق مؤيد للفتاة و لسمعتها في الحي ، و فريق معارض لسلوكها و إنها فضحت نفسها ، و فريق يلوم الاثنان على هذا السلوك المشين من كلا الطرفين.
و ذات يوم لمح أحدى فتيات الحي و هي تنظر إليه أثناء ذهابه إلى عمله ، لاحظ أنها قد هبطت مسرعة من بيتها ، و سارت وراءه إلى أن خرج من الحارة ، و أرادت أن تكلمه ، فأسرع الخطى كأن شيطان يطارده بشدة ، و تركها في الشارع دون أن يرد عليها ، أو ينظر لها ، و كأنه يهرب من شيء ، لماذا كان يتحاشاها ، لاشك أنها التقاليد التي زرعتها أمه في أبنائها ، من ذلك الحرام الذي لا يقبله الدين و المجتمع ، و إن ذلك يسيء إلى سمعة الفتاة أكثر مما يسيء إلى سمعة الفتى .
من يومها طبع في ذهنه الصغير أن السير مع أي فتاة عيب كبير ينبغي أن يقلع عنه و لا يفكر فيه ، فما لا يرضاه لأخوته البنات لا يرضاه لغيرهم من أولاد الناس .
و يتذكر حين جاءت ناهد و هدى ذات يوم إلى المكتب بثياب جديدة تبرز أنوثتهما بعض الشيء ، و قد وضعن على وجوهما بعض الأصباغ و الزينة ، و ظهرتا بمظهر جميل جعل الجميع ينظرون إليهما ، إلا أنه لم يعلق على ذلك التغيير ، رغم أنه يعرف جيدا أنه هو المقصود بهذا التغيير ، و أن ذلك التجديد في مظهرهما ما هو إلا للفت نظره ، كان أيضا يهرب من نفسه ، أو قل إنه لم يشعر أمامهما بأي عاطفة تذكر ، و لم ينبض قلبه تجاههما بأي شعور يشعر به الرجل نحو المرأة .
أردتا أن تجذب انتباه إذن ، أنهما ليست فقط زملاء في العمل ، و لكنهما أيضا فتاتان مثل باقي الفتيات ، يحلمن بأن يجدن العريس الذي بحلمن به ، يعشن في كنفه حياتهن ، كانا يريدان توصيل رسالة إليه ، رسالة حب .. أن سن الزواج هو هذا السن ، و أن العمر يجري سريعا ، و لكنه لم يشعر نحو أي منهما بأي عاطفة.
فهو يعرف جيدا أن الحب لا يكون إلا بعد الزواج ، هذا عف من أمه المسيطرة على أفكاره ، و أفكار أخوته و أخواته .
و حينما شاهد نادية لأول مرة في حياته ، أحس بما لم يحس به من قبل ، أحس بأن نبض قلبه يتسارع دون هوادة ، و أن العرق يبلل جسده ، ملاك هبط إلى الأرض من أجله ، و لكنه كعادته التي تعود عليها تحاشى النظر إليها ، احتراما لذلك الرجل الذي احتضنه ورعاه ، واخ\حتراما لمبادئه التي تربى عليها .
لاشك أن هناك تغييرا ، بل تغييرات كبيرة و جذرية حدثت لحسين منذ أن وافقت نادية على الخطوبة منه .. لقد شعر أن قلبه ينبض بشدة ، و إن عقله بدأ يفكر في الحياة التي حُرم منها ، الحب يأتي فجأة و دون مقدمات ، شعر بالإنجذاب نحوها .
كان الحلم الذي راوده منذ أن أتفق مع والدها الحاج عطيه على العمل معه يراوده بين الحين و الحين ، و قد راوده الآن مرة أخرى بعد طول غياب حينما دخل فيلا " الياسمين " لأول مرة .
و ها هو الحلم يراوده بشكل مستمر منذ ذلك النقاش بينه و بين الحاج عطيه و ابنته بشأن زواجهما .
و أخيرا وافقت نادية على الخطبة ، و أعلنتها في حفل نجاحها ، و شاهد الفرحة تطل من عيني أبيها ، و عيون أمه و أخواته ، بل شعر هو إنه يطير بين السحاب . أنه يحلق بين النجوم .
هل وافقت نادية إرضاء لأبيها ، أم وافقت لأنها وجدت فيه الكثير من أحلامها الكثيرة التي تجول في خاطرها ، و قد حقق لها حسين بعض المكاسب لم تكن تدور في ذهنها ، و ها هو يحقق لها كل ما كانت تحلم به بعد تخرجها ، حقق لها أكبر حلم وهو مستشفى خاص لها ، ثم عيادة ، و فوق ذلك وكالة السيارات و قطع الغيار .
و من الغريب أن يشعر حسين و لأول مرة في حياته بهذا الشعور الغريب ، الشعور بالحب الذي كان يتحاشاه ـ بل و يبتعد عنه قدر استطاعته أملا في تكوين مستقبله ، و يتساءل بينه و بين نفسه عن الحب ، ما هو الحب ؟
و رغم أنه قرأ الكثير من قصص الحب ، و عرف الكثير عن العشاق أثناء تواجده في المكتبة التي كان يعمل بها ، ووجد في هذه القصص ما ينفره من الحب من حرمان ولوعة .
كانت تلك القصص تحكي عن آلآم العاشقين وما يصيبهم من تباريح الهوى ، وغالبا ما ينتهي هذا الحب بفراق المحبين لوجود عائق ما يباعد بينهما .
ووجد أيضا في الكتب العربية القديمة التي قرأها أن للحب درجات و أسماء لا حصر لها ، منها : المحبة والهوى والصبوة والشغف والوجد والعشق والنجوى والشوق والوصب والاستكانة والود والخُلّة والغرام والهُيام والتعبد .
كان الحب الذي يعرفه منذ أن وعي على هذه الدنيا هو حبه لأمه ، و تعلقه بها ، ، هذا الحب الذي ملأ كيانه ، و حبه لأخواته البنات خاصة ، فحبه لأمه كان يعني الاحترام و الحنان ، و حبه لأخواته كان يعني الود و الصداقة .
صحيح أن أمه الحنون كانت توزع حنانها بالتساوي من خلال تربيتها لأبنائها بحزمها و عطفها الممزوجين ، و من خلالها نصائحها للصغير و الكبير ، سواء أكانوا صبيان أو بنات .
كانت علاقته بمن عرف من الفتيات في الميناء علاقة عمل ليس إلا .. صحيح أنه كان ينثر بعض الكلمات المعسولة ، و لكن من سبيل المجاملة فقط حتى ينهي المعاملة التي معها . و صحيح أن بعضهن حاولن أن يتقربن منه ، و لكنه كان يعرف كيف يهرب في الوقت المناسب ، يهرب من أي عاطفة قد تعطله عن بناء مستقبله .
ذات مرة وبعد أن أنهى معاملة سيارة لسيدة كانت إحدى فتيات الجمارك تحاول أن تعطلها قدر جهدها ، و تدخل حسين ، و استطاع أن ينهي هذه الإجراءات ، حاولت الفتاة أن تلفت نظره إليها ، و إنها قامت بهذه الخدمة من أجله هو فقط .. و شكرها ، و أنهى الحوار بأسرع ما يكون ، و غادر المكتب .
حينما رأى نادية ابنة الحاج عطية لأول مرة ، جذبت نظره من أول وهلة بقوامها الممشوق ، و جمالها الساحر ، و ابتسامتها الهادئة الخجول ، و لكنه لم يطل النظر إليها لأسباب عدة ؛ احتراما لأبيها الذي احتضنه منذ أول يوم عمل فيه معه، و رفعه إلى منزلة لم يكن يحلم بها ، و لم يكن ينالها لولاه ، و حفاظا على المبادئ التي تربى عليها ، و غرستها أمه فيها من ناحية ثانية .
بل إنه – حتى في وجوده في الفيلا مبيتا ، و ما أكثر هذا الوجود منذ أن مرض الحاج – كان يتحاشى النظر إليها دائما ، رغم التلميحات و التعليقات الساخرة التي تصدرها ، و ما أكثر هذه التعليقات التي انتبه إليها الجميع ، و لكنه كما قال له الحاج أنه ابنه ، و مادام الوضع كذلك فلابد أن يحافظ على ذلك البيت و كرامة صاحبه .
حتى في تلك السفرة التي اصطحبها إلى كوريا ، و التي امتدت إلى أربعة أيام – و كان قد سبق الحديث عن الخطوبة – لم يحاول اقتناص الفرصة للحديث معها .. فقد انشغل في عمله ، و انشغل أكثر بالعقود الجديدة التي قد تبعده عن تلك السكة الخطرة التي كان والدها يسير فيها .
صحيح أنه جلس معها في إحدى المقاهي ، و لكن بوجود صفاء التي حاولت أكثر من مرة أن تقوم لتترك لهما الفرصة للحديث ، و لكنه كان ينبه عليها أن تجلس حتى لا تتوه في هذا البلد الغريب .
كانت تعليقاتها البريئة تصدر عنها حين تشاهد منظرا لم تألفه في حياتها المغلقة ، نظرت بشدة إلى فتاة على الشاطئ حيث جلست تلبس مايوه بكيني يظهر كل جسدها ،فأشاحت بوجهها ونظرت إلى صفاء و حسين و قالت هذه قليلة الأدب ، وحينما أشاحا بوجهها رأت شابا يقبل فتاة ، فلم تعرف أين توجه نظرها ، و ضحكت صفاء و ضحك حسين ، وقال لها :
هذه بلدهم وهذه تربيتهم .
المرة الوحيدة التي نظر إلى وجهها بإمعان كانت يوم الحفل ، فقد كانت أنوثتها الطاغية تظهر عليها من خلال ذلك الفستان الوردي المكشوف الصدر ، الضيق الجوانب ، كانت تبدو كزهرة ناضرة متفتحة ، تمتلئ بالحيوية و النشاط و البهجة و السرور ، كانت لا تمكث في مكان واحد ، تتجول بين المدعويين ، وتوزع ابتساماتها الفاتنة ، مما جعل وجهها يشع بألوان لم يرها من قبل ، ألوان الحب الذي يملأ الوجه ، و يشعر به الإنسان .
إذا هذا هو الحب الذي كان يبتعد عنه قدر الإمكان ، هذا هو الحب الذي يحل ضيفا على الإنسان ، فلا يستطيع الفكاك منه ، هذا هو الحب الطاهر النظيف الذي كانت أمه تتحدث عنه .
الآن و قد صار خطيبها رسميا ، فمن حقه الحديث معها بحرية ، و أن ينظر إليها ما شاء له النظر .
و لكن ما هو الحديث الذي سوف يدور بينهما ، و هو لا يعرف إلا لغة العمل ، و هو لا يعرف إلا تلك الكلمات البسيطة التي تتيح له أن يسيطر على عواطف أي موظفة لنيل خصم جمركي لأحد الزبائن .
نعم الكلمات المعسولة لن تفيده ، فهي لغة لتسهيل العمل ، ليترك نفسه للظروف ، فاصطناع كلمات لن يفيده ، و ليكن حديثه طبيعيا حسب الظروف .
أما نادية فقد كان الحب عندها غريبا ، و ذكرياتها في ذلك المجال غريبة و عجيبة ..
تتذكر حينما كانت في الثانوي ،و أراد أحد الشبان أن يتقرب منها ، فما كان من سائقها إلا أن ضربه ، و كاد يفتك به ، لولا أن الشاب أسرع يلوذ بالفرار .
سمعت يومها بعض الكلمات التي تشيد بجمالها الباهر ، و قال لها الشاب :
يا بخت من يفوز بهذا الجمال .
و تتذكر حين دخلت الجامعة – في أول عام - أراد شاب أن يتقرب منها ، و كادت أن تقع في شباكه ، فخبرتها القليلة بهذا الفن الذي يجيده بعض الشباب لم تكن تعرف عنه شيئا ، حتى أسرعت إحدى زميلتها لتنبها أن هذا الشاب برمي شباكه حول جميع الفتيات الثريات ، و إنه لابد أن لمح سيارتها و ملابسها ، فأراد أن يرمي شباكه حولها لعله يستطيع أن يكسب منها بعض المال .. سمعت كلام زميلتها , و أسرعت نحوه بسرعة و هو يقف بين زملائه ، و رمت في وجه بعض المال ، و نبهته ألا يقترب منها ، و ألا يحدثها ، و إلا فيتحمل ما يجرى له .
من يومها كانت تصد كل من يقترب منها من الشباب ، و لم تعط فرصة للحديث حتى البريء منها ، فقد كان هدفها أن تجتاز الجامعة بتفوق حتى يرضى عنها والدها، و حتى تحقق أحلامها الكثيرة .
و تتذكر في يوم من الأيام جاء خاطب إليها في الفيلا ، و نزلت كما أمرها أبوها في أبهى زينتها .. يومها قالت لهذا العريس المحتمل إنها لا تفكر في الزواج الآن ، بل تفكر في دراستها ، و ذهب أهل الخاطب إلى غير رجعة ، رغم أن هذا العريس كان من أسرة غنية معروفة بين أهل الإسكندرية .
صحيح أن أبوها نهرها على هذا التصرف المتهور ، الذي يدل على عدم اللياقة ، و لكنه بينه و بين نفسه كان يشعر أن شخصية ابنته قوية ، و إنها فعلت ما كان يريد بالضبط ، فقد كان والد العريس لواء في الشرطة ، و العريس أيضا كان ضابط في الشرطة .
حينما كان حسين يزور الحاج في الفيلا بعد الخطوبة ، كان الحاج يتعمد أن يتركه وحده مع ابنته ، و كذلك كانت تفعل صفاء ، لكي يتم الوفاق بينهما ، لكنه كان يشعر- في داخل نفسه - أنه مراقب بشدة ، و لكن من الذي يراقبه ، أ هو ضميره الذي زرع فيه من الصغر ، أم من في البيت .
أ يحدثها عن حياته ، عما عانى من مرارة الفقر و شظف العيش قبل أن يلتقيا – و هذه كانت قصة حياته الحقيقية – أم يضع قناعا على وجه يحدثها به عن المستقبل الذي لا يعلم إلا الله وحده ما هو .
أ يمسك يدها كما كان يرى الشباب يفعلون على طول الشاطئ ، و يسبل عينيه كما كانوا يفعلون . أيخفض صوته حتى لا يسمعه غيرها .
كان في أغلب الأحيان يتحدث عن أي شيء سمعه أو قرأه من قبل ، و كانت هي تبادله ذلك الحديث ، كانت العفوية هي مبدأ الحديث المتبادل بينهما ، فكلاهما بلا خبرة في الحب .
ذات يوم طلب الحاج من حسين أن يأخذ خطيبته ، و يذهب بها إلى أي مكان؛ كازينو على الكورنيش أو السينما أو المسرح أو إلى أي مكان . . أحس أن سيل من العرق قد بلل جسمه كله ، و بصراحته المعهودة قال للحاج :
ما رأيك في أن تكون أنت وصفاء معنا .
قال له الحاج :
ما شاء الله ، إيه رأيك لو عزمنا بالمرة كل اللي في المكتب .
و أنقذته صفاء :
أنا لا أحب أن أكون عذولا .
فقال حسين :
هل سنذهب نحن الاثنين فقط .
فقال له الحاج مداعبا :
لا تخف لن تأكلك ابنتي ، و لن تخطفك ، و على فكرة أترك سيارتك هنا ، خذ تاكسي أو حتى تتمشوا ، المشي رياضة في حالتكم .
و قفز إلى ذهنه ما كان يراه على الكورنيش من سير اثنين متشابكي الأيدي , مسيلي العيون ، و الحديث يجري بينهما .
عادا بعد منتصف الليل ، وهو يشعر بالخجل لأنه قد تأخر كثيرا ، و اعتذر لأن الفيلم كان طويلا .
ضحك الحاج ضحكا متواصلا ، وهو يوجه الحديث لابنته :
الباشا أكلك و ألآ ..
ثم استدار قبل أن تنطق ابنته ، و قال لحسين :
المرة الجاية تروح بها مسرح .. خليها تشوف الدنيا .
جلست نادية تحكي لصفاء ما حدث في تلك النزهة ، و إنه اشترى لها قبل الذهاب إلى السينما بعض السندويتشات ، و شربا العصير ، أول مرة آكل خارج البيت .
ضحكت صفاء ، وقالت لها :
و أثناء الفيلم ، أ لم يحاول أن يمسك يدك ، أ لم يحاول أن يقبلك .
أحست نادية بشيء من الخجل ، و أحمر وجهها ، أ هكذا يفعل المخطوبين حينما يخلو لهما الجو ، و لكنه كانت لابد أن ترد على صفاء و ما أحسته من سخريتها .
قالت نادية :
حسين مؤدب ، لا يفعل ذلك .
فقالت صفاء :
و أنت شدك الفيلم .. صحيح هو الفيلم عربي و لا أجنبي .
حينما حضر حسين ذات ليلة ، و جلس مع الحاج بعض الوقت ، تركه الحاج مع خطيبته كالمعتاد ، و ظلت صفاء جالسة في مقعدها رغم نداء الحاج لها بإعداد العشاء .
قالت صفاء و هي تهم بالنهوض :
في الأفلام العربية الخطيب يمسك يد خطيبته ، و الخطيبة تضع يدها في يد خطيبها و هما يسيران . و في الأفلام الأجنبية التي نراها في التلفاز.. و سكتت و هي تهم بالانصراف .
قال حسين لها :
أ ليس ذلك عيبا .
و أحمر وجه نادية من الخجل ، كانت تعرف أن صفاء تحاول أن تفك ذلك الجمود الذي يسود بينهما .
قالت لنفسها :
ليتني كنت مثل كل البنات ، و لكن أبي سامحه الله جعلني حبيسة البيت، و فرض علي رقابة صارمة .
و تمنت لو أن والدتها كانت حية تعيش معها في ذلك الوقت ، لسمعت منها النصائح التي يجب أن تعرفها الفتاة في مثل تلك الظروف التي تمر بها .
أيام العسل
اختفى الحاج عطية و سائقه عدة أيام .. و ظل الجميع في البيت و في المكتب في حيرة من أمرهم و أمره ، و لعبت الوسواس في صدر حسين وذهب فكره كل مذهب ، و أصيبت ابنته بحالة حزن و اكتئاب شديدين ، فقد لعبت الوساوس في صدرها ، و لم تفارق الدموع عينيها ، فهذه أول مرة لم يقل لها إنه مسافر ، بل لم يقل لأحد في البيت أو في المكتب أنه سوف يتأخر كل هذه الأيام .
أطلق حسين بعض رجاله يتحسسون الأخبار في كل مكان كان الحاج يقصده ، في معمله السري ، بل أجرى العديد من المكالمات الهاتفية لعملاء الحاج في جميع المحافظات التي يتعامل معها دون جدوى .
و حتى يخفف حسين الحزن على خطيبته ابنة الحاج ، أشاع عن طريق رجاله أن الحاج قد سافر ليتفق على شحنة جديدة من الأجهزة الكهربائية ، ليعطي لنفسه المهلة الكافية حتى يعرف الأخبار ، و لم تصدق نادية ذلك ، فوالدها كان يخبرها قبل أي سفر، كان يخبرها ليعرف منها ما تريد من ثياب .
ترى ماذا حدث ، هل اختطف الحاج ؟ و لكن لماذا لم يتصل خاطفوه ليطالبوا بالفدية .. هل أصيب الحاج ؟ و لكنه بحث في جميع المشافي ، فلم يجد له أثر ؟ و أخيرا أطل احتمال برأسه .. هل قبض عليه ؟ و لكن لو كان قد تم القبض عليه لداهمت الشرطة فيلته ، و جميع محلاته ، و أيا من هذا لم يحدث ، و احتار كل الحيرة في هذا الاختفاء المريب الذي لم يعهده فيه من قبل .
و بعد أن سأل حسين عن الحاج عطية في جميع الأماكن التي كان يتردد عليها ، بل و المشافي ، فكر في إبلاغ الشرطة للبحث عنه ، و لكنه عدل عن فكرته فقد تذكر سر الحاج له ، خوفا من أن تجد الشرطة في أي مكان دليلا يدين الحاج في تجارته غير المشروعة .
في اليوم الثامن و قد يأس حسين من العثور على الحاج ، و إذا به فجأة يجد الحاج أمامه و معه السائق .. وكاد الجميع يغشى عليهم من هول المفاجأة ، ها هو الحاج سليم معافى بشحمه و لحمه و هيئته ، و ابتسامته المعهودة يقف أمام الجميع ، و كأنه لم يغب عنهم ولو للحظة واحدة ، وكانت ابتسامته المعهودة لم تفارق وجهه .
سأله حسين و علامات و الدهشة و الاستغراب تعلو وجهه :
أين كنت يا حاج ؟ الجميع هنا كانوا يعيشون طوال الأسبوع في قلق و حيرة، حتى نادية كانت تبكي ليل نهار ، لماذا لم تخبرني بهذه السفرية المفاجأة .
أجابه الحاج في منتهى الهدوء المعهود به ، و الابتسالمة لم تفارق وجهه :
كنت في باريس ، أعد لكما مفاجأة .
في المساء ، أخذ الحاج حسين إلى فيلته ، و جلس وهو يرى دموع ابنته ، رغم الفرح الذي بدأ يظهر عليها مرة أخرى .
كانت تبكي و هي تقبل والدها ، و أرادت أن تضربه على وجهه لكنها عدلت فكرتها في اللحظة الأخيرة ، و أخذت تضربه على صدره ، و بل تقبله من وجهه .
طلب الحاج من سائق السيارة أن يأتي بالمفاجأة التي اشتراها من باريس ، عاد السائق و في يده ، طرد من الكارتون بطول إنسان ، ووضعه أمام الحاج ، و لكن الحاج لم ينظر إليه ، وظل يطيب من خاطر ابنته التي مازالت تبكي ، و تلومه على ما أحدثه بها من ألم لا تستطيع أن تتحمله ، رغم وجود حسين و الجميع من حولها .
وقالت له :
إن وجوده هو الحياة نفسها ، لقد كنت مثل المجنونة من شدة التفكير ، رغم أن حسين قال لي إنك مسافر .
وطالبته ألا يعاود فعل ذلك مرة أخرى ، إلا بعد أ، يخبرها منا تعود أن يخبرها .
اتجهت ببصرها إلى ذلك الطرد الكارتوني الموجود أمامهم ، و علت علامات الاستغراب وجهها مرة أخرى ، و تساءلت في نفسها .. ما هذا الشيء الذي بداخل هذا الطرد الكبير ؟
لم تجرؤ نادية أن تسأل أباها عما في هذا الصندوق الطويل ، و لكن عيناها كانت تشي بما كانت تفكر فيه ، و كان الحاج ينظر إليها و إلى حسين نظرة فاحصة من جانب عينيه، و يعرف اللهفة التي في أعينهم لمعرفة ما في الصندوق .
صاح الحاج مناديا صفاء ، طالبا منها أن تأتي بالعصير بسرعة .. و حضرت صفاء و هي تحمل الصينية و عليها أكواب العصير ، ووضعتها أمامهم ، وهمت أن ترجع أدراجها من حيث جاءت ، و لكنها نظرت إلى الصندوق الكرتوني الطويل نظرة دهشة و استغراب ، ثم أطلقت زغرودة طويلة و هي تضحك ، كانت الوحيدة التي عرفت ما في داخل الصندوق من النظرة الأولى ، فلم تجهد ذهنها أو استنتاج ما في هذا الصندوق الذي طوله يناهز طول نادية تقريبا ، و لهذا أطلقت زغاريدها مدوية ، ودون توقف .
قال الحاج لصفاء أن تفتح الصندوق ، و لكنها رفضت و طلبت منه أن يأخذ حسين إلى الداخل لكي لا يرى فستان العروس ، فمن عادتنا المتبعة منذ القدم ألا يرى العريس هذا الفستان إلا في يوم الدخلة فقط ، و النظر إلى فستان العروس يجلب النحس.. ضحك الحاج ضحكة عالية ، و أخذ حسين و دخل إلى داخل الفيلا .
فتحت صفاء الصندوق بحرص زائد ، و أطلقت الزغاريد مدوية مرة أخرى ، ثم أغلقت الصندوق مرة أخرى بنفس الحرص الشديد ، و نادت على الحاج و حسين قائلة :
لقد انتهت المهمة .
أخذت نادية تقبل أباها كطفلة صغيرة ، وقد زال عنها الحزن والاكتئاب و حل محلهما السعادة و الفرح ، و ارتسمت على وجهها من خلال حمرة وجنتيها الفرح و السرور .
قال الحاج :
غدا أو بعد غد سوف تأتي باقي الأشياء التي اشتريتها لك ولحسين للفرح .
كانت الفرحة هي السائدة في البيت ، ذلك البيت الهادئ الذي لم يعرف إلا الحزن منذ زمن طويل ، و لم يعرف أيضا الفرح .
حُدد موعد الفرح ، و بدأ المحامي في توزيع الدعوات على جميع الأهل و المعارف و الأصدقاء .
و قال الحاج لحسين :
سوف أحجز لكما في أكبر فنادق فرنسا لتمضية شهر العسل هناك .
قال حسين للحاج :
لا ، سوف نذهب أولا إلى الأقصر و أسوان أسبوع في بلادنا التي لم تراها نادية من قبل ، ثم بعد ذلك سوف نلف العالم كله .
ضحكت صفاء ، وقالت :
و أنا معاكما و الحاج .
قال لها الحاج :
شهر عسل يا مجنونة ، لوحدهما .
بدأت السعادة ترفرف على تلك الفيلا .. فيلا الياسمين مرة أخرى منذ زمن طويل .
طريق التوبة
كان هدف حسين بعد زواجه من نادية .. التخفيف من ذلك النشاط المشبوه الذي كان يمارسه والدها ، خطوة فخطوة ، حتى يتم إلغاءه نهائيا ، فهو يعرف خطورة هذا الطريق جيدا ، وفي النهاية ليس أمامه إلا طريق من طريقين ، إما القتل ، و إما القبض عليه ، و في كلتا الحالتين سيفقد أسرته التي بدأت للتو تتنسم طعم السعادة ، و الحياة المستقرة .
قال له الحاج :
إذا أردت أن لا تسير في هذا الدرب ، فإنك ستواجه حربا لا هوادة فيها .. لا أحد يريد أن يخسر مكاسبه مهما يكن .. إنها مكاسب خرافية ، و هناك من تعتمد حياتهم على هذا النشاط .. قد تؤدي النتيجة إلى ما لا تحمد عقابه .
قال له حسين و هو يبتسم :
لا تخف سأكون حريصا .
قال له الحاج :
وراء هذه التجارة العديد من التجار ، ووراء كل تاجر العديد من المساعدين ، ووراء كل مساعد العديد من الصبيان .. جيش كبير .. و يكفي أن يشير تاجر متضرر منهم إلى مساعديه .. فيطلقون صبيانهم وراءك لقتلك .. و لن يعرف أحد أبدا من قتلك .
قال حسين وقد أخذ للوهلة الأولى :
ربنا يستر .
كانت المخاوف قد أخذت طريقها إلى فكر حسين .. كيف سيتصرف مع هؤلاء التجار الذين حددهم الحاج ، هل يعقد معهم اجتماع – بوجود الحاج – و يخبرهم أنه قد قرر الاعتزال .. اعتزال تهريب الممنوعات التي يوزعونها ؟ أم يطالبهم بإيجاد البديل الذي يمدهم بهذه الممنوعات .
و انتقل فكره إلى أبعد من ذلك .. فيمن يقومون بهذا الأمر في الخارج :
هل سيتركونه في حاله ، و قد فقدوا سوقا مفتوحا يستوعب جزءا من بضاعتهم .. لاشك أنهم هم الآخرون سيسعون إلى قتله بلا رحمة .. و ما أيسر قتله عن طريق محترف و في وضح النهار ، و ينتهي الأمر بكل بساطة .. أو خطف أحد أفراد أسرته ، أو زوجته .
و هؤلاء لا يتورعون عن عمل أي شيء في سبيل مصلحتهم ، الخطف أولا ، القتل في أغلب الأحيان ، ليس لهم في الصداقة أو العِشرة أي عاطفة ، عاطفتهم الوحيدة هي مصلحتهم ، و من يقترب من مصلحتهم فإنهم يدمرونه تدميرا .
و لم يهتد في فكره إلى كيفية التعامل مع كل هؤلاء . ولكن كانت هناك بعض الخطوط العريضة التي رسمها ليتخلص من هذه الورطة دون أن يجلب لنفسه المشاكل .
إذن طريق التوبة صعب ، ولكن لابد أن يخوضه برفق مهما كان الثمن .. و قد يكون الثمن غاليا جدا إذا لم ينتبه .
لم يسافر في المواعيد المحددة ، المتفق عليها ، رغم اتصال عملائه في الخارج ، وكان رده عليهم أن هناك رقابة مشددة عليهم ، و أنه الآن في حالة بيات حتى تهدأ الحملات المتكررة .. و أنه في أقرب فرصة سوف يتصل بهم و معاودة النشاط إن أمكن . و هكذا أراح نفسه – مؤقتا - من بعض الخطورة المحتملة من تجار الخارج .
رويدا رويدا كانت البضاعة في السوق تقترب من النفاذ ، و لم تمض فترة حتى اقترب التجار من المخزون الذي عندهم .. بل وزادت الأسعار زيادة رهيبة..
ووصلت إلى حسين أن ثلاثة من التجار قد عقدوا اجتماعا بينهم لاتخاذ التدابير اللازمة للسوق الذي بدأ في الانهيار، نتيجة لشح البضاعة .. كانت كل حياتهم و أعمالهم تقوم على ما يسلمهم له الحاج من بضاعة .. و كان يوفر لهم هذه البضاعة باستمرار ، و في الوقت المحدد .. لكل واحد منهم حصة .. و كانت مواعيده مضبوطة .. أما ألان فالمدعو حسين أوقف النشاط ، و لابد من حل .. سيذهبون إلى الحاج .. لأن حسين أصبح هو الآمر الناهي في وقف تجارتهم ، و لا بد أن يجد الحاج وسيلة لاستمرارهذا التعامل .
و اختلفت الآراء اختلافا بينهم .. و اتفقوا في النهاية على الذهاب إلى الحاج حتى يخرجوا من هذه الورطة التي تسبب فيها حسين .. إلا أنهم كانوا قد دبروا أمراً خطيرا، و سعوا إلى تنفيذه .
جاء فؤاد الصديق الحميم لحسين و هو مهموم ، مكفهر الوجه ، وكأنه يحمل هموم الدنيا فوق رأسه ، قال لحسين :
أريدك في حديث على انفراد .
قال له حسين :
نحن الآن لوحدنا فتكلم ..
قال له فؤاد هامسا في رعب حقيقي مما يدور حوله :
ما رأيك أن نسير في الشارع ليكون حديثنا دون أن يسمعه أحد ، و أظن أنك مراقب ، بل و من الممكن أن يكونوا قد زرعوا لك بعض أجهزة التصنت في مكتبك ، دون علم أحد .
كان حسين قد بدأ يشعر بأن هناك ما ريب في هذا الموضوع ، فقال لفؤاد و قد أخذه من يده ، وخرج إلى الشارع ، ووقف معه على رصيف الكورنيش :
قل و لا تخف .
قال فؤاد و هو مذعور :
إنه يدبرون لقتلك .
قال له حسين و هو يحاول أن يخفي بعض الرعب الذي كسا وجهه وعقله :
من هؤلاء الذين يريدون قتلي ؟ .
قال له فؤاد :
الآن لا أعرف .. و لكني أنصحك أن تدبر لنفسك حراسة خاصة تلازمك في كل مكان .
و سرح فكر حسين في الأمر ، إذن ما قاله الحاج صحيح ، و أنهم لن يتركوه في حاله ، و أنهم سيسعون إلى قتله .. و الخطوة الأولى جاءت من الداخل ، و لعل الخطوة التالية ستكون من الخارج ، و عليه أن يتصرف بسرعة حتى لا يقع ما قاله الحاج .
عليه أن يحمي نفسه من الداخل و الخارج ، هل يضع حراسة حوله ، لعل ذلك يثير الانتباه ، و يبين خطواته ..
ورضخ للأمر الواقع لا مشكلة في وجود ثلاثة يحرسونه ، و لكن من أين سيأتي بهؤلاء الثلاثة ، إنهم بلا شك سيعرفون خطواته ، و قد يقومون بالإبلاغ عنه ، إذن فهؤلاء الثلاثة لابد أن يكونون معروفين له ، مخلصين له ، و الأفضل أن يكونوا من العاملين معه .
مضت فترة و هو يعيش حالة القلق المستمر ، حتى أستطاع أن يأخذ ممن حوله ثلاثة حراس .. ليس الجسد وحده و لكن الذكاء وخفة الحركة ، وسرعة التصرف ، كان هذا الشرط الذي اشترطه لفؤاد لتنفيذ مهمته .
و بالفعل أتى له فؤاد بست أفراد ، حتى يكونوا وردتين يتحرك بهم وقت ما يشاء و في أي مكان يشاء ، و أجزل لهم العطاء حتى يضمن ولاءهم ، و عدم خيانتهم ، و قد جهزهم بكل ما يلزم من سلاح حتى يستطيعوا مواجهة أي طارئ يحدث أثناء حراستهم لحسين .
كان حسين قد هدأ قليلا و استقر على أن يأتي بشحنة جديدة من الخارج .. ولكن من يسافر ، وهو قد أقسم يمينا ألا يتاجر في هذه الممنوعات .. و استشار الحاج في ذلك .. فوجد منه قبولا على السفر في رحلة سياحية . يجمع فيها الكثير من أصحابه و لا بأس من زوجاتهم حتى لا تثير هذه الرحلة الشبهات .
تبادلا الحديث في شان ما يحتاجه السوق من بضائع جديدة ، و خصوصا أن السوق قد امتلأ بالأجهزة الكهربائية بل و الملابس أيضا ، و عليه أن يجدد في تلك البضائع ، ويأتي بأصناف لم يأت بها من قبل . وأخيرا اتفقا على ما يريدان .
سافر الحاج و برفقته بعض أصحابه من التجار كما اتفق مع حسين ، و اصطحب مع هؤلاء التجار زوجاتهم حتى تبدوا الرحلة و كأنها سياحية ، و خطط لذلك جيدا من خلال أحد مكاتبه السياحية .
كان فكر الحاج أن يعرف هؤلاء التجار بكل كبيرة و صغيرة في تجارتهم المشروعة و الممنوعة حتى يقوموا بها بأنفسهم بعد ذلك .
رحلة امتدت أكثر من أسبوع ، كان حوله أكبر معاونيه من التجار ، كان يخرج معهم في ساعة محددة ما بعد العشاء فيغيبون ساعة أو أكثر .
ذات ليلة تم دعوتهم إلى حفل أقامه أحد أثرياء بيروت ، كان الحفل يعج بالمدعوين ، و كان الحفل ستارا للتعارف و عقد الصفقات .
الانتقام
ظل حسين سائرا مترنحا من شدة الإعياء ، وكان تفكيره إلى أين يذهب ؟ و أين يختبئ يوما أو يومين حتى يستريح أولا .. و حتى يستطيع التفكير الجاد في حل هذه المشكلة العويصة التي تواجهه .. و اهتدى تفكيره إلى صديقه المخلص فؤاد ..
صحيح أن فؤاد يقطن في حي شعبي ، لا يهدأ ليلا ولا تهارا ، وصحيح أيضا أنه أنه لم يزر فؤاد في بيته من قبل ،و لكنه يعرف منزله من خلال جولاتهما ، أو الجلوس على المقهى المقابل لبيته ، هنا سيجد الآمان الذي سينشده .
و استطاع أن يتسلل إلى بيت فؤاد في الساعات الأولى من الفجر .. دق الباب ببطء و خفة .. و فتحت والدة فؤاد الباب أمام هذه الطرقات المتتالية ، لتجد أمامها شخصا لا تعرفه ، و يسألها عن ابنها فؤاد .. ثم ارتمى على الأرض بجوار باب الشقة ..
أيقظت الأم ابنها فؤاد .. و هي مذعورة ، وقد تملك الخوف والرعب كل كيانها .. من هذا الشاب الراقد أمام باب بيتها ؟ .. ترى ماذا حدث لهذا الشاب الذي يسأل عن ابنها ؟ .. لماذا جاء في هذا الوقت المبكر ، وقد اتسخت ملابسه بشدة ، و اتسخ وجه و امتلأ بالطين ، و ها هو يسقط على الأرض من شدة التعب .
و أيقظت فؤاد ، فوجد حسين ملقى على الأرض .. استطاع فؤاد أن يحمل صديقه حسين بسهولة .. فجسم حسين ليس ضخما .. و قوامه المعتدل .. ساعده على حمله .. و فؤاد يملك جسدا ضخما ، و عضلات مفتولة ، إنه كالثور الهائج .. و وضعه على سريره .
خرج فؤاد إلى حيث كانت أمه مازالت واقفة ، و كأنها قد ثبتت في مكانها بمسامير في الأرض ، و مازالت واقفة أمام الباب كما هي منذ جاء هذا الغريب إلى بابهم .. و علامات الدهشة و الاستغراب مرتسمة على وجهها .. سحب فؤاد أمه و أجلسها على الكنبة التي في الصالة .. و قال لها هامسا :
هذا صديقي حسين. أعز أصدقائي .. صاحب العمل الذي أعمل عنده .
قالت الأم و هي مازالت غير مصدقة ما حدث لها :
ماذا أصاب صديقك صاحب العمل هذا ، وجعله في هذه الحالة المزرية الصعبة ؟ هل هو هارب من شيء ؟
قال فؤاد و علامات الحزن :
لا أعرف ؟ و سوف نعرف حينما يستيقظ ؟ .. و لكن أريد ألا يعرف أحدا أن صديقي موجود عندنا .. حتى الجيران .
كم مضى من الوقت على حسين وهو نائما عند صديقه فؤاد .. لا يدري ، و لكنه حينما استيقظ من نومه ، وجد والدة فؤاد ، و هي تمسك قطعة من القماش المبللة ، و هي تضع هذه الخرقة على جبهته لتخفض حرارة جسده ، وتزيل ما به من أوساخ ، و كأنه بالنسبة لها أحد أبنائها .
و هرع فؤاد إلى الحجرة ، وهو يسمع صوت أمه القائلة :
الحمد لله ؟ أخيرا لقد استيقظ من نومه .
طلب فؤاد من أمه أن تعد الطعام لحسين ، وكوبا من الشاي من يدها الجميلة الحنونة .. و لبت الأم طلب ابنها في سرعة مذهلة .. و جلست أمام ابنها و صديقه ، محاولة أن تعرف ما حدث لصديقه حسين و جعله في هذه الحالة المزرية .
حكي حسين ما قد أصابه من مطاردة ، ثم إصرار المطاردين على قتله .. شهقت الأم شهقة عالية ، غير مصدقة ما حدث . قالت الأم :
أولاد الحرام .. أي زمان هذا ، ما الذي يحدث . يا عين أمك عليك .
و صمتت برهة و هي زائغة البصر بين ابنها وصديقه :
و لكن لماذا يطاردونك ؟
أسرع فؤاد بتلفيق قصة وهمية حتى لا تتمادى أمه في الحديث ، و تحرج حسين .
قال فؤاد لأمه :
لقد ذهب يطالب بعض الناس بديون عليهم ، و لكنهم رفضوا أن يعطوه خقه ، وتوعدوه بالقتل .
قالت الأم و هي نحاول أن تتماسك :
خلاص الناس لم يعد عندها ضميرا .
بعد هذا الحادث الذي تعرض له في الصحراء ، طلب حسين من صديقه فؤاد أن يشيع بأنه مات في حادث الانفجار في الصحراء ، و أن أشلاء جثته قد انتشرت في محيط الانفجار ، و أن ذئاب الصحراء الجائعة قد تناولت وجبة دسمة شهية.
و سرت الإشاعة المحبوكة بسرعة كبيرة بعد أن أكدها لهم منفذيها الثلاثة ، و إنهم سمعوا الانفجار .. و أن أشلاء الكوخ كانت ستصيبهم و هم في مكمنهم .. و أنهم فجروا السيارة أيضا . وهم متأكدون من ذلك ، و لم يتركوا أي أثر خلفهم ، حتى الشرطة لن تهتدي الآن إلى الجثة ، بل ما قد تجده باقي العظم ، و السيارة المحروقة .
و لكن الحاج لم يقم له بالعزاء المعتاد .. رغم الحزن الشديد البادي على وجه ، فهو يعرف حسين جيدا ، و قلبه يقول أنه مازال حي ، و لهذا لم يخبر من في البيت بكل ما يحدث .. و رغم أنه في تلك الأيام لم يخرج من بيته ، فقد وصلت الأخبار أنه مريض ، وأنه على وشك الموت . و قد استطاع فؤاد أن يصل إلى الحاج ، ويخبره بأن حسين في أمان ، و أنه في مكان أمين إلى حين ..
قال له الحاج :
أعرف كل ذلك ، فهذا هو الثعلب .. و لكن أين هو الآن ؟
لم يتكلم فؤاد ، وظل صامتا ، وقال للحاج :
إنه في مكان آمن ، وسوف يحضر في أقرب فرصة .
كان هدف حسين الأساسي من خطته هو معرفة المنفذين الذين فعلوا ذلك به .. و من يقف ورائهم ، و أطلق فؤاد أصحابه لجمع المعلومات عمن قام بذلك العمل القذر .. و استطاع أصحابه أن يعرفوا من المنفذين من خلال الإشاعات التي رددوها ، بل قاموا بجلبهم له .. و في المخزن الذي انتقل إليه حسين .. و قف الرجال الثلاثة أمام حسين ، وقد عصبت أعينهم في أول الأمر .. طلب حسين من أصحابه أن يعلقوا الثلاثة من رجل واحدة في الخطاف، و أن يتدلى الحبل أمامهم .. و نزع عن أعينهم العصابة التي كانت قد وضعت على أعينهم ، و لشد ما كانت المفاجأة قوية ، أليمة على أنفسهم حين وجدوا حسين أمامهم بشحمه و لحمه ، سليما معافى ليس به أي أثر لجرح ما أصابه .
و قال لهم حسين مهددا :
سأترككم هكذا ، يوم ، اثنين .. ثلاثة ، أو أكثر ، دون طعام أم شراب ، حتى تقولون من الذي أمركم بذلك أو تموتون كما أنتم .
و أمر صبيانه أن يحفروا قبر واحد عكبق حتى يدفن الثلاثة معا ، و نفذ الصبيان الأمر .
مضت الساعات ثقيلة على الرجال الثلاثة المعلقين ، وقد أرهقتهم المعاناة من الموقف الذي هم فيه ، و قد منع عنهم حسين كل شيء من مقومات الحياة .. الماء و الأكل أو قضاء الحاجة .. بل أخذ حسين وفؤاد و رجالهما في الأكل و الشرب أمامهم .. و هم يتحدثون ، ويضحكون في سعادة ، لحم مشوي أمامهم ، زجاجات البيرة .
و أخيرا قرر الثلاثة التحدث .. و أرشدوا عمن أمرهم بأن يفعلوا ذلك .. طلب حسين من أصحابه أن يأتوا بذلك المساعد الذي كان يعرف من وراءه .. وطلب من فؤاد أن يعلقه مثل الثلاثة حتى يعود .
سأله فؤاد و القلق بادي على وجهه :
أين ستذهب ؟ .. حياتك في خطر .. لن أتركك تذهب لوحدك .
قال حسين و هو يطمئن صديقه :
سوف أذهب إلى المعلم الجارحي ، لأعرف منه لماذا فعل ذلك ..
أصر فؤاد على أن يذهب معه لتأمين الحماية له ، فالمعلم الجارحي في فيلته .. يقوم على حارسته رجال أشداء لا ينامون الليل، مثلهم مثل الذئاب البرية الجائعة الشديدة الشراسة ، مزودين بأحدث الأسلحة المتنوعة السريعة الطلقات .. و أنهم لو لمحوه فسيكون الموت هو المصير المقرر له .. أضف إلى ذلك تلك الكلاب الشرسة التي تتربص بأي غريب ، و هي مطلقة السراح طوال الوقت .
ابتسم حسين و قال لصديقه ألا يخاف .. و حينما أصر فؤاد .. أخذ معه على أن يكون قريبا منه .
رغم الحراسة المشددة الموجودة أمام بيت المعلم الجارحي .. و رغم أن بقية هذه القوة تحرس الجارحي في داخل البيت أيضا ، و رغم وجود الكلاب المتوحشة التي تفتك بأي غريب تشم رائحته .. استطاع حسين أن يتسلل إلى داخل الفيلا .. واستطاع أن يدخلها بسهولة دون أن يشعر به أحد ، فهناك باب سري يصل إلى مكتب الجارحي في الفيلا ، كان قد رأى الجارحي بعبره أكثر من مرة لاستلام البضاعة من المخزن الواقع تحت فيلا الياسمين و تحت فيلا الجارحي و غيرها من الفيلات التي كان أصحابها من معاوني الحاج عطية الدش .
و من مكتب الجارحي استطاع أن يتسلل بخفة حتى وصل إلى غرفة النوم الخاصة به .
في غرفة نوم المعلم الجارحي ، كان حسين يجلس و معه فؤاد أمام المعلم المستغرق في النوم .. و كان كلاهما يبتسم للآخر ، فقد كان المعلم الجارحي يبتسم وهو نائم على سريره ، و بجواره زوجته .
شعر المعلم الجارحي أن هناك شيئا في الحجرة ، فاستيقظ من نومه ، محاولا أن يأخذ مسدسه ، ليواجه تلك الحركة التي شعر بها ، و لكنه لم يجد مسدسه في مكانه .. فأضاء نور الأباجورة التي وضعت على طاولة صغيرة بجانبه .. و كم كانت المفاجأة شديدة حينما وجد المعلم الجارحي أمامه حسين و فؤاد يجلسان على الأريكة المواجهة للسرير ، وهما يبتسمان ، و قد شهر حسين مسدس المعلم - الذي استطاع أن يأخذه من تحت المخدة - في وجه .
كانت زوجة المعلم راقدة بجانبه بقميص النوم ، و صدرها مكشوف ، تنظر بدهشة إلى هذا المنظر المرعب الذي يحدث في غرفة نومها .. و هي صامتة . فهي تعرف أن أية همسة ستكون النهاية لها و لزوجها .. فسحبت الغطاء لتلف جسدها شبه العاري ، و عيناها ترتجفان من هول المفاجأة .. و لعلها تساءلت مثل زوجها .. كيف استطاع هذان الشابان الجريئان أن يجتازا الحراسة المشددة ؟ ، بل كيف نجيا من الكلاب المتوحشة ؟ ، و لكنها رأـ الابتسامة تعلو وجهيهما ، و هما ينظران إلى الحاج .
سأله المعلم في جفاء لا يخلو من خوف :
ماذا تريد ؟
ابتسم حسين ابتسامة عريضة .. وقال للمعلم :
لقد جئت أسألك نفس السؤال : ماذا تريد ؟
قال المعلم بهدوء مستفز :
أنا لا أريد شيئا منك ؟
ظلت ابتسامة حسين كما هي مرتسمة على وجهه ، فهو يعرف أن من يعمل في مهنته قوي الأعصاب ، بارد لا تؤثر فيه ، ولكنه قال موجها كلامه إلى صديقه الحميم فؤاد الجالس في الطرف الآخر من الحجرة :
أنت تعرف يا صديقي إنني لا أكره إلا الكذاب و الكاذبين .. و هذا الرجل مازال يكذب .. و مصمم على الكذب .
ثم وجه حديثه إلى المعلم قائلا :
رصاصة واحدة لك ..
ثم نظر إلى زوجة المعلم المرعوبة و قال :
لا تخافي يا مدام ، أنا لا أقتل الحريم .. رصاصة واحدة تقتلك ، ردا على محاولة قتلي .
نظر المعلم إلى المسدس فوجده في وضع الإطلاق .. قال المعلم وهو يحاول أن يكون هادئا :
و من قال لك إنني أريد أن أقتلك ؟
نظر إليه حسين و قد بدأ الغضب يحل على وجهه :
سوف تعرف حالا ، حينما تأتي معي ..
قال له المعلم وقد عاوده الاطمئنان :
و لكن كيف ستخرج من الفيلا ، و الحراس يقفون في كل مكان ؟
قال حسين له وهو هادئ :
سوف تساعدني في ذلك يا معلم . فأنا أعرف رجالك متوحشين ، مثلهم مثل الذئاب المتعطشة الجائعة للقتل حول السور . سوف تساعدني يا حاج ، و إلا أنت تعرف ماذا يحدث لك و لرجالك أيضا ، لقد زرعت الفيلا بالمتفجرات .. ومادمت قد مت من قبل .. فلا فرق من أن نموت جميعا .. أنا وفؤاد ، أنت وزوجتك و أولادك .. حراسك ، و أيضا الفيلا .
ضحك حسين وفؤاد حينما رأيا الرعب يرتسم أخيرا على وجه المعلم الجارحي ، وزوجته التي بدأت في البكاء الصامت .
لبس المعلم جلبابه .. ووضع حسين مسدسه في رأسه .. و أعطى فؤاد مسدس آخر .. ثم وجه حديثه إلى زوجة المعلم :
أي صرخة : معناها الموت ، أنا لا أعرف الهزار الآن .
و خرج و معه المعلم وهو واضعا المسدس في رأسه ، وطلب منه أن يأمر رجاله بأن يلقوا أسلحتهم ، و أن يأخذ أحد الرجال هذه الأسلحة إلى السيارة الجيب الخاصة بالمعلم ..
نفذ الرجال ما أمرهم به معلمهم .. و تقدم الحاج ووراءه حسين و فؤاد .. حسين واضعا مسدس المعلم في رأسه ، وفؤاد ساندا ظهره إلى ظهر حسين ، و ركبوا السيارة .. قال لهم حسين :
أن الفيلا بها ديناميت في كل مكان ، و أنه سوف يفجرها ، بجهاز التحكم عن بعد إذا أتبعه أحدهم .
طلب منهم حسين أن يفرغوا إطارات السيارات الموجودة داخل الفيلا حتى لا يتبعه أحد منهم .
انطلق حسين بسيارة المعلم الجارحي و معه رهينته وقد عصب عينيه.. و سار مسافة ليست بالبعيدة عن المكان، و أنزل المعلم ، ليركبا سيارة أخرى كانت في انتظارهم ، و أنطلقت السيارة إلى أن وصل إلى المخزن الذي وضع فيه صبيانه الذين كانوا يريدون قتله منذ أيام قليلة ، و رآهم معلقين من أرجلهم كالبهائم التي في المسلخ ، و علامات الرعب قد أخذت منهم كل مأخذ ، فأصفر وجههم ..
ركب حسين سيارته و انطلق إلى خارج الإسكندرية ، في أول الطريق المؤدي إلى الصحراء .
و أنزله قائلا له :
سترجع إلى البيت ، و انتظر أمام التليفون .. سوف اتصل بك .
تركه و انصرف ، و هو بملابسه الداخلية ، فقد أمره أن يخلع جلبابه و يبقى يملابسه الداخلية ،
ظل الجارحي سائرا على قدميه يجرها جرا ، كانت الشمس الساطعة بلهيبها تشوي وجه المعلم الجارحي ، و عانى كما عانى حسين من قبل أثناء المطاردة ، كان المعلم الجارحي يشعر أن هناك من يطارده ، فقد جلس لالتقاط أنفاسه ، فسمع بعض طلقات النار ، فهب واقفا ، و أخذ يجري مترنحا يكاد أن يسقط ، و أعياه التعب ، وجف ريقه .. و أخيرا و صل إلى الطريق الرئيسي حتى السيارات ، أشار إلى سيارة أجرة .. رغم أن السائق نظر إليه مستغربا ، إلا أنه أخذه معه ، وزيادة في الحيطة منه ، فتشه ، و أجلسه بجانبه .
بعد وصوله ، أخذ دشا من الماء البارد حتى يفيق ، و في انتظاره للمكالمة ، كانت الأخبار تأتيه بأن بعض رجاله قد اختفوا ، و لا يوجد لهم أثر في أي مكان .. هنا أدرك أن حسين يستطيع أن يفعل ما يشاء و قتما يشاء .
جلس بجوار الهاتف بين اليقظة و النوم يشعر بالقلق في انتظار تلك المكالمة اللعينة ، و قد شعر أن رجاله لا حول لهم و لا قوة بعد أن جردوا من أسلحتهم . و خصوصا أنه شعر أنه مراقب و لا وقت لديه إعطائهم أسلحة جديدة بدلا من الأسلحة التي فقدوها .
طلب من زوجته أن تعد له قهوة ، و ألا يدخل عليه أحدا .
قالت له و الحزن بادي على وجهها الشاحب :
سأعد لك الفطار لأنك لم تأكل .. و ..
قاطعهما احد الحراس وهو مبهوت :جميع الكلاب التي حول السور قد وجدت ميتة ، ويبدو أن من كان معك في الصباح قد سممها .
شعر المعلم الجارحي باليأس ، و أنه قد وقع في مصيدة لا فكاك له منها ، فهذا الفتى حسين الذي يلقبونه بالثعلب قد أحكم الحصار حوله ، وجعله لا يشعر بالراحة و الأمن حتى في داخل بيته ، بل هو لا يستطيع التفكير في الخطوة المقبلة التي سوف يواجهها أمام هذا الثعلب المراوغ .. فلا هو يستطيع أن يريح جسده من عناء المطاردة التي عانى منها ، و لا هو يشعر بالأمان ، وزد على ذلك انتظاره في قلق مكالمة لا يعرف موعدها ، وما هو المطلوب منه .
أمر زوحته أن تنزل إلى الحديقة لتشاهد تلك المأساة التي يعيشها
حاولت جاهدة أن تراوغ و لا تنزل ، و لكنه في عصبيىة نهرها بصوته العالي .. فأسرعت بالنزول و هي بجلباب البيت ،
حينما نزلت وجدت منظرا لم تتهود أن تراه ، الكلاب الميتة متناثرة في كل مكان في حديقة الفيلا .
أخذت تبكي بحرقة ، و لكن قالت لنفسها :
ما فائدة البكاء ؟ ، لقد حث ما حدث .
اجتماع الكبار
رن الهاتف في فيلا المعلم الجارحي .. فأسرع برفع سماعة الهاتف ، فقد كان في انتظار المكالمة التي وعده بها حسين .. و لكن المتصل لم يكن حسين ، و إنما كان الحاج عطيه ، الذي طلب منه أن يترك كل شيء في يده ، و يسرع إليه لأمر هام جدا ، و في المكان الذي تعودوا أن يعقدوا فيه اجتماعهم ..
حاول المعلم الجارحي أن يعتذر ، و لكن الحاج أصر على طلبه ، وقال له : خلال ربع ساعة تكون عندي ..
لم يمض الوقت المحدد إلا و كان المعلم في فيلا الياسمين حيث استدعاه الحاج ..
كان هناك ممرا سريا حينما يجتازه المعلم يكون في السرداب السري الذي يجتمع فيه المعلم بكل من يريد من أصحابه تجار الممنوعات .
و أسرع المعلم الخطوات إلى المكتب ، وما كاد أن يفتح الباب حتى وجد أمامه الحاج عطية .. و حسين .. و المعلم البرعي .. و المعلم وهدان .. تسمر في مكانه قليلا ، ثم دخل ، بعد أن ألقى السلام عليهم جميعا .
و بدأ ذهنه في التفكير سريعا .. ما الذي يدور في هذا المكان .. هل من الممكن أن يكون الجميع قد اتفقوا عليه .. و كيف يكون ذلك ، وقد كانت كل الترتيبات لاغتيال حسين تحت سمع و بصر كل من المعلمين البرعي ووهدان .. سأنتظر قليلا حتى يتضح الموقف ، وأرى حتى لا يكون التسرع سببا في الفرقة و الخصام ، بل الحرب بيننا .
قطع الحاج عطية تفكير الجميع من هذا الاجتماع ، و هم يعرفون جيدا أن الحاج يتصف بالحكمة و الذكاء ، و قدرته على إقناع من أمامه بما يريد .. و أن هذه الجلسة قد تكون هدفها المصالحة ، و ترتيب الأعمال فيما بينهم .. و لكنهم كانوا بإحساسهم يعرفون أن عقوبة ما سوف تقع على أحد منهم ، و لهذا ظلوا شاخصين بأبصارهم إلى الحاج منتظرين ما يقول .
قال الحاج عطية بصوت بطيء خافت من أثر المرض الذي يعاني منه ، و من أجل الحزن الذي انتابه في الأيام الماضية على هذا الاجتماع :
ما يحدث الآن بينكم يدل على عدم الحرص ، و إنكم سوف تكونون صيدا سهلا لمباحث المخدرات .. محاولة قتل .. رفع الأسعار بطريقة جنونية ، مؤامرات فيما بينكم من أجل ماذا .. ما هذا الغباء .. منذ متى و نحن ندير أعمالنا بهذه الطريقة .
صمت قليلا :
لقد عرفتكم جميعا خلال رحلة لبنان بكل التجار الذين أتعامل معهم ، حتى تقوموا بأنفسكم ، أو تحددوا واحد منكم ليقوم بتلك المهمة .
حاول المعلم البرعي أن يتحدث .. و لكن الحاج أشار إليه أن يصمت حتى ينهي حديثه ..
و استطرد قائلا وهو يتنهد :
أنتم تعرفون أن حسين له معزة كبيرة عندي ، ليس لأنه زوج ابنتي ، و لكن لأنه هو المنفذ الرئيسي لكل العمليات السابقة التي تربحون منها .. و كانت تتم بنجاح و سرية شديدة .. قال لي :
إن المباحث تنكش وراء الجميع ، و أنها أعدت خطط للإيقاع بالجميع في أسرع وقت .. و بالفعل قد ألقت القبض على اثنين من صبيان المعلم الجارحي .. و أنهم صامدين إلى الآن لأنهم لا يعرفون من يمولهم بالأقراص .. و هم صادقان .. و لكن المباحث الآن تراقب بيوتهم مراقبة دقيقة محكمة ، و تراقب أصدقاءهم .. بل تراقب زبائنهم مراقبة لاصقة . أ ليس ذلك صحيح يا معلم ؟
و اتجه ببصره تجاه المعلم الجارحي ، و في عينيه وميض من الغضب .
صمت الحاج قليلا ، و بدا يشرح للجميع كيف أن حسين قد لمح ما لم تلمحوه .. و أنه بحذره ، و ما تعرض له من مواقف .. قرر أن يوقف النشاط قليلا .. حتى تهدأ العيون ، وتقل المراقبة على رجالكم .. لقد تعرض أكثر من مرة للتفتيش في الميناء ، يبدو أن أحد منكم يبلغ عنا ، لا يهم ذلك الآن ، قلت لكم منذ قليل أنكم تعرفون كل التجار الذين نتعامل معهم ، فمن يريد أن يجازف و يعرض نفسه ، و يعرضنا للخطر فيلفعل
قال المعلم وهدان :
و لكنه لم يقل لنا ذلك ، ولم ينبهنا ... و ظننا كما أشيع بين الجميع أن حسين عازم على التوقف عن النشاط نهائيا .
و قال المعلم البرعي :
بل إنه تخلص من البضاعة كلها ، و باعها على جميع التجار في السوق دون أخذ رأينا .
و أرتفع صوت الحاج غاضبا :
وهل يعني هذا أن تتفقوا على قتله ؟
و ساد الصمت الجميع ، و شحبت الوجوه ، و أصفرت من هول المفاجأة التي ألقاها الحاج كالقنبلة في وجوه الحاضرين .
و استطرد الحاج كلامه بهدوء :
قبل أن أصدر حكمي عليكم .. أحب أو أوضح بعض ما جرى منذ أن تحدثت الإسكندرية كلها عن مقتل حسين .. لقد جاء إلى هنا رجال المباحث للسؤال عن كيفية مقتل حسين .. و لكني أنكرت أنه قتل ، و أنه قد سافر في أنحاء البلاد لعقد الصفقات للبضاعة التي أستوردها .. الثلاجات و التليفزيونات و الغسالات .. جميع الأجهزة الكهربائية .. و عندما جاء حسين كانت المباحث في انتظاره ، و أخذته قبل أن يصل إلي بيتي ، وقد أجرت معه تحقيق ، و قال ما قلته بالحرف الواحد .. بل و أعطى للمباحث أسماء كل من زارهم من التجار و أماكنهم و أرقام هواتفهم .. و ذهبوا إلى المخازن و فتشوا تفتيشا دقيقا لعلهم يجدوا شيئا .. بل لم يكتفوا بذلك .. فقد احضروا الكلاب البوليسية المدربة للشم .. و لم يخرجوا بشيء من المخازن .. و سألوا التجار في جميع المحافظات ، فأيدوا أقوالي و أقوال حسين .. و قالوا أن الحاج بعث مندوبه حسين ليتمم هذه الصفقات .
*******
نظر الحاج إلى الجميع ، و مد يده إلى كوب الماء ليشرب منه ، وطلب الشاي من سائقه الخصوصي الذي كان يقف وراءه في كل وقت ، شاهرا مسدسه ، مستعدا لأي احتمال .
الصمت يغلف المكان بردائه .. و الوقت يمر بطيئا على الجميع ، إنهم يعرفون أن الحاج لن يقف ساكنا ، و أنه سوف يحكم عليهم حكما قاسيا لا يرد مهما أكثروا من اعتراضاتهم ، و لهذا ظلوا ساهمين لا ينطقون ببنت شفة ، ناظرين إلى الحاج تارة ، و إلى حسين تارة أخرى ، و إلى أنفسهم تارة ثالثة .. و تمنوا أن يمر الوقت و يعلن الحاج عن ذلك الحكم الذي سيصدره ، وهم واثقون أنهم سوف ينفذون ذلك الحكم ، ولن يستطيعوا له نقضا . فكلمة الحاج كما يعرفون واحدة ، لا ترد مهما كان الأمر ، فهو الكبير ، و من يعصي أمره فإنه لا محالة لا وجود له في هذه الدنيا ، و لن يعثر أحدا على جثته أبدا ، فسائقه الخصوصي يتحرك تلقائيا بإشارة من الحاج ، بلمحة نظر ، بهزة رأسه ، و لا يتواني أبدا عند تنفيذ ما يأمر به .
جاء الشاي و أرتشفه الجميع في تأن فكل ما مضى كان تمهيدا ، و أن ما يأتي هو الأهم في نظرهم .. و عليهم جميعا أن يستوعبوه ، ثم ينفذوه بكل دقة .. و إلا فإنها النهاية لهم ، و بعدها قد يكونوا أمام خيارين لا ثالث لهما ؛ إما القتل . أو مغادرة الإسكندرية بغير رجعة .. و كلا الأمرين وارد .
قال الحاج ، وقد شعر بالراحة ، و ذهب عنه الانفعال :
هناك ثلاث أحكام سوف أصدرها لكم جميعا .. أولها وقف النشاط وقفا نهائيا حتى تهدأ العيون التي تتربص بكم ، و سوف نعود إلى النشاط في الوقت المناسب ..و أظن أن هناك أعمال أخرى لدي الجميع ، و تجارة نعمل بها جميعا ، وهي أيضا تدر علينا ربحا مقبولا ..
ثانيا : أن يدفع كل منكم لحسين خمسة ملايين جنيه تعويضا عما حدث له .. و مصالحة له .
ثالثا : إذا لم يكن بد من ممارسة نشاطكم هذا ، فتستطيعون أن تتفقوا سويا ، وقد عرفتكم على التجار في الخارج ، و مستعد أن أكلمهم وسوف يعيطونكم ما تريدون ، و أنا ضامن لكم .. على أن نأخذ منكم نسبة عن كل صفقة تتم . و لكن الأهم كيف ستدخل البضاعة إلى البلد .
سوف تسير الأمور على ما هي عليه ، وسوف أطمئن الجميع في الخارج على أن كل شيء سيعود إلى طبيعته ، بمجرد أن تهدأ الأمور في المنطقة ، و تخف المراقبة اللصيقة عنا ، و يبتعد الخطر ، فترة من الزمن قد تمتد شهرا أو شهرين أو أكثر ، و كل ما أرجوه منكم هو الحذر الشديد ، إنهم يعرفونكم جيدا ، وهناك ملفات لكم عندهم ، و لكن لا دليل ملموس لديهم للقبض عليكم ، مارسوا أعمالكم الطبيعية في التجارة ، حتى لا يشك فيكم أحد ، وحتى تهدأ العيون التي عليكم ، طمئنوا رجالكم أن من يقبض عليه ، سوف نقوم برعايته و أسرته رعاية كاملة ، و إن أي اعتراف معناه الموت له داخل محبسه ، و تشريد أسرته أو قتلهم جميعا .
كان الحكم قاسيا بمعنى الكلمة ..و لكنه سوف ينفذ طالما أن الحاج هو الرأس الكبيرة لهذه الشبكة .
قال الحاج موجها كلامه للمعلم الجارحي :
أما أنت ، وقد تبرعت بتنفيذ ما اتفقتم عليه أنتم الثلاثة ، وتسرعت دون استشارتي و الحديث معي .. فلك حكم آخر ..
سكت الحاج ، وهو يبتسم ، لقد لمح الرعب في عيني المعلم الجارحي رعب من أن يكون الحكم قاسيا ..
و قد سمع صوت المعلم الجارحي يقول بصوت ضعيف ذليل من أثر الخوف :
أنا تحت أمرك يا حاج .
قال الحاج : سوف تقوم بتقبيل رأس حسين ، والسلام عليه.. و تتعهد له ألا تتعرض له مرة أخرى .. و أن تكون تحت رأيه .. و ستدفع له خمسة ملايين أخرى .. عقابا على تسرعك .
شعر المعلم الجارحي يالإهانة الشديدة من هذا الحكم ، وهو يقبل رأس حسين ، و لكنه يعرف أن عدم إطاعة أمر الحاج معناها أن تكون حياته هي الثمن ، و في نفس المكان الذي يجلس فيه ، و إن أحدا لن يدري بعد ذلك أين هو إلى أبد الآبدين ، و لهذا كظمها في نفسه .. سيعود إلى نفسه و يفكر تفكيرا جديا إما في الانتقام و إما في الرحيل .
ثم عاد الحاج إلى الحديث إلى الجميع :
أنا أعرف كل شيء ، وكل شيء يصلني في الوقت المناسب . كل ما أرجوه في الفترة القادمة هو أن نتفق ، وقبل أن يعمل أي منكم أي عمل عليه بمراجعة حسين .
ثم توجه بالحديث إلى حسين :
أما أنت فأطلق سراح رجال المعلم الجارحي ، و أعطهم الأمان ، يكفي أنهم عرفوا أنك تستطيع أن تصل إلى أي إنسان في أي لحظة تريد .. و هددهم بأنهم لو فعلوا ذلك مرة أخرى فمصيرهم معروف ، القتل .
انتهى الاجتماع بهذه القرارات القاسية ، ففي عالم الممنوعات الرأس الكبير هو المتصرف في حياة الجميع ، و في سبيل المحافظة على النظام يستطيع أن يقتل و لاشيء غير القتل أمامه ، و الذي أحزن البعض هو أن يكون حسين هو اليد الطولى التي ينفذ بها الحاج تهديده ، وهم فيهم الكبير ، بل كلهم يعتبرون من كبار تجار السوق .
انصرف الجميع ، و انفعالات شتى متباينة على وجوههم .. على وجوه البعض ابتسامة باهتة ، تخفي ما تضمر من أحاسيس .. و البعض الآخر حزينا كئيبا كاظما غيظه .
و خرج الحاج متكئا على يد حسين إلى الحديقة كما طلب منه ليستنشق بعض الهواء ، وجلسا أمام المسبح ، و لكن بعض النسمات الباردة التي هبت ، جعلت الحاج يسعل بشدة ، فأخذه حسين إلى حجرته ، و استدع الطبيب . فلم تكن زوجته الدكتورة نادية موجودة في البيت ، كانت في عيادتها .
جاء الدكتور سريعا ، و كشف على الحاج ثم قال :
سأعطيه حقنة مهدئة ، و أطلب منه الراحة التامة لمدة أسبوع .
هبط حسين و الدكتور و تركا صفاء بجوار الحاج .
قال الدكتور لحسين :
هذه المرة أشد من المرة الأولى يبدو أنه متوترا ، أين الدكتورة .
قال حسين :
لم نخبرها بعد ، فأنت تعرف أنها تحب أباها أكثر من حبها لنفسها .. سوف أخبرها الان .
قال الدكتور :
لا دعوه الآن ينام ، حتى يهدأ ، و حينما تعود اخبرها ، و قل لصفاء ألا تخبرها بما سمعت .
انصرف الطبيب بعد أن أوصله حسين إلى باب الفيلا ، و دخل ، وطلب من صفاء كوبا كبيرا من القهوة .
أجلسها أمامه و أخذ يحدثها عما تقوله لنادية .
ثمن الانشقاق
أثناء خروج المعلمين الثلاث ، كان المعلم الجارحي أشد المتضررين من أحكام الرأس الكبير الحاج عطيه .. حاول أن ينفث عن غضبه ، وعن جرح كبريائه أمام الجميع ..
قال و كأنه يحدث نفسه بصوت مسموع :
المعلم الكبير يبدو أنه كبر جدا و بدأ في التخريف ، أحكام آه ، ولكن أن يحل مكانه ولد صغير لأنه جوز بنته .. ده كلام فارغ ، و لا يمكن أن يكون أبدا .
ورغم أن صوت الجارحي كان واضحا إلا أن كل منهما لم ينطق ببنت شفة ، فهم يعرفون عصبية الجارحي قد تقودهم إلى الهلاك هذا المرة ، فيكفي ما أصابهما من غرامة مالية كبيرة قد تؤثر على أعمالهم فيما بعد .
وأيقن الجارحي ألا فائدة من البرعي ووهدان ، و يعرف الآن جيدا أنهما لن ينصاعا لأوامره و مخططاته ، و أيقن أن الحاج عطية قد استطاع أن يفرق بينهم ، و إن عليه من الآن فصاعدا أن يفكر لوحده ، و ألا يحسب للبرعي ووهدان أي حساب ، و ألا يضع لهما في تفكيره إي موضع .
لقد استطاع الحاج من خلال تهديداته ، أن يزرع الفرقة بين الثلاثة ، و هو يعرف جيدا أن سياسة الحاج هي " فرق تسد " و بهذا يستطيع أن يسيطر على رجاله .
وافترق الثلاثة في السرداب المار تحت الأرض الموصل إلى بيوتهم ، وقد ساد الصمت بينهم .. حتى أنهم حين افترقوا لم يشاء أحد منهم أن يلقي السلام على زميليه .
جلس الجارحي على كرسيه الهزاز يفكر تفكيرا عميقا في الأحداث التي مرت به ، وقد جفاه النوم ، و رغم تلك الأصوات المزعجة التي تصدر عن زوجته أثناء نومها ، إلا أنه كان في عالم آخر غير هذا العالم الذي حوله ، كان يحاول الخروج من هذه الورطة التي لا حل لها .
استيقظت زوجته من نومها في الصباح ، فوجدت زوجها نائما على الكرسي الهزاز ، حاولت إيقاظه من رقدته هذه ، طالبة منه أن يذهب إلى السرير .. و لكنه لم ينتبه لها ، و لم يعرها انتباها ، فتركته فهي تعرف جيدا أن زوجها متى جلس على هذا الكرسي ، فهناك مشكلة عويصة تحتاج منه إلى تفكير عميق ، و خرجت من الغرفة لقضاء شئونها .
انتصف النهار و لما يستيقظ الجارحي ، و دخلت زوجته إلى غرفة النوم أكثر من مرة ، لعله يستيقظ ، و يذهب كما يذهب كل يوم إلى قضاء أعماله .
حينما استيقظ الجارحي ، وجد زوجته في الصالة الكبيرة ، وقد جلست تشاهد أحد الحلقات الأجنبية ،ابتسم لها ابتسامته الباهتة المعتادة ، و جلس إلى جوارها ، كان يريد أن يتحدث معها ، و لكنه لم يفعل .
جاءت الخادمة بكوب الحليب المعتاد ، وبجانبه بعض الفطائر البسيطة .. فطلب منها الحاج أن تأتي له بكوب كبير من القهوة السادة .. نظرت إليه الخادمة و الزوجة في نفس الوقت باستغراب شديد .. فهو لم يعتاد أن يشرب القهوة حينما يستيقظ ، أردت الخادمة الخروج و معها كوب اللبن فأمرها أن تتركه ، و تذهب لتحضر القهوة .
قالت له زوجته بود :
هل أستطيع مساعدتك .
قال لها و علامات الغضب تعلو وجهه :
الآن لا .
تمتمت زوجته ببعض كلمات بينها و بين نفسها ، و لكن بصوت واضح مسموع :
. الغضب يعمي الإنسان فلا يستطيعه أن يفكر .. لكي تفكر تفكير سليم يجب أن تتخلص من الغضب أولا .. أن تهدأ أعصابك .. أن تترك توترك هذا بعيدا .. لعل وعسى .
كانت زوجته قد نالت قسطا من التعليم في بيت والدها ، و كانت مدللة في بيتها ، متى تطلب ينفذ أمرها ، و إلا الويل كل الويل لمن لا ينفذ إرادتها .
فجأة و بدون سابق إنذار قال لها والدها :
إنه سوف تتزوج من أحد المعلمين الكبار ، حاولت الاعتراض ، و لكن والدها قال لها :
إن هذا أمر غير قابل للمناقشة ، و إن الرجل سوف يسعدها بما يملك من ثروة طائلة ، و إنها إذا كانت تفكر في الحب فإن الحب سوف يأتي مع الأيام ، و مع التعود عليه .. المهم ثروته .
و تزوجت المعلم الجارحي خلال فترة قصيرة ، و ذهبت إلى فيلته .. و رغم إنها لم تحب المعلم الجارحي ، و لن تحبه أبدا مهما حدث ، كانت زوجة فقط ، و لعل المعلم الجارحي شعر بذلك أيضا ، فأثر أن يهتم بعمله ، و ترك لها الحرية أن تفعل ما تشاء ،
كانت هواياتها الذهاب إلى النادي ، أو مشاهدة التلفاز وخصوصا الأفلام الأجنبية ، أو التسوق وشراء أفخر الملابس .
و رغم إنها قد خلفت ابن و ابنة .. و مرت السنون إلا أنها مازالت على عاداتها .
و ساد الهدوء مرة أخرى الغرفة إلا من صوت التلفاز .. و دخلت الخادمة إلى الغرفة تحمل كوب القهوة الكبير ، وهي تنظر بدهشة إلى سيدها الساهم السارح في عالم آخر ، و لم تراه من قبل – في البيت في هذا الوقت من النهار- في هذا المزاج .
شرب المعلم الجارحي قهوته ، و أغلق التلفاز، ثم بدأ الحديث مع زوجته طالبا منها ألا تقاطعه ، و ألا تتحدث إلا بعد أن ينهي كلامه لها . قال لها :
إنه يريد أن ينهي أعماله في الإسكندرية ، و أن يتجه إلى مكان آخر ، بعيدا عن هنا .
نظرت إليه بدهشة و استغراب ، و قد اعتدلت في جلستها ، فالأمر جد خطير ، و قالت له :
هل تتعلق المسألة بحسين الذي جاء إليك هنا بعد منتصف الليل .
قال لها :
المشكلة أكبر من حسين .. الحاج عطية يريد أن يرتاح فقد كبر ، ويريد أن يسلم كل شيء لحسين ، هذا الولد الذي لا يفهم أي شيء يريده أن يكون المعلم الكبير ، و حسين يحاربنا في أرزقنا ، فهو يريد أن ينهي تجارتنا ، و يريد أن يسيطر على السوق من خلال أعماله المتشعبة في الأجهزة الكهربائية ، في الملابس الجاهزة ، في السيارات ، و الحاج يبدو أنه موافق على ذلك ، يعني سوف يرمي لنا العظم فقط .
قالت له :
كما ترى ، و خصوصا بعد محاولتك قتل حسين ، ولكن يجب أن تحسبها جيدا ، فأظن أن الحاج عطية لن يفرط فيك بسهولة ، فأنت تعرف الكثير عنه .
سأذهب إلى المحامي و أتشاور معه .
قالت له :
قبل أن تذهب إلى المحامي يجب أن تجد البديل المناسب للسكن ، و مدارس الولد و البنت . أما العمل فهناك المزرعة الكبيرة التي أنشأتها باسمي ، من الممكن أن تتوسع فيها ، و أن تنقل تجارتك إلى أقرب مدينة من المزرعة .
قال لها :
معك حق ، سوف أذهب للقاهرة لبضعة أيام أدبر فيها حياتكم الجديدة .. سكن ، مدارس .. مزرعة ، اتفاق مع آخرين لنبدأ حياة جديدة في مكان جديد بعيدا عن الحاج و صبيه حسين ، و أعود لكي أتشاور مع المحامي ، فأنا أعرف الحاج ، إنني لن أبيع إلا له كل ما أملك .
لقد صمم الحاج هذه الفيلات المتجاورة بواسطة مكتبه الهندسي لتكون له مقره الرئيسي هو و مساعديه ، و جعل من السرداب قطعة واحدة لتكون مقرا لاجتماعاته مع معاونيه بعيدا عن أعين الرقباء ، و لم يجعل السرداب مخزنا للبضاعة ، حتى إذا ما وقع المحظور لا يجدوا شيئا فيه يثبت عليهم التهمة .
كان في السرادب الممتد تحت الفيلات حمام سباحة ، وبعض الحجرات المؤثثة إما للنوم ، و إما للجلوس . و كان الأساس فيها بسيطا غاية البساطة . وفي نهاية السرداب كان هناك باب بجوار كل فيلا يضع فيها أصحابها سيارتهم .
و الفيلات ظلت باسمه تحسبا لأي موقف من المواقف الصعبة التي قد يتعرض لها معاونيه ، و فضل أن يؤجرها لهم إيجارا سنويا .
كانت هواية زوجته أن تجلس أمام حمام السباحة مع زوجني المعلم البرعي و المعلم وهدان يثرثرن بكلام في الهواء ، و تترك الولد و البنت يسبحان في حمام السباحة ، و في أغلب الأحيان حيمنا تتطمئن أن لا أحد سوف يدخل عليهم ، كانت تخلع ملابسها ، و تبقى بالمايوه و تقفز إلى الماء لتسبح مع ولديها .
********
و ها هي بعد أن غادر زوجها الفيلا ، تذهب إلى حمام السباحة و تحلس أمأم المسبح ، و قد أمرت خادمتها أن تضع أمام كل باب ما يسده، و خلعت ملابسها ، و لم تبقى إلا بملابسها الداخلية ، و نزلت إلى الماء شبه البارد ، وفردت جسدها دون أن تتحرك ، و كأنها تفكر في حل لهذه المشكلة العويصة التي تواجه زوجها ، و تهدد استقرار حياتها الأسرية .
جلس المعلم وهدان أيضا في فيلته ، و قد فر النوم من عينيه ، فهو يعرف أن الائتلاف السائد بينه و بين المعلم البرعي والمعلم الجارحي قد انتهى إلى غير رجعة ، و أن السحب التي تتجمع في الأفق تنذر بهطول أمطار غزيرة ، بل سيول قد تجرف الأرض من تحت أقدامهم المهزوزة .. و أنه لن يستطيع لها الثبات ، و أن تلك المكاسب الهائلة قد ولى زمانها ، و أنه من الآن فصاعدا لن ينال إلا الفتات ، و أن هذا الفتات لا يجعله يعيش الحياة التي يحياها هو وزوجته و أولاده .
هل سيكتفي ببيع الأجهزة الكهربائية ، أو إدارة محلاته .. إن ذلك بالكاد يأتي بأجور العاملين معه ، بل لا يكاد يكفي ، هل يعطي عماله إجازة مفتوحة للأبد و مكافآت ، و لا يبقي إلا على أقل القليل ، وما ذنب هؤلاء الذين تعودوا المكسب العالي ، و ما قد يفعلوه به بعد ذلك .
ورغم استغراقه في النوم من شدة التفكير ، ومن التعب الذي حل به ،إلا أنه لم يهتد إلى فكرة تنقذه من هذه الورطة .. و هو ليس كغيره ، فزوجته لا تجيد شيئا إلا الرغي في لا شيء ، و تمضية الوقت مع أمثالها من النساء في النادي .. و هي أيضا لا تجيد إلا البحث عن التحف النادرة ، و الملابس الغالية ، و الحفلات الصاخبة التي تقيمها بمناسبة و بدون مناسبة .
و هو يعرف رأيها مقدما ، فهو الرجل الذي يجب أن يكفي بيته من كل شيء ، و إلا فهي ذاهبة إلى بيت أبيها .. بيت العز .
يعرف كيف اختارها زوجة له ، فهى ابنة باشا سابقا .. حينما سحبت منه الحكومة كل ما يملك اتجه إلى شرب الخمر و الحشيش ، ثم حينما بدأ يفلس أخذ بشرب البرشام الذي كان يخصصه له المعلم وهدان ، و حينما بدأ الديون تتراكم عليه ، و حينما طالبه بسداده ديوانه ، و إلا فإنه لن يعطيه شيئا مما تعود عليه ، بل منع عنه ما كان يعطيه ، و لهذا عاد أبوها إليه ، و لما لم يجد مفرا من أن يعطيه ما يطلب عرض عليه أن يتزوج ابنته ، فهي جميلة جدا ، و فوق ذلك فهى قد تربت تربية جيدة .
ووافقت الابنة فقد كانت تعرف حالة والدها ، و تعرف أن الديون قد بدأت تحاصره ، و لكي تنقذه من ذلك فلابد لها بالتضحية بنفسها من أجل أبيها . و أن تتزوج هذا الجلف فقد مضى بها قطار الزواج منذ زمن ، و هو الوحيد الذي يستطيع أن تعيش حياتها كما كانت تعيش في بيت أبيها بيت العز .
استيقظ من نومه ، فلم يجد زوجته في البيت ، و لم يجد إلا الخادمة العجوز التي تقوم على خدمتهم ، و هي في أغلب الأحيان في المطبخ مع الطباخ ، أو في حجرة نومها تعاني المرض ..
ذهب إلى المطبخ ، فوجد الطباخ يعد الغداء ، طلب منه أن يعمل له كوبا من القهوة ، و ظل واقفا حتى يأخذه معه ، رغم إلحاح الطباخ على أن يذهب وسيأتيه به .
شرب قهوته ، و أجرى العديد من المكالمات ، و كأنه كان يريد أن يضيع الوقت ، و أن يبعد عن دماغه التفكير غير المجدي الذي يسبب له الصداع في العادة .
قال لنفسه :
حتما سأجد الحل المناسب لهذه الورطة التي سببها لنا المعلم الجارحي ، و ارتدى ملابسه و خرج .
كان يعرف أن زوجته لن تبعد عن بيت أبيها ، رغم وفاته ، فقد احتفظت بالفيلا التي اشترها لها المعلم ، كجزء من المهر ، و أظن أنها الآن قد غادرت الفيلا إلى فيلاتها ، بعد أن عرفت بالخبر من زوجة المعلم الجارحي .
أما المعلم البرعي فلم يكن في حاجة إلى التفكير ، فهو يعرف أنه لن يترك الحاج مهما حدث ، و لن يستطيع أن يتركه أبدا ، فهو الذي رباه منذ صغره ، و احتضنه و كبره ، و جعل منه هذا المعلم الكبير الذي يحترمه كل من في السوق، و مهما يقول له الحاج فهو فاعل ما يأمره به .
و لم يكن المعلم البرعي يعاني من أي مشكلة ، فزوجته تلك الفلاحة الجاهلة ، لا تعرف في الدنيا إلا الأكل ، و الأولاد ، و هي تقوم بهذه المهمة على أكمل وجه ، تأخذ الكثير منه ، كما تأخذ القليل ، سيان ، و هو يعرف أنها لا تصرف كل ما يعطيها من مال ، و يعرف أيضا أنها تدخر ما تبقى معها من مصروف البيت ، فقد فاجأها أكثر من مرة ، وهي تضع ما يزيد عن حاجتها في الحجرة الخاصة بهما ، و التي لا يدخلها غيرهما ، حتى أنه أحضر لها خادمة اتساعدها في تنظيف الفيلا و أعمال البيت ، و لهذا فقد اشترى لها خزانة خاصة بها حتى لا يتعدى أحد على ما تكنز من مال .
كانت وجهة نظرها – التي تعودتها في قريتها ، و بين أهلها – أن القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود ، و أن ما تدخره الآن سوف يعود عليهم جميعا بالنفع ، و رغم ذلك فلم تقصر في حق بيتها ، و في حق زوجها ، و في حق أولادها .
أما أولاده فقد كانت تعودهم على الحياة البسيطة ، رغم أن بنتها و ابنها كانا في مدرسة أجنبية ، فقد كانت تعتني بمظهرهما من خلال الخادمة المودرن التي تقوم على تعليمهم .
المشكلة أن يعود الصفاء كما كان بينه و بين الحاج عطية الدش ، وبينه و بين حسين ، إنه يملك الكثير ، و لا يهمه أن يكنز ما لا يستطيع .
و لهذا فقد ذهب إلى الحاج في اليوم التالي ، طلب منه السماح، و ابتسم الحاج ، و قال له :
ماذا قررت أن تفعل
قال ببساطة :
سأكتفي ببيع الأجهزة الكهربائية و إدارة شئون كل المحلات ، و إن شاء الله ، سوف أذهب إلى البنك و اسحب الفلوس و أعطيها لحسين
قال له الحاج بصوت هامس :
لا ، لا تذهب إلى البنك ، و لا تترك الفيلا ، أنا أعرف إنك من رجالي المخلصين ، و أن سبب هذه ألأزمة هو المعلم الجارحي و طمعه
صمت قليلا ، ثم قال :
و أنا عاتب عليك ، كان المفروض أن تخبرني
و هكذا دبر كل واحد منهم حاله تدبيرا حسب ما يعن له ، وقراءته للمستقبل القريب أو البعيد .
الفراق
عاد المعلم الجارحي من سفرته التي امتدت أكثر من شهر .. ليخبر زوجته وهو يبتسم ابتسامة صفراء :
أن الوضع أصبح كما يريدان ، و إنه ذاهب إلى المحامي ليعرض عليه بيع جميع ممتلكاته ..
قالت له زوجته في حزن بالغ :
قبل أن تذهب إلى المحامي ، يجب أن نرحل نحن أولا ، و معنا كل شيء ، دعك أنت من هذا .. سوف أسافر معك للسكن الجديد ، وسوف أخذ ما يمكني حمله ، وأعود لأفعل ذلك مرة أو مرتين ، حتى لا يتبقى لنا في النهاية إلا القليل .
قال لها دون تفكير :
من الممكن أن أستأجر من أحد المكاتب من يقوم بذلك مرة واحدة
قالت له و كأنها تنبه :
دع ذلك في نهاية الأمر ، ينبغي ألا يشعر بنا أحد حينما نترك الإسكندرية ، و خصوصا العاملين معك .. و على فكرة ، ينبغي قبل سفرك ، أن تعطي كبارهم مكافآت ، أما الباقي فهم عاملون حيث هم ، سوف يضمهم الحاج إلى جعبته حتى يضمنهم إلى جانبه.
رغم أن المعلم الجارحي عصبي لا يستطيع السيطرة على نفسه .. إلا أن زوجته كانت تمتاز بالحكمة و المهارة في إدارة مشاكل أسرتها الخاصة أو مشاكل زوجها .. و كان غالبا ما يأتي لمشورتها في أي مشكلة تظهر له .. سواء في عمله .. أو حتى مع أصحابه في السوق ، و لهذا كان يعتمد على مشاورتها .
كانت تعرف عنه كل كبيرة و صغيرة في عمله ، و كانت أحيانا تذهب بدلا عنه إلى محلاته التي يبيع فيها الأجهزة الكهربائية حين يكون هو يستلم البضاعة ، أو يسلمها .
أما المعلم وهدان فحينما أعلن عن عزمه أن يترك الإسكندرية ليستقر في السويس ، فإن زوجته أقامت الدنيا ، و لم تقعدها ، بل ذهبت إلى بيت أبيها غاضبة .. و في هذه المرة لم يسأل عنها المعلم وهدان .
كان المعلم وهدان يعرف قدر نفسه .. و لهذا كان كتوما في بيته .. لا تعرف عنه زوجته أي شيء .. كل ما تعرفه أنه تاجر كبير يبيع الأجهزة الكهربائية .. و عنده عدد من المحلات المنوعة .. و كانت دائما ما تعيره بأصله .. و أنها بنت ناس ، ولولا أن أباها قد حاصرته الديون لما تزوجت منه .. هذا الجاهل الأمي الذي لا يعرف في الدنيا إلا جمع النقود .
فعل ما فعله المعلم و هدان .. ذهب إلى السويس و اشترى فيلا هذه المرة .. و لكنه لم ينقل مدارس أولاده .. و نقل مرة واحد من خلال أحد المكاتب عفشه ، وما يهمه ، و أرسل إلى زوجته وأولاده ملابسهم في بيت جدهم .. فهو يعرف جيدا أن زوجته لن تذهب إلى أي مكان .. و أن هذه المشكلة لن تنتهي أبدا ، فهو يعرف أن زوجته حين تصمم على شيء فإنها لن ترجع فيه ، و هي قد صممت ألا تغادر الإسكندرية ، و قالت له بصريح العبارة :
أنا ولدت هنا ، و أهلي كلهم هنا ، و لن انتقل إلى أي مكان ، مهما كان الثمن .
اتفق مع حماه على كل شيء أن يزور أولاده مرة في الشهر .. و أن يعطي زوجته مبلغا من المال يكفيها و يكفي مصاريف الأولاد ، سواء في المدرسة أو في البيت .. و حاول حماه أن يفهم سبب كل ذلك ، فكانت إجابات المعلم وهدان غير واضحة ، و أنه يريد أن يبتعد عن الإسكندرية إلى الأبد .
و ذهب إلى المحامي ليعرض عليه بيع كل أملاكه في الإسكندرية .
طلب المحامي من الحاج أن يقابله الآن لأمر هام ، فالمعلم الجارحي و المعلم وهدان يريدان أن يبيعا كل شيء و بأسرع وقت ، وقد لجأا إلي بوصفي محامي الجميع .
قال له الحاج : تستطيع أن تحضر الليلة .
و بالفعل حضر المحامي ، و عرض عليه كل ما قاله المعلم الجارحي له و المعلم وهدان .
ضحك الحاج ضحكة عالية أعقبتها بعض السعال :
كل شيء مقدور عليه .. الفيلاتين تأجير بإيجار سنوي ، لكن نعطيهم كام مليون ، و المحلات نشتريها منهم بما فيها .. كده كويس .
قال له المحامي : الحسبة صعبة يا حاج .
ابتسم الحاج ابتسامة عريضة و قال له :
و لا صعبة و لا حاجة ، خبرتك يا أستاذنا ممكن تسهل كل حاجة ، و إن لم تستطع أن تكسبهم فأنا موجود ، و ممكن أن أقابلهما ، و أعطيهما ما أريد أنا .. على فكرة المعلم البرعي إيه أخباره .
قال المحامي : لقد استدعيته ، وسألته :
هل تريد أن تهاجر أنت أيضا ؟ ، فقال لي بالحرف الواحد ، المعلم الكبير أبي ، لقد رباني منذ الصغر و كلمته واجبة النفاذ ، أنا عايش في خيره ، و لا يمكن أعض اليد التي امتدت لي بالخير ، و الذي سيقوله سيف ماشي على رقبتي .
قال الحاج عطية و على وجهه ابتسامة مرة :
سأعقد اجتماع معهم دون وجود حسين ، و أعرف طلباتهم ، وسوف أبلغك بها بعد انتهاء الاجتماع لتتخذ اللازم .
انصرف المحامي و هو يشعر بالحزن على انتهاء تلك العشرة التي امتدت سنوات طويلة ، و قال وهو يودع الحاج و في صوته نبرة جزن واضحة :
ربنا يسهل و يستر .
استدعى الحاج الثلاثة إلى مكان الاجتماع المعتاد .. و نظر إلى الثلاثة نظرة خالية من كل المعاني .. و سألهم عن سبب هذا التغيير .
قال له المعلم الجارحي :
لقد اشتريت فيلا في مصر ، واشتريت مزرعة لتربية الماشية .. و أحتاج إلى بعض السيولة لإنشاء مصنع للألبان ، وقد أتاجر في اللحوم بعد ذلك .
ارتسمت على وجه الحاج ابتسامة عريضة ،و قال باقتضاب :
ربنا معك ، وسوف أساعدك ، وأقف بجانبك .
شكره المعلم الجارحي على هذا الشعور النبيل .. وقبل أن يكمل حديثه ، قال له الحاج عطية بهدوء شديد :
سأشتري منك جميع أملاك في الإسكندرية ، و سأكتبها باسم المعلم البرعي.
قال العلم الجارحي و علامات الاستغراب في وجه :
الفيلا ، أنا أجرتها منك .. يعني حلالك يا حاج .
قال له الحاج بشدة : قل ما تريد في جميع ممتلكاتك ، وسوف أدفع لك كل ما تريد .
و بعد الاتفاق على كل شيء ، قال له الحاج :
انقل المحلات باسم المعلم البرعي عند المحامي ، و استلم منه المبلغ على الفور .
أما المعلم وهدان فلم تكن إجابته محددة .
قال له الحاج عطية بنيرة ساخرة :
سأعطيك ما تريد ، و لكن أحذرك أن اللعب في السوق من وراء ظهري خطرة ، وخصوصا في المنطقة التي ستذهب إليها سوف يكون خطرا على الجميع ، فأنت جديد عليهم ، و سيفتح أبوابا لن تغلق أبدا . فأرجو أن تكون مراعيا للعيش و الملح ، و إلا فأنت تعرف إنني سوف أعرف أخبارك ، و في هذه الحالة سأكون أنا و ليس مباحث مكافحة المخدرات من سيمحو اسمك من الحياة .
لم ينطق المعلم وهدان بأي شيء ، وظل مطرقا .
قال له الحاج :
أذهب إلى المحامي ، وسجل كل أملاكك باسم المعلم البرعي ، وسوف تأخذ ما اتفقت عليه مع المعلم الجارحي .
كان المعلم البرعي صامتا طيلة الوقت ، و لم يفتح فمه بشيء ، رغم علامات الدهشة و الاستغراب التي كانت تطل من وجهه كلما نطق باسمه لنقل ممتلكات الجميع إليه .
و بعد انصراف الجميع سأل المعلم البرعي الحاج عطية :
و لكن يا حاج ، من أين أدفع لك كل ذلك ؟ ما معي بعد الغرامة الكبيرة لا يكفي أن اشترى نصف محل واحد ، فكيف أسدد ذلك كله ؟
ضحك الحاج بصوت مرتفع ، و قال للمعلم البرعي :
طول عمرك عبيط ، و ده أحسن حاجة فيك ، بعد أمانتك و إخلاصك . كل ذلك هدية مني لك ، و فوق ذلك سأجعل حسين يرد إليك الغرامة المفروضة عليك مبسوط يا البرعي .
و مسك المعلم البرعي يد الحاج عطية ، و ظل يقبلها شاكرا له فضله و إحسانه عليه .وقال له :
أنا .. أنا .. أنا ابنك يا حاج ، و لن أخرج عن طوعك أبدا ، الله يلعن أبو الشيطان الذي دخل بيننا .
و انصرف المهلم البرعي وهو يحمد الله عل كل شيء ، إني الآن أكبر تاجر في الاسكندرية .
البديل
كان الحاج يفكر و هو جالس في حديقة الفيلا وحيدا.. كيف يخرج من الورطة التي هو فيها الآن .. فهو قد أصبح مريضا ، و قليل الحركة ، لا يستطيع السفر بمفرده ، ولابد أن يصطحب معه أحدا يستند عليه في مشيه .
فكر في أول الأمر في سائقه الخاص ، مخلص أمين له أكثر من خمس و عشرين سنة لم يفارقه لحظة منذ أن أحضره من البلد ، فهو يتيم الأبوين ، و علمه القراءة و الكتابة ، و علمه السواقة ، و استخرج له رخصة قيادة ، و من يومها أصبح السواق الخصوصي له ، و اضطر أن يحضر سائق آخر من البلد ليكون السائق الخاص لابنته ، و الرقيب عليها ، و قد زوجهما من قريباتان لهما في البلد ، و جعل لهما مكانا خاصا في الفيلا ، دون أن تدخل زوجتهما إلى الفيلا .
و لكنه سرعان ما استبعد الفكرة ، فهو يعرف جيدا إن أي خطأ سوف يحدث منه ، ستدور الشبهات حوله . و قال في نفسه :
أبعد عن الشر و غني له .
أما حسين فيكفي أنه يعرف سره الذي لا يعلمه أحدا غيره ، بل هو الآن زوج ابنته ، و الأهم من ذلك فهو الوجه النظيف الذي يختفي خلفه ، بما فعله من مشاريع جديدة لم يكن يفكر فيها ، و بل لم يكن يحلم بها ، مما زاده بعدا عن الشبهات ، خصوصا بعد أن ابتعد الجارحي ووهدان عن الإسكندرية .
و سرح بخاطره بعيدا باحثا عن بديل يحل محله أولا ، و عوض غياب الجارحي ووهدان عن الساحة .
و فجأة برز إلى ذهنه خاطر ، و ابتسم ، و ارتاح لهذا الخاطر .
كان الخاطر الذي ألم به هو صبيه فؤاد ، فقد نقله في أكثر من مكان ، ووجد أنه يسد في كل مكان ، بل و يستطيع أن يهرب من كل موقف يتعرض له و خصوصا حين كان يهرب الآثار ، أو يتبادل الممنوعات في عرض البحر مع السفن التي تنتظر في الغاطس .
أرتضى فؤاد بمكانته عند الحاج عطية ، فمنذ أن مسك يده ، و منعه من سرقة شنطة الفلوس و الأوراق ، و كيفية إبعاد السائق عن الهدف .
من يومها كان فؤاد صبي الحاج الذي ينفذ كل ما يأمره به الحاج عطية من أوامر ، فها هو يوصل أكياس الممنوعات إلى أمكانها المحددة وفي الوقت المحدد ، في براعة دون أن يشك فيه أحد ، بل ويراوغ من يراقبه مهما كانت براعته .
و قد أثبت فؤاد للحاج أن احتضانه له كان فكرة جيدة ، و الحاج نفسه لم يقصر مع فؤاد ، فهو يجزل له العطاء في عمله ، و في المناسبات ، و يقف بجانبه في كل شيء .. فها هو يقف بجانبه حين مرضت أمه ، فأسرع في عرضها على أكبر الأطباء ، و حين أشار الطبيب إلى إجراء عملية عاجلة ، لم يتوان في إدخالها إلى المستشفى و إجراء العملية على حسابه الخاص .
و لعل الحاج عطية لا ينسى له تلك الوقفة الشجاعة ، حين لجأ إليه حسين بعد محاولة قتله الفاشلة ، صحيح إنه طمئن الحاج على حسين ، و لكنه لم يخبره بمكانه الذي يختبئ فيه .
و لم يشعر به أحد وهو يختطف من حاولوا قتل حسين ، بل بعد أن اختطفهم ذهب بهم إلى المخزن المهجور ، وقام بتعليقهم كالخراف المذبوحة في محل الجزارة .
و لم يخف حينما ذهب مع حسين إلى المعلم الجارحي، حاميا لظهر حسين من الحراسة المشددة ، و مساعدا له في تنفيذ الخطة في إرهاب المعلم الجارحي ، خطفه ليريه كيف ينفذ ما يريد دون أن يقدر عليه أحد .
كانت مواقف فؤاد كفيلة بأن يطمئن إليه الحاج عطية الدش ، بل يقربه منه أكثر من اللازم ، و يأخذه تحت أبطيه .. و هو يستطيع بكل مهارة أن ينفذ أي عمل يكلف به .
و لهذا استدعاه في مكتبه ، و حدد له موعد في المساء .
في الساعة الثامنة إلا ربع مساء حضر فؤاد إلى مكتب الحاج عطية الذي استدعاه لأمر هام ..
طلبت منه هدى أن يصعد إلى الأعلى ، فصعد و سلم على ناهد التي طلبته منه أن يجلس قليلا حتى يفرغ من مكالمة خارجية .
لم يمض وقت طويل حتى رن الحاج عطية هاتفه الداخلي ، طالبا من ناهد أن تدخل فؤاد إليه ، و أن تحضر له كوبا من الشاي الثقيل ، و أن تأخذ السائق الخصوصي ليوصلها إلى منزلها ، و يعود بعد ساعة ، و أن تغلق المكتب من تحت .
جلس فؤاد أمام الحاج الذي قدم له كوب الشاي ، و أخذ يتجاذب معه أطراف الحديث .
سأله الحاج :
لماذا لم تتزوج إلى الآن ؟
كانت فكرة الزواج لم تخطر على بال فؤاد ، فهو أولا يهتم بأمه التي تعيش من أجله ، و لهذا لا يريد أن يأتي لها بمن تزعجها . وخصوصا أن بنات هذه الأيام يردن أن يكن في بيت مستقل .
قال له فؤاد : لم أجد إلى الآن بنت الحلال الذي ترضى أن تعيش مع أمي ، فكل من عرفتهم يتهربون من رعاية أمي ، و لهذا لم أتزوج إلى الآن .
ضحك الحاج ضحكة مجلجلة ، وهو يستمع إلى تبرير فؤاد البسيط ، و قال له :
يا رجل كل النسوان اللاتي تعرفهم ، مفيش واحدة فيهم طيبة .
ووضع فؤاد وجه في الأرض ، وقال للحاج ..
و الله .. انا أقول لك الصدق .
قاطعه الحاج :
أنت ابني ، و أنا عارف كل حاجة عنك ، وسوف أجد لك العروس الطيبة التي تقف بجانبك ، و ترعى أمك في نفس الوقت ، اطمئن ، و سيكون اختياري مفاجأة لك ، لن تعرفها الآن ، و لكني سوف أعرفك بها و أهلها في أقرب فرصة .
سكت الحاج عطية قليلا من الوقت مفكرا كيف يخبر فؤاد بما يريد أن بخيره به . ثم فجأة قال له :
أنا كبرت يا فؤاد ، و أريد أن يحل محلي واحد أمين .
قال فؤاد بسرعة ودون تفكبر :
حسين موجود يا حاج .
قال الحاج و هو ينظر إلى فؤاد بشدة :
حسين لم يعد فاض لي الآن ، عنده أكثر من شغل ، ربنا يكون في عونه .
قال فؤاد :
في من تفكر يا حاج ؟
قال الحاج :
أفكر فيك ، فهو عمل خاص جدا ، يحتاج إلى براعتك ، و سرعة فهمك .
قال فؤاد :
أنا تحت أمرك يا حاج ، أنت تأمر و أنا أنفذ .
قال الحاج لفؤاد ، و قد وجد الفرصة مناسبة للبوح له بالسر الذي لم يعرفه لأحد إلا حسين :
سوف استخرج لك جواز سفر غدا ، وسوف أصطحبك إلى كثير من الدول العربية و الأجنبية ، و سأسلمك كل الشغل الخارجي .
نظر فؤاد إلى الحاج بعين زائغة متسائلا :
و ما هو هذا العمل الذي سأقوم به هذه المرة .
قال الحاج لفؤاد و هو هادئ :
أحيانا بعض الأجهزة الكهربائية ، و أحيانا أخرى بعض الملابس .
قال فؤاد و هو ينظر إلى الحاج بسعادة :
حاجة بسيطة يا حاج .
قال الحاج :
و أحيانا أخرى سوف تجلب بعض الممنوعات .
قال فؤاد :
و لكن يا حاج .
قال الحاج مقاطعا :
أنت فقط سوف تتفق ، و البضاعة سوف تأتي إليك و أنت في مكانك . و سوف أشرح لك ما ستفعله بعد ذلك .
قال فؤاد :
أنا تحت أمرك يا حاج .
قال الحاج :
و الآن مشروع جوازك : غدا سوغ تأتي في أحلى ثيابك ، لكي نذهب إلى أهل العروس التي اخترتها لك .
قال فؤاد و هو في قمة السعادة :
بالسرعة دي يا حاج .
قال الحاج :
خير البر عالجه .
ظل الحاج ساهرا هو و حسين و ابنته وصفاء ، شارد الفكر ساهما لم ينطق بكلمة .
سأله حسين :
في حاجة يا حاج ؟
قال الحاج :
أنا أفكر يا حسين ، سوف أزوج صفاء لأحد أخوتك البنات ، ما رأيك ؟
قال حسين بسعادة :
فكرة ممتازة يا حاج ، وسوف اختار له أحسن أخواتي أدبا و هدوءا
قال الحاج :
و أفكر أيضا في زواج أختك الكبيرة .
قال حسين :
إيه يا حاج ، زواج بالجملة ، و لكن لمن ؟
قال نادية ببساطتها المعودة و هي تضحك :
بابا النهارده شغال خاطبة .
قالت صفاء :
يا حاج أنا لن أترككم أبدا .
قال الحاج :
و من قال إنك سوف تتركينا ، سأخصص لكما مكان في الفيلا .
و عاد حسين ليستفسر من الحاج عن خطيب أخته الذي أختاره الحاج ، قال حسين :
و من عريس أختي يا حاج ؟
قال الحاج :
فؤاد كلمني اليوم ، و لم يحدد أي من أخواتك ، و أنا أخترت الكبيرة بعد إذنك .
قال حسين :
بنتك يا حاج .
قال الحاج :
خير البر عاجله ، سوف نذهب غدا إلى الحاجة ، و نطلب منها يد الاثنين ، جملة يا حسين ، و أنا الخاطبة ، الخاطبة يا ست نادية . وسوف تأتين معنا ، فوجودك ضروري .
سكت الحاج فجأة .. ثم قال لحسين :
أنت تبعت للبيت العشاء ، كل الحلويات ، و الشربات بالمرة .
و توجه إلى نادية قائلا :
و أنت تأخذين صفاء و أخته سيدة إلى الكوافير من غير ما تقولي لها أي شيء ، خليها مفاجأة .
ضحك الجميع كما لم يضحكوا من قبل ، فها هي السعادة ترفرف على بيت امه أخيرا .
غسيل أموال
كانت الأفكار تتوالى على فكر حسين مزعجة أحيانا .. سلسة أحيانا أخرى.. كان هدفه الأكبر هو أن يحافظ على السر الذي أؤتمن عليه من قبل الحاج عطية الدش والد زوجته ، وخصوصا أن أسرته بدأت في النمو ، فها هو الطفل الثاني يعد نفسه للخروج إلى ذلك العالم .. و هو يريد أن يحافظ بكل طاقته على سعادة هذه الأسرة و استقرارها، وخصوصا زوجته التي أصبحت مشغولة جدا .
و هناك أمر جديد ظل يقلقه ، وهو الحاج نفسه الذي يغيب فترة ثم يعود إلى نشاطه ، و كأن هذه المهنة مرض مزمن خبيث يؤثر في جسده لا يستطيع أن يشفى منه ، رغم اتفاقه مع حسين على عدم العودة إلى تلك التجارة الخطرة ، و لكن يبدو أن الحاج ، وقد كبر في السن لا يستطيع أن يفي بوعده .
و كانت الأعمال التي يقوم بها حسين قد ازدهرت ازدهارا كبيرا في المحلات المختلفة التي يتعامل بها ، و أصبح في حاجة إلى صفاء ذهنه ليمارس أعماله المتنوعة دون أن تظهر على الخارطة أي شيء يؤثر في نجاحه .
أما زوجته ، و رغم أنها تحاول أن توفر الوقت الكافي لأبيها الحبيب وزوجها و ابنها ، و استعدادها للمولود الثاني القادم في الطريق . فاستعانت ببعض من تعرفهم من زملائها وزميلاتها في مساعدتها سواء في المستشفى ، أو في المستوصف ، أو في العيادة الخاصة .. و قد ركنت من حساباتها مشروع السيارات التي أعطاها إياها حسين باسمها . و أسندت إدارته إلى حسين .. و الذي قام من فوره بإسنادها إلى المحامي مع أحد أخوانه الصبيان .
كان حسين رغم أشغاله الكثيرة يحاول جاهدا أن يرعى أسرته الأساسية ، فكان يزور أمه مرة في الأسبوع ، و قد أستطاع أن يزوج أخواته البنات زيجات مناسبة للوضع الجديد الذي يعيشه الآن ، بل و يستطلع أحوال الجيران ، و كان في كل زيارة يرى تلك البيوت المتهالكة التي نحاول أن تحافظ على موقعها في هذا المكان ، و كان يشتري أغلبها ليقيم عليها بيوتا جديدة .
نظر إلى الحاج ذات يوم وهو شاردا في عالمه .. ثم قال له :
أن في ذهنه بعض الأفكار ، ويريد أن يستشيره فيها ، لعله يجد القرار الصائب لأفكاره المشوشة ..
قال له الحاج :
أحكي ما عندك ، فأنا استمع إليك .
قال حسين :
في نيتي أن أجدد الحي القديم ، أن ابني أكثر من عمارة كبيرة تضم أهل الحي ، أن أبني مدرسة لتعليم الأولاد فيها ، أن أبني مسجدا كبيرا.
قال له الحاج : اشتري ما شئت من الأراضي في المنطقة ، و قم بهد تلك البيوت و البناء مكانها ،
قال حسين :
لقد فكرت في ذلك كثيرا .. و لكن أين أذهب بأصحاب البيوت و ساكنيها ..
ابتسم الحاج ابتسامة عريضة ثم قال لحسين :
المشكلة بسيطة جدا ، البيوت الأولى التي نشتريها ، نطلب من المحامي أن ينبهم عليهم أنهم سيسكون في عمارات خالد بن الوليد مؤقتا ، ثم يعودون إلى بيوتهم بعد ذلك ، و بعد أن نبني العمارة الأولى ، تعيد سكان البيوت إليها مرة أخرى ، و نضم إليهم بعض السكان الآخرين لتنفيذ بقية أفكارك .
صمت حسين فترة ، ثم قال الحاج و قد تهلل وجه بالابتسام :
هكذا تكون الأفكار ، و إلا فلا .
استطرد الحاج كلامه :
سنذهب إلى المكتب الهندسي غدا ، وأطلعهم على أفكارك ، و في خلال فترة وجيزة سوف يتم الرسم الهندسي لمشروعك الكبير و الإنشاءات بعد ذلك .. و نذهب إلى المحامي ليشتري ، و ينفذ ما اتفقنا عليه .
أحس حسين بسعادة بالغة حينما وجد أن أفكره قد بدأت تتبلور على أرض الواقع ، و تتحقق ، و لكنه قد اشترط على الحاج على أن يكون هذا المشروع من حر ماله .
غضب الحاج غضبا شديدا من قول حسين ، و شعر بالإهانة ، و قال له :
إنه يريد أن يشارك في هذا المشروع ، و باسمك أيضا ، أو باسم ابنتي ، أو أحفادي .. كما تشاء .
خوفا من غضب الحاج ، وخوفا من تأثير ذلك الغضب على صحته ، وافق حسين على أن يساهم الحاج في هذا المشروع ، و اعتبر ذلك بداية مشجعة من الحاج للتوبة .
كان هدفه في الفترة الأخيرة أن يحافظ على صحة الحاج ، و خصوصا أن الحاج لم يعد يسافر ، و لم يعد يهتم كثيرا كما لاحظ بهذه التجارة الخطرة التي كان يمارسها ، و معظم انتقالاته البسيطة ما بين الفيلا و مكتبه فقط .
و رغم ذلك فقد كانت البضاعة لم تنقص من السوق ، بل تصل إلى تجارها في الوقت المناسب ، و هذا ما حيره فعلا .
من الذي حل محل الحاج ، ذلك سر لن يعرفه ، و لن يريد أن يعرفه الآن ، فيكفي ما هو فيه من تنمية أعماله .
لقد بدأ اسم حسين يزدهر في الإسكندرية بتلك المشاريع الخيرية التي أنشأها في حيه القديم .
لم تمض غير بضعة أشهر حتى علت العمارة الأولى في هذا الحي العتيق من أحياء الإسكندرية ، و عاد قاطنوه إلى مواقعهم القديمة الجديدة و بنفس الإيجار السابق ، و سكن في نفس العمارة بعض سكان البيوت المتهالكة ..
بل زاد على ذلك أن فرش تلك البيوت بأثاث جديد ، أتفق مع السكان أن يسددوا ثمن هذا العفش بأقساط زهيدة يدفعونها كل شهر .
و بدأت الإنشاءات في الظهور على أرض الواقع .. لم تمض غير سنة حتى كانت أفكار حسين قد بدأت في الظهور .
بيوت كثيرة قد علت و مسجد كبير و بعض المدارس المختلفة ، و سوبر ماركت كبير فيه كل شيء ، و أسند إلى سكان الحي العمل فيه بأنفسهم حتى يعمل من لا عمل له في الحي .
لقد تغيرت المنطقة تغييرا كبيرا ، و أصبح هذا الحي المتهالك من أجمل الأحياء ، و أصبح الشباب الذين كانوا يقفون على الناصية من العمال الذين يكسبون بعرق جبينهم كسبا حلالا ،وأصبح الصبية يذهبون الى المدرسة للتعلم ، و قد اتفق مع الإدارة التعليمية على أن يكون التعليم بالمجان ، و أنه متكفل بما يلزم المدرسة ، و أنه سوف يدفع نيابة عن أولياء أمورهم ما هو مطلوب من مضروفات .
كان الناس يحبون حسين و يدعون له بالبركة ، و خصوصا إنه لم يزد الإيجار عما كان ، بل فرش لهم بيوتهم بالتقسيط ، بل جعل أبناءهم يعملون في عدة مشاريع أسهم فيها ببعض ما يملك .
لقد عمت الفرحة أهالي المنطقة ، و بدأ أهالي المناكق الأخرى يتصلون بحسين ، ليجدد مناطقهم .
مكانة اجتماعية جديدة
في اتصال مفاجئ لم يكن يتوقعه ، طلبت منه سكرتيرة المحافظ أن يحضر للقاء المحافظ خلال ساعة .
أخذت أفكاره تذهب يمينا و يسارا ؛ ماذا يريد المحافظ .. هل أكتشف السر الذي كان يخفيه حتى عن زوجته و أمه ؟ لا أظن .. في هذه الحالة ستأتي الشرطة و تقبض عليه أمام الجميع .
اتصل بالحاج ليخبره بذلك الاجتماع ، فطلب منه الحاج أن يذهب بمفرده أولا لأن الدعوة جاءت باسمه ، و لا داعي لكل هذا الخوف .
استقل سيارته ، و ذهب إلى مبنى المحافظة ، ولم تكن الساعة قد مرت ، دخل إلى مكتب السكرتيرة ، وقدم نفسه .. ابتسمت السكرتيرة ، و رفعت سماعة الهاتف الداخلي ، وقالت للمحافظ :
حسين باشا هنا حسب طلبك .
خرج المحافظ من حجرته ، و استقبل حسين بحرارة ، و دعاه إلى الدخول معه إلى حجرته .
قدم المحافظ حسين إلى الحاضرين في حجرته ؛ مدير الأمن ، وكيل وزارة الصناعة ، وكيل وزارة الزراعة ، وكيل وزارة الإسكان .
أحس حسين بدوار فهو لم يكن يدري أن هؤلاء جميعا سوف يكونون موجودين في هذا اللقاء .
تحدث المحافظ حديثا مسهبا ، من خلال الملف الذي أمامه ، ثم قال للحاضرين :
هذا هو حسين الذي طور بمفرده أحد أحياء الإسكندرية القديمة وجعلها على أحدث طراز في العالم ، بل و أسهم في حل العديد من المشاكل كالبطالة مثلا ، و النظافة ، و كنت أتمنى أن يكون هناك أكثر من حسين من رجال الأعمال يقومون بمثل ما قام به حسين .
و أشار إلى وكيل وزارة الصناعة ، الذي تحدث و أفاض في بناء نهضة صناعية جبارة في محافظة الإسكندرية تخدم الأهالي ، و قال موجها كلامه إلى حسين :
نرجو يا حسين باشا ، أن تساهم معنا في بناء أحد المصانع ، صحيح إننا لا نعرف إمكانيتك ، و لكننا نثق في قدراتك .
ابتسم حسين ابتسامة عريضة ، فها هو قد أصبح في غفلة من الزمان باشا ، رغم أن عهد الباشوات قد انتهى ، و ها هي الحكومة تطلب منه أن يشترك معها في بناء أحد المصانع ، بدلا من أن تقبض عليه .
أحس حسين أنه شرد بفكره أكثر من اللازم حين نبه المحافظ إلى ذلك .
قال حسين :
سوف أدرس ما تريدون من مشاريع من خلال مكاتبنا الهندسي .
قاطعه وكيل وزارة الصناعة :
هذا الملف فيه كل شيء سوف نعطي لك نسخة منه لدراستها جيدا ، ونرجو أن تكون سرا حتى موافقتك .
نظر حسين إلى وكيل وزارة الزراعة ، وقال له :
وما المشروع الذي تتمنى أن أساهم فيه ..
ابتسم المحافظ ، وقال للجميع :
أ لم أقل أنه في منتهى الذكاء ، معلومات مديرية الأمن صحيحة .
قال وكيل وزارة الزراعة ، سوف تساهم معنا في استصلاح بعض الأراضي البور في الصحراء القريبة من المحافظة لتكون أرض زراعية جديدة ، و هذا هو الملف أيضا ، و نفس الجملة التي قالها سعادة وكيل الصناعة سأقولها لك هذا الملف فيه كل شيء سوف نعطي لك نسخة منه لدراستها جيدا ، ونرجو أن تكون سرا حتى موافقتك .
و نظر إلى وكيل وزارة الإسكان ، الذي أشار إليه ببناء وحدات سكنية قريبة من المصانع و المزارع الجديد حتى تتم تلك المشروعات بسرعة .
قال حسين للمحافظ :
سوف أعرض على الحاج عطية الدش هذه الملفات ، و أرجو من الله أن تكون هناك السيولة الكافية لتغطية هذه المشروعات . و لكن كل هذا يحتاج إلى مرافق كالكهرباء و الماء و المواصلات .
قال المحافظ لحسين :
سوف نقدم لك الأرض التي تقام عليها المشروعات بسعر رمزي ، و لن نطالبك بالثمن الآن .. سيكون السداد بعد انتهاء هذه المشروعات ، حسب اجتماعك مع الوزراء ،المختصين ، سوف تكون المرافق جاهزة خلال بدأ العمل و انتهاء المشروع .
قال حسين للمحافظ :
أريد أن أشرب شاي .
ضحك الجميع على هذا الطلب في هذا الوقت .
قال المحافظ :
أعتذر لك يا حسين ، لقد نسيت واجب الضيافة ، و كل ما وضعناه هو الماء .. حالا سوف يأتي إليك الشاي و القهوة .
أستطرد حسين كلامه :
أظن أن هناك بعض الوكلاء الذين لم يحضروا ، وكيل وزارة الصحة الذي يجب أن يطلب انشاء مراكز صحية ، و مستشفيات ، ووكيل وزارة المالية .
قال المحافظ :
فور الانتهاء من دراستك ، ووضع الملاحظات عليها بعناية ، و أرجو أن تكون بالسرعة المناسبة ، فالمحافظة تحتاج إلى الشرفاء أمثالك ، سوف تلتقي بجميع الوزراء لتوقيع العقود في حفل مبسط ، و أرجو أن يكون ذلك في أقرب فرصة .
عرض حسين الأمر على الحاج وزوجته ، فوافق الحاج من فوره على تلك المشاريع ، و نبه على حسين أن يكون في الاجتماع المقبل بحضوره أن يشترط أن تكون تلك المشروعات لأبناء الإسكندرية فقط .
قالت له زوجته :
أبناء الإسكندرية أولا ، ثم نكمل من خارجها ، وهناك أيضا أشياء ناقصة في المشروع .
قال لها الحاج :
مثل ماذا ؟
قالت :
مدارس ، مستشفيات ، مساجد ، فروع للوزارات .
قال لها الحاج :
نحن لا نبني محافظ جديدة ، نحن نساهم في مشروعات فقط ، و ربنا يقدرنا و تكون السيولة المالية كافية ، و إلا كنا كمن يرقص على السلم .
قالت نادية :
و أنا سأساهم معكم ، و أظن أن هناك باب آخر لأهالي الإسكندرية ، وهي المساهمة ليكونوا شركاء في هذا المشروع الكبير ، و رجال الأعمال ممكن أن يساهموا في ذلك .
قال الحاج :
خرج المشروع من أيدينا .
قال حسين :
هذه أفكار جميلة ، قد نحتاج إليها فيما بعد . المهم الآن أن ندرس المشروع دراسة وافية و نرد على المحافظ و من معه .