على الشاطئ الآخر

على الشاطئ الآخر

1 reviews

(1)

 

    الثراء.. أول شيء يطالعك حين تدخل بقدميك هذا البيت هو الثراء!

    صحيح أنها شقة لا فيلا.. لكنها شقة فاخرة جدًا، في أرقى الأحياء، مرتبة بشكل رائع، الأثاث من أفخر الأنواع، الأجهزة، الإضاءة، كل شيء يوحي بالثراء، بالإضافة إلى لمسة فنية رائعة في التنظيم والترتيب.. عرفت أن الأب يعمل بوظيفة كبيرة بوزارة المالية، والأم أيضًا تعمل بوظيفة كبيرة بأحد البنوك الاستثمارية، ليس لديهما سوى اثنين من الأبناء، الآن – بعد ما حدث – تقلص العدد إلى ابن واحد فقط! هكذا الحال في بلادنا، الأثرياء قليلو الإنجاب، والفقراء ينجبون بغزارة، رغم أنه يفترض العكس!

    حجرة المجني عليها – هل هي حقًا مجني عليها؟! – أيضًا مرتبة بشكل جيد، لها نفس طابع البيت من الفخامة وحسن التنظيم، لكنها تحتوي على شيء من الصخب لا سيما الجدران، صور كثيرة مختلفة، ممثلة شقراء فاتنة تنام على بطنها، وتنظر للعدسة بعينين زرقاوين رائعتين.. "عرفت فيما بعد أن اسمها (نيكول كيدمان)!".. ممثلة أخرى فاتنة ذات شعر أسود، وعينين سوداوين، وشفة غليظة مشقوقة، "عرفت أيضًا فيما بعد أن اسمها (أنجلينا جولي)".. أنا لا أعرف هذه الأشياء! النقيب (عادل) هو الذي يعرفها، إنه مدمن سينما أجنبية، أنا لا أطيقها.

    ثمة صور أخرى لممثلات مصريات: (مي عز الدين)، و(منة شلبي)، وثالثة لا أعرفها.. بجانب صور لبعض المطربين: (عبد الحليم حافظ)، (هاني شاكر)، (عمرو دياب)، (تامر حسني)... إلخ.. خليط عجيب وغث، أي أذن هذه التي تجمع بين هؤلاء معًا؟ إنه أشبه بطبق من البيض والجبن والعسل والسلمون مختلطين جميعًا.. هل يؤكل؟ إنها مثال لحجرة فتاة ثرية مراهقة، ماذا نتوقع غير ذلك؟

    القضية تبدو واضحة ومحلولة مسبقًا، إنها انتحار.. لسنا بحاجة حتى إلى معمل جنائي، أو فحص وتشريح للجثة، أو استجواب أحد.. جثة الفتاة ملقاة على الأرض، بطريقة توحي بأنها سقطت من فوق الفراش، دون أن يلمسها أحد، ثلاثة شرائط أقراص مسكّن للألم والصداع، اثنان منهم خاويان من أية أقراص، والثالث فرغ نصفه تقريبًا، من الواضح أنها ابتلعتها جميعًا لتنهي المهمة، أعرف هذه الأقراص جيدًا دون الحاجة لسؤال صيدلي، لأني أتعاطاها أحيانًا.. بجانب الفراش إناء كبير أوشك أن يفرغ، من الواضح أنها شربت كثيرًا لتبتلع هذا الكم من الأقراص، لا توجد آثار عنف على الإطلاق، في بقعة ما فوق الفراش ورقة صغيرة من دفتر مزخرف بالورود مكتوب فيها بخط نسوي رديء رسالة انتحار سخيفة: "سأرحل لأني لا أنتمي إلى هنا..لا تشبهني الأرواح التي تسكن هذا المكان، ولا أتنفس هواءً مليئًا برائحة الغياب.. كل شيء هنا يخذلني، يصدمني بجفافه، وكأنني وردة تفتحت في أرض لا تعرف المطر.. سأرحل بحثًا عن نبض يشبهني، عن ظل يحتويني دون أن يختبئ مني، عن حلم لا يخذلني في منتصف الطريق.. سأترك خلفي وجعي على أرصفة اللامبالاة، وأحمل معي خفة الأمل، ربما في مكان آخر، ستزهر روحي وتجد ما يشبهها". ماذا يكون هذا إن لم يكن انتحارًا؟!

    القضية محلولة بطبيعتها، فتاة مراهقة ثرية، انتحرت بسبب الملل والفراغ، أو لأنها اكتشفت أن صديقها يراسل صديقتها المقربة دون علمها، أو أي سبب آخر تافه، الفتيات الثريات المراهقات لا ينتحرن إلا لهذه الأسباب..

    أنا العقيد (شاكر عبد السلام) الذي أمضيت نصف عمري في المباحث الجنائية، وما تعلمته من سنوات الخدمة الطويلة أن الأثرياء أكثر إقدامًا على الانتحار من الفقراء، والفقراء رغم كل البؤس الذي يعيشونه أكثر تمسكًا بالحياة من الأثرياء، نظرية لو كنت اكتشفتها في شبابي، لعملت على دراستها ومعرفة أسبابها، لكن الآن – بعد أن اقتحمت العقد الخامس من عمري – لا وقت لديّ لهذا الهراء، يكفي أن أعرف دون أن أتعمق في التحليلات!

    على كل حال سنحول الجثة إلى المشرحة، وننتظر تقرير الطبيب الشرعي الذي يفيد بأنها انتحرت، سنستجوب الأسرة لنعرف أسباب الانتحار التي أجزم من الآن أنها تافهة وسخيفة، ثم نغلق القضية وننظر إلى أخرى، الموضوع بسيط جدًا.. أبسط من البساطة ذاتها!!

    لكن أول شيء سأبدأ به الآن:-

  - "أين هاتفها الجوال؟"

    قديمًا كنا نبحث في أوراق المنتحرين لعلنا نعثر على رسائل أو أي كلمات مكتوبة ترشدنا لسبب الانتحار، الآن لم يعد أحد يستعمل الأوراق والدفاتر، الجوالات أخذت مكان كل شيء: الأوراق – الساعات – المنبهات – الآلات الحاسبة – الكتب والمجلات – كل شيء!!

    الجوال هو مستودع أسرارنا، وخزانة علاقاتنا وحكاياتنا، الآباء يشترون الجوالات لأبنائهم وهم يعلمون ما يمكن أن يفعلوا به، لكنهم يعتمدون على الثقة وحدها، والرجاء ألا يخون الأبناء تلك الثقة، لا سيما الإناث، وعندما تحدث الخيانة من الأبناء لا يكون الأمر مفاجئًا للآباء، فالرجاء كان واهيًا كخيوط العنكبوت، وأقصى إجراء يمكن اتخاذه: حرمان الأبناء من الجوال بضعة أيام، ثم إعادتها إليهم مرة أخرى مع رجاء واهٍ بان يحسنوا التصرف هذه المرة، وطبعًا لن يحدث..

    أنا لديّ أربعة أبناء، فتى بالثانوية العامة، وفتاة بنهاية المرحلة الإعدادية، وابن آخر بنهاية المرحلة الابتدائية، والأخيرة طفلة بالصف الثاني الابتدائي، ثلاثة منهم بحوزتهم جوالات، أنا اشتريتها لهم بنفسي، وكل واحد منهم لديه حساب – على الأقل – على فيسبوك، بخلاف واتس أب، وتليجرام، ولاين، وما شابه ذلك.. هل أتوقع من أبنائي أن يحسنوا التصرف دون غيرهم؟ هل أتوقع من ابنتي التي اقتحمت مرحلة المراهقة ألا تسيء التصرف مثل الأخريات، فقط لأنها ابنتي؟ هذا سخيف جدًا.. فالزمن له أحكامه، وكذلك المناخ العام، والأمر الواقع!

    جوال الفتاة المنتحرة سيساعدنا كثيرًا على معرفة أسباب الانتحار، لهذا طلبته أول شيء.. آه.. إنه هاتف حديث للغاية، المشكلة أنه مشفّر، مثل هذا النوع لا يمكن فتحه دون إعادة تهيئة، وسيفقد كل المعلومات التي عليه، لكنا سنأخذه على أية حال، سنضطر لمطالعة الأوراق والدفاتر بالطريقة التقليدية، ثمة مكتب صغير ها هنا، عليه بعض الكتب والدفاتر، لحسن الحظ العدد قليل لن يستغرق وقتًا في مطالعته، وإن كنت لا أعول عليه كثيرًا..

    الأب أكثر انهيارًا من الأم، حالته لا تسمح بسؤاله الآن، هذه أيضًا ظاهرة أخرى بدأت ألحظها في السنوات الأخيرة، الآباء أكثر رقة وضعفًا من الأمهات! وهذه أيضًا ظاهرة ليس لديّ استعداد لدراستها، لنحاول الحصول على شيء من الأم، وسأدع للنقيب (عادل) مهمة مطالعة الأوراق لعله يظفر بشيء!

  - "لا أعرف ماذا دهاها مؤخرًا سيدي الضابط! فجأة انطوت على نفسها، وصرنا لا نراها إلا قليلًا، وكفت عن الخروج، وتغلق هاتفها أكثر الوقت، صديقاتها كن يتصلن بي كثيرًا مؤخرًا ليسألنني عنها، وعن سر إغلاقها الهاتف!"

  - "ألم تحاولي سؤالها عن ذلك؟"

  - "سألتها بالفعل، وأجابت: لا شيء.. فقط تشعر بالملل!"

    أي ملل؟ وما علاقة الهاتف بالملل، إن الهاتف وظيفته الأساسية تبديد الملل، أم أنها سئمت الأصدقاء أنفسهم؟

  - "لا أعرف.. لا أعرف!"

    وتنخرط في البكاء.. أعرف أن الموقف لا يتحمل مثل هذه الشكوك، لكني مضطر لها على أية حال لأنتهي من الأمر سريعًا..

  - "عذرًا.. أنت أمّ.. عندما تلاحظين تغيرًا ما على ابنتك فمن الطبيعي أن تلحي على السؤال والمعرفة!"

  - "هذه ليست الطريقة المعتادة بيننا، أنتظر دائمًا أن تتحدث هي إليّ من نفسها!"

    وتنخرط في البكاء ثانية! تبًا! كم أمقت الأثرياء! تشاهد ابنتها في حالة غير طبيعية، ومنعزلة عن الأسرة والأصدقاء، وتنتظر حتى تأتي هي من نفسها لتفضي لها بمكنون صدرها، هل هؤلاء القوم بشر مثلنا؟ أنا رجل مباحث، ومشغول أكثر الوقت بعملي، ومع ذلك لا أستطيع أن أفوت يومًا دون الالتقاء بأبنائي والاطمئنان عليهم، رغم أن زوجتي حريصة على ذلك طوال الوقت، ومتفرغة له، لكني لا أعول عليها وحدها..

  - "أعتذر عن هذا السؤال: هل كان لابنتك .... لنقل: صديق مقرب، أو...... حبيب!"

    لماذا أستحيي من هذا؟ إنهم أثرياء..

    أجابت دون حساسية:-

  - "حبيب! لا أظن.. ولا أعرف.. لكن لها أصدقاء كثيرون! (نسرين) تعرفهم أفضل مني!"

  - "من (نسرين)؟"

  - "صديقتها المقربة.. كأنهما أختان!"

    جيد.. لا أحد يعرف أسرار الأنثى سوى أقرب صديقاتها، سأعمل على الحصول على إفادة (نسرين) هذه بنفسي، لكن بقي فرد واحد غير موجود: الابن الآخر، شقيق المجني عليها، هل هي حقًا مجني عليها؟!

  - "ابني (عمرو) سافر منذ أسبوع إلى شرم، وقد اتصلنا به وأبلغناه بما حدث، ونتوقع قدومه في أية لحظة.."

  - "هل ثمة خلاف بينهما، مؤخرًا أقصد.."

    الأخ الشقيق أكثر الناس استعدادًا للشجار مع أخته، واستفزازًا لها، ودفعها للانتحار، هذا شيء أعلمه جيدًا.

  - "إطلاقًا.. إنهما حتى من النادر أن يلتقيا معًا.."

    تبًا للأثرياء !

***

(2)

    القضية سهلة ومحلولة مسبقًا، أنتظر فقط تقرير الطبيب الشرعي، لأكتب أنها انتحرت نتيجة ظروف نفسية سيئة ألمت بها، أحتاج فقط التفاصيل لأريح ضميري، وأنوه إليها في التقرير تنويهًا، ليس في القضية شيء مثير للاهتمام أو الفضول!

    لكن النقيب (عادل) بدا لي فعلًا يشعر بالحيرة والفضول، وهو يضع تلك الأوراق أمامي، ويحك في شعره بطريقة مرتبكة، ويقول:-

  -"هناك شيء ما ليس على ما يرام سيدي.."

    هذا يضايقني، فلم أعد - كما كنت قديمًا - متحمسًا للقضايا الغامضة وحل الألغاز، أريد أن أنتهي من أية قضية بسرعة، دون قلق أو توتر، وقد بدت لي هذه القضية مناسبة جدًا لما أريد.. فماذا عندك يخالف ذلك؟ هات ما لديك!

  - "لقد وجدت دفترًا تستخدمه الفتاة كمفكرة شخصية، تدون بها بعض الأمور الخاصة بها، أشياء تريد شراءها، أرقام تليفونات لبعض صديقاتها، أسماء أغان وأفلام وفنانين، أسماء أماكن تناسب النزهات، وما شابه ذلك.. لكني بجانب هذا وجدت أسماء غريبة.."

    أشار إلى عدة مواضع بالدفتر، وقربه مني لأقرأ المكتوب: (هيمنغواي) – (هتلر) – (خليل حاوي) – (فان جوخ) – (غازي كنعان) – (داليدا) – (دونالد كوبين) – (تومبسون يونج) – (روبن ويليامز) – (إلفيس بريسلي) – (مارلين مونرو) – (كريس بينوا) – (هنريك هيملر) – (توني سكوت) ........!

    ما هذا؟! هناك أسماء أخرى أيضًا متناثرة في بعض الصفحات، أعرف بعض هذه الأسماء، وأجهل البعض الآخر، أعرف (مارلين مونرو) ممثلة، (هتلر) زعيم سياسي وعسكري، (داليدا) أظنها مطربة، (كريس بينوا) أظنه مصارعًا، أليس كذلك؟ لنقل إنها شخصيات كانت معجبة بها، لنفترض أنها ثرية مثقفة، هذا نادر جدًا لكنه وارد!

    النقيب (عادل) يجيب:-

  - "فئات مختلفة، سياسيون.. عسكريون.. فنانون. رياضيون.. أدباء.. ما الرابط بينهم؟ الإجابة: أنهم جميعًا ماتوا منتحرين!!"

    ماذا؟! ممم.. ومع ذلك لا أجد الأمر غريبًا، بل يدل على أن الفتاة كانت تفكر في الانتحار منذ زمن، وتطالع قصص المشاهير الذين قضوا نحبهم منتحرين.. هذا طبيعي.. لعلها كانت تبحث عما يحفزها على الانتحار.. تبًا لها!

  - "انتحروا بطرق مختلفة: من أطلق على نفسه الرصاص، ومن تجرع السم، ومن شنق نفسه.. و.....!"

    قاطعته بسأم:-

  - "هذا طبيعي يا بني.. يبدو أنها كانت تنتقي طريقة الانتحار الملائمة لها، كما تنتقي ثيابها من صفحات الموضة.. الأمر طبيعي جدًا.."

    لكن الأحمق ما زال مصرًا على التوتر، ويسعى إلى نقل التوتر إليّ بإلحاح، فتح إحدى الصفحات، وأشار إلى كلمات مكتوبة بخط رديء للغاية، وقال لي:-

  - "اقرأ هذا لو سمحت يا سيدي!"

    بعض الكلمات واضحة، لكن البعض الآخر يصعب قراءته، ساعدني أيها الأحمق..

  - "(ريد) لطالما كنت ملهمًا لي، لقد اجتهدت كثيرًا في السير على خطاك، كما عانيت طويلًا في سبيل الاستقلال عنك، والخروج من ثوبك، لقد استطعت أن أصنع أعمالًا عظيمة، نالت كثيرًا من الجوائز، وحققت إيرادات ضخمة، لكني أعرف أنها لا تساوي شيئًا بجانب ما قدمته أنت.. أعترف بأني حقدت عليك طويلاً.. لكني أحببتك أكثر.. ثق بهذا.. وأنت يا (دين)، تعرف أني أكثر المؤمنين بموهبتك، لكنك كل مرة كنت تبهرني بالمزيد من إمكاناتك، أنت ثروة لا تقدر بثمن.. كلاكما – (ريد)، و(دين) – ثروة لا تقدر بثمن، وأعلم أني سأفتقدكما كثيرًا، وأعلم أيضًا أنه لن يفتقدني أحد سواكما.. الوادع!"

    لست بحاجة إلى كثير من الذكاء لأكتشف أنها رسالة انتحار، لكن من (ريد) ومن (دين) هذان؟ إنها أسماء أجنبية، ما علاقتهما بهذه البنت؟

    قال (عادل):-

  - "عذرًا يا سيدي.. بل السؤال من كاتب هذه الرسالة ومرسلها؟ هذا خطها، لكن ليست كلماتها، المتحدث شخص آخر.."

    نعم.. يبدو لي ذلك، تتحدث عن أعمال نالت جوائز، وحققت أعلى الإيرادات، تتحدث كما لو كانت .....! قطع (عادل) أفكاري قائلاً بمزيج من الحماسة والتوتر:-

  - "كما لو كانت المخرج السينمائي (توني سكوت)، الذي ألقى نفسه من فوق جسر فينسنت توماس بلوس أنجليس عام 2012م.. (ريد) هو شقيقه الأكبر المخرج (ريدلي سكوت)، و(دين) هو الممثل الأمريكي الأسمر (دينزل واشنطن)!!"

    أها.. تبًا !! أنا لا أعرف هذه الأشياء، ولا أتابع السينما الأجنبية، ولا أعرف أصلًا كيف يعرف (عادل) هذه الأسماء بهذا التمكن! لكن أين المشكلة؟ فتاة مراهقة مدللة، أصيبت بهوس الانتحار، وراحت تبحث في قصص المشاهير المنتحرين، وتنقل رسائل الوادع الخاصة بهم، أين المشكلة؟ (عادل) ضابط مباحث مثقف، ولهذا السبب أمقت المثقفين كثيرًا، لأنهم يتكلمون كثيرًا دون طائل، ويوهمونك بأنك يقولون شيئًا مهمًا..

  - "سيدي.. هذه الرسالة لم يكتبها (توني سكوت)!!"

    يا إلهي! هل أضربه؟ أم ماذا أفعل؟ منذ قليل كان يقول كتبها (توني سكوت)، والآن يقول: لم يكتبها (توني سكوت)، تبًا لك ولـ (توني سكوت)! أريد أن أنهي هذا العبث!

  - "سيدي افهمني أرجوك.. صحيفة ديلي بريز نقلت عن مسئول بحرس السواحل الأمريكي أنه عثر على رسالة انتحار داخل سيارة (سكوت) التي كانت تقف على الجسر المعلق، الذي ألقى بنفسه من فوقه، لكن مضمون الرسالة لم ينشر، بناء على رغبة العائلة، واحترامًا لخصوصيتها، لا أحد يعرف ماذا كتب (توني سكوت) في رسالة وداعه سوى أسرته والشرطة، هذه الكلمات في دفتر الفتاة مكتوبة على لسانه، لكنها ليست رسالة منه حقيقة!!"

    أحتاج إلى وقت لأستوعب هذا! ليس هو من كتب هذه الرسالة إلى (ريد) و(دين)، من (ريد) و(دين)؟؟ آه شقيقه وممثل أسمر آخر، إذن هناك من يكتب على لسانه باعتبار أنه هو، هل يقصد أن الفتاة كتبت هذا؟ تقمصت شخصيته أعني؟!

    قال (عادل) كأنه يلقي محاضرة:-

  - "هناك رسام مشهور اسمه (فان جوخ) انتحر بإطلاق الرصاص على نفسه عام 1890م، فقام كاتب سوري معاصر اسمه (نبيل صالح) بتأليف رسالة وداع على لسان (فان جوخ)، صاغها بطريقة أدبية رائعة، لكن هذه الرسالة انتشرت عبر الإنترنت باعتبار أن (فان جوخ) نفسه كتبها! كثير من الناس يظنون هذا فعلًا.. لا يعرفون أنها كتبت بعد وفاته بعشرات السنوات"

    يبدو لي الآن أن (عادل) أصبح رجل شرطة بالخطأ، هذا المجال لا يناسبه أبدًا، في الشرطة لست بحاجة لأن تكون ذكيًا ومثقفًا، بل يكفي جدًا أن تكون نشيطًا وحازمًا، أغلب ضباط الشرطة حاصلين على درجات متوسطة في الثانوية العامة، والتحقوا بالشرطة بالمحسوبية، فلا يشترط عندنا التفوق والنبوغ، المهم الولاء والحزم.. مشكلة (عادل) أنه ليس حازمًا، لكنه مثقف إلى درجة مريعة، لا تليق بشرطي.. لكن ماذا يعنينا من هذا كله؟ ما الفائدة التي سنكتسبها من هذا؟

    فوجئت به يشير إلى صفحة أخرى، كلمات مكتوبة بذات الخط الرديء، وهذه المرة قرأها هو بنفسه، بعد أن تنبه لعدم اكتراثي بالأمر:-

  - "أعرف جيدًا ما سيفعله بي (ابن أبي رغال)، سيتسلى أولًا بإهانتي وإذلالي، سيعمل على سلب كبريائي وحزمي، سيستعمل كل طريقة متاحة لتحقيق ذلك، ولن يرحمني حتى بعد أن يحصل على ما يريد، بل سيتسلى ويتفنن في تعذيبي وقتلي، سيفتك بي بأسوأ طريقة، لقد كان يمقتني بشدة وأنا أعمل معه، وكان يقول لجلسائه – ويصلني قوله – : (يا لخيلائه! ما نظرت إلى مشيته إلا هممت بقتله).. فماذا في قلبه الآن مني بعد أن تمردت عليه وأهنته وأذللته وأرغمته على الفرار مني مرارًا؟! لن أمنحكم الفرصة أيها الأوغاد، القضية بالنسبة لي لم تكن قضية دين، بل استحقاق، أنا استحققت أن أكون مكان (ابن أبي رغال)، أنا ابن أشراف كندة ووجوهها، وأمي سليلة أشراف همدان، لكن هو ابن من؟! أنا ولدت في الثراء والسؤدد، ونشأت على القيادة والرياسة، لكن هو كان بالأمس معلمًا للصبية، يضربونه على قفاه كلما غفل عنهم، ويقتات منهم البيض والأرغفة، ويتسول قطع اللحم من أوليائهم والأمراء.. ثم صار شرطيًا بصاصًا يتتبع الأخبار لينقلها إلى أسياده! من هو حتى يكون أميرًا عليّ؟! لن أمنحك شرف تعذيبي وقتلي يا (ابن أبي رغال)، أعرف جيدًا سبيل الخلاص، وسأنتهز أدنى فرصة تلوح لي!"

    نظرت إليه بتساؤل منتظرًا أن يشرح لي ما قرأه بصوته ولم أفهم منه شيئًا، من (ابن أبي رغال)؟

    قال بنفس طريقة المحاضر التي يبدو لي أنه يحبها:-

  - "(ابن أبي رغال) المراد به ها هنا (الحجاج بن يوسف الثقفي) والي بني أمية على العراق.. قائل هذه الكلمات هو (عبد الرحمن بن الأشعث) الذي كان من رجال (الحجاج)، ثم تمرد عليه، وقاد ثورة عنيفة ضد بني أمية، لكن فشلت ثورته، ووقع في الأسر، وانتحر بأن ألقى نفسه وهو مقيد بالأغلال من أعلى قصر كانوا يحتجزونه فيه، وهم في طريقهم إلى (الحجاج) ليرى شأنه فيه!!"

    لقد بدأت أستوعب الأمر، وطبعًا ابن الأشعث هذا لم يكتب هذه الكلمات حقيقة؟!

  - "بلى.. لقد راجعت كتب التاريخ كلها التي سردت تلك الواقعة، الطبري وابن كثير وابن الأثير والذهبي وغيرهم.. (ابن الأشعث) لم يكتب أية رسائل، ولم تكن لديه أدنى فرصة للكتابة أًصلًا، كانوا يحملونه إلى (الحجاج) أسيرًا مكبلًا بالأغلال، وباغتهم بانتحاره!"

   حسنٌ. ما الفائدة من هذا كله؟!

    قال في حماسة غريبة:-

  - "هناك من ينتقي هذه الشخصيات التي قتلت نفسها، ويكتب رسائل على ألسنتها، وهذه البنت تأثرت بذلك، وأرادت أن تموت على أن يكتب أحدهم رسالة على لسانها، ربما كان هناك شخص أقنعها بأنه سيفعل، وحفزها على الانتحار!"

   تبًا لهذا! لو كان هذه حقيقيًا فنحن بصدد كارثة، وسوف نعثر كل يوم على جثة منتحرة! من يكون ذلك الشخص الذي يملك مثل هذا التأثير؟ 

   لا.. أظن أن (عادل) يبالغ في استنتاجاته، وهذا كله لا يعني لي شيئًا، أنا لست مثقفًا مثل هذا الأحمق، لكني أعرف أن البنت مراهقة ثرية مدللة مرفهة، لعلها أصيبت بمرض التقمص الذي شاهدته في فيلم لـ (شادية) ونسيت اسمه، بجانب هوسها بفكرة الانتحار، هي تتقمص شخصيات المشاهير الذين انتحروا وتكتب رسائل على ألسنتهم! ما يعنيني أننا نعرف أن الفتاة انتحرت، ونعرف أنها لم تكن طبيعية في الفترة الأخيرة، ونعرف أن والديها الثريين لم يكن لديهما وقت للانتباه لحالتها! ليس في الأمر أي غرابة ولا مفاجأة. 

    لكن (عادل) يصر على إثارة غضبي وحنقي، إذ غمغم قائلًا:-

  - "لقد راجعت جميع الأوراق التي تركتها هذه الفتاة، وأجزم أنها ليست موهوبة في الكتابة لتخط مثل هذه العبارات القوية، من المستحيل أن تكون هي من كتبت تلك الرسائل!!"

    تبًا لك ولها!!

***

(3)

    توقعت أن أجدها فتاة متغطرسة مستهترة، كشأن كل فتاة ثرية ذات نفوذ.. لكني وجدت نفسي أمام فتاة هشة، ترتجف هلعًا وضعفًا، عمرها لا يتجاوز السبعة عشر، نفس عمر صديقتها المنتحرة، شعرها قصير مجعد، لا أعرف هو كذلك أم أنها جعلته هكذا على سبيل الموضة، عيناها عسليتان جميلتان، ملامحها دقيقة توحي بالرقة الشديدة، ونحيلة إلى درجة مزعجة، إنها بحاجة ماسة إلى العلاج من النحافة، لكن يبدو لي أنهم يعتبرون هذا هو القوام المثالي..

    والدها يعمل بالسلك الديبلوماسي، وقد ملأ الدنيا ضجيجًا حين علم برغبتي في الحصول على إفادة من ابنته، وأجرى اتصالات بكبار قيادات الداخلية مبديًا استياءه من الأمر، وبصعوبة نجحنا في طمأنته بأن الأمر لا يعدو كونه مجرد إفادة.. جلسة واحدة لمدة دقائق قليلة وينتهي الأمر، فلا توجد جريمة من الأساس، وبالتالي ليست ابنته متهمة بشيء، فوافق أخيرًا على الأمر، لكني حصلت على توصيات عدة من رؤسائي تطالبني بالرفق والحذر، ولم أكن بحاجة إلى تلك التوصيات، فآخر ما أسعى إليه في مهنتي إغضاب ذوي النفوذ، لقد وصلت إلى رتبة (عقيد) بالطاعة، والالتزام، وتملق رؤسائي وتحاشي غضبهم!

    على كل حال لست معنيًا بنحافتها ولا رقتها، ولا نفوذ والدها، أنا معنِيّ جدًا بالحصول على إفادتها حتى أغلق هذه القضية إلى الأبد، ثمة العديد من الجرائم ترتكب يوميًا، وثمة أوغاد كثيرون بحاجة لأن ألقيهم خلف القضبان، وهذا كله بحاجة إلى تفرغ ونشاط مني..

  - "(نسرين).. لا داعي للخوف يا صغيرتي، فليس في الأمر أي شيء يدعو إلى الخوف، فقط صديقتك المقربة انتحرت بغتة، ما المخيف في هذا؟! هذا يحدث كثيرًا في العالم يا صغيرتي.. أنا أحتاج فقط إلى إفادتك وسأرحل من هنا بلا عودة.. هل أنت مستعدة؟!"

    ازدادت ارتجافًا وهلعًا، كنا نسير في حديقة الفيلا التي تقطنها، بعد أن استأذنت والديها بالانفراد بها، حتى لا تكون تحت تأثيرهم، وبصعوبة حصلت على موافقتهما.. ثمة أريكة ها هنا، تعالى نجلس ونناقش الأمر!

  - "ماذا تعرفين عن هذا الأمر؟!"

    أجابت وهي ترتجف بشدة:-

  - "(داليا) صديقتي منذ سنوات عديدة.. أنا أقرب صديقة لها، لكنها.. مؤخرًا.. أعني.. لم أعد أراها كثيرًا، وأغلقت هاتفها، اتصلت بوالدتها أسألها عنها، فقالت لي: إنها لا تغادر المنزل.. فقمت.. أعني ذهبت.. لزيارتها.."

  - "متى كان هذا؟"

  - "قبل أن.. أعني.. قبل الـ.... أعني.. بعدة أيام!"

    نعم أفهمك.. ماذا قلتما في هذا اللقاء؟

  - "لا شيء.. كانت تقول إنها تريد العزلة بعض الوقت.. تشعر بملل أو شيء كهذا.. ثم.. ثم..!"

  - "ثم ماذا؟ قولي.. لا تخافي شيئًا!"

  - "ثم تحدثت عن (نادية).. فجأة.. قالت إنها انتحرت!"

  - "(نادية) من؟"

  - "صديقة لنا.. ماتت قبل عام في حادث سيارة‍!"

  - "ماتت في حادث سيارة!! ما دخل الانتحار ها هنا؟!"

  - "نعم.. كانت تقود سيارتها بسرعة، لم تكن تضع حزام الأمان، ارتطمت بشاحنة، ماتت في الحال.. لكني وجدت (داليا) مصممة على أنها انتحرت! تعني أنها تعمدت هذا لتقتل نفسها!"

    آه.. إنه هوس الانتحار مجددًا، كل من تعرف أنه مات من معارفها ستتصور أنه انتحر، حتى لو مات على فراشه ستزعم أنه تجرع نوعًا من السم ليست له آثار!

  - "وماذا قلت لها؟"

  - "لا شيء.. وجدتها مصممة فلم أشأ أن أجادلها في الأمر، لا أحب الحديث عن الموت!"

    لماذا؟ إن الحديث عن الموت مبهج جدًا!!

  - "ثم ماذا؟"

  - "لا شيء.. وجدتها مصممة على التحدث في أمر (نادية) فاستأذنتها وانصرفت، وطلبت منها أن تعود إلينا كما كانت من قبل.. و.... ثم... أعني... بعد أيام .....!"

    وأكملت عبارتها بالبكاء الحار، نعم أفهم.. ثم علمت أنها انتحرت.. هذا لا يفيدنا بشيء، نعرف أن فكرة الانتحار كانت تسيطر عليها قبل تنفيذها فعليًا بفترة، لكن نريد معرفة أسبابها ودوافعها، لا أحد يعجب بالانتحار في حد ذاته، حتمًا هناك سبب يدعو إليه!

  - "ماذا تعرفين عن حبيبها؟ كيف كانت علاقتهما؟"

    أعرف من خلال خبراتي: أنه إذا انتحر أحد الزوجين - أو قُتل - فالآخر هو المشتبه به الأول، وكذلك إذا كانا مجرد حبيبين، لكني أعرف أن الرجال فقط هم من ينتحرون، لم أسمع من قبل عن زوجة أو حبيبة انتحرت بسبب رجل، هذه واقعة أولى!

    لكنها هزت رأسها نفيًا، وتقلص وجهها وهي تجيب:-

  - "لا.. لا.. لم تكن تحب أحدًا على الإطلاق!"

  - "ولا صديق مقرب؟"

  - "ولا أي شيء.. كانت تكره الفتيان جدًا، وتقول عنهم: ما هم إلا حيوانات!"

    مراهقة ثرية تمقت الفتيان، وتعتبرهم حيوانات، هذا جديد أيضًا!! لكن حتمًا هناك من أوصلها لهذا الاعتقاد، شاب خذلها أو خدعها.. أن تعتقد هذا دون تجربة معينة شيء يصعب تصديقه!

    لكنها هزت رأسها مرة أخرى، وقالت:-

  - "أنا واثقة أنها لم تكن على علاقة بأحد، ولا حتى صداقة.. وكانت دومًا تشكو من تطفل الفتيان على حسابها على فيسبوك، وتقابلهم بالحظر مباشرة.. لو كان هناك شيء غير ذلك لأخبرتني.. لكن.."

  - "لكن ماذا؟"

  - "لا حظت مؤخرًا أنها تقرأ بعض القصص والمقالات لشخص ما، أخبرتني باسمه لكني لا أتذكره، ربما (محمود كذا..) أو ... لا أذكر.."

  - "هل تمانعين أن ألقي نظرة على صفحتها الشخصية على فيسبوك؟"

    أخرجت جوالها من جيب سترتها بيد مرتعشة، إنه جوال من النوع الثمين جدًا، أحدث وأغلى من جوال صديقتها، استغرقت وقتًا بدا لي طويلًا حتى فتحت حسابها على فيسبوك، ثم انتقلت إلى عرض الملف الشخصي الخاص بصديقتها!

  - "(Dali Da)!! هذا اسم حسابها؟"

  - "غيرته مؤخرًا، في السابق كان تسميه (Ana Dolly).."

    (Dali Da).. أي: (داليدا)، أعرفها، إنها تلك المطربة الفرنسية/ المصرية، التي غنت أغنية (سالمة يا سلامة).. أعرف أنها ماتت منتحرة أيضًا، بنفس طريقة هذه الفتاة في الانتحار !!

    لا يوجد شيء غير عادي على صفحتها، منشورات عادية جدًا، أغلبها صور فكاهية تحتوي على نكات ساخرة، وبعض مشاركات لحكم وخواطر من صفحات أدبية، صور أزياء وأحذية حديثة، صور شخصية لها التقطتها لنفسها.. مممم.. لا يوجد أشياء رومانسية على الإطلاق! أحتاج إلى فراغ وبال رائق لأتابع المزيد على صفحتها، وسأطلب من الزملاء في مباحث الإنترنت اختراق حسابها لأطلع على رسائلها الخاصة، سيرحبون بذلك بكل تأكيد، إنهم يتحمسون جدًا لهذه الأشياء، خاصة إذا كان الحساب لبنت مراهقة!

  - "شكرًا لك يا (نسرين). لم نخرج منك بكبير فائدة، لكن لا نتوقع منك أكثر من ذلك.. بلغي تحياتي لوالدك ولا تنسي أن تعالجي نفسك من النحافة قبل أن تتلاشي.. إلى اللقاء!"

***

(4)

   - "اسمه (هانيبال) - بالعربية (حنبعل) - على اسم القائد القرطاجني الذي كاد يقضي على إمبراطورية روما.. كاتب قصص مغمور، لم يعثر على طريق الشهرة قط! فراح ينشر أقاصيصه على فيسبوك، وقصصه كلها تدور حول الانتحار!"

    كان (عادل) منتشيًا كمن عثر على كنز! أحسده على هذا الحماس، لم أكن أتحلى به حتى في شبابي، ولا يتوقع مني أن أشاركه هذا الحماس..

    استطرد في نشوة:-

  - "يتقمص شخصيات المشاهير المنتحرين، ويكتب قصصًا عنهم، يسرد فيها معاناتهم، ويسوق الأحداث والرسائل على ألسنتهم!"

    راح يعطي أمثلة:-

  - "كتب عن (هتلر).. (إلفيس بريسلي).. (روبن ويليامز).. (زنوبيا).. (كليوباترا).. (توني سكوت).. (ابن الأشعث).. (خليل حاوي).. (فيرجينيا وولف).. وغيرهم الكثير.. لقد طالعت بعضًا من هذه القصص، أسلوبه شائق للغاية!"

    لقد وصل تقرير الطب الشرعي، الذي أثبت أنه مجرد انتحار كما هو واضح لنا جميعًا من أول وهلة، كنا نبحث عن السبب وعثرنا عليه أخيرًا، ودون جهد كبير.. واصل (عادل) بجذل غريب:-

  - "ستكون قضية رأي عام!"

    نعم هذا مبهج، لم أمسك بقضية تهم الرأي العام من قبل، ربما أظهر في التلفاز.. لكن يجب أولًا أن نراجع ما توصلنا إليه جيدًا، لأرتب ما سأقوله لقياداتي أولًا، ثم لوسائل الإعلام لو سُمح لي بذلك فيما بعد! لنرتب أفكارنا: هناك شخص موهوب يكتب قصصًا مشوقة عن الانتحار، تتناول حياة المشاهير المنتحرين..

  - "مباحث الإنترنت تبحث عنه الآن! سيتوصلون إليه قريبًا.."

    نعم.. البنت الثرية المراهقة عرفت صفحته، وانجذبت لأسلوبه!! وتأثرت به بشدة، وأصابها ذلك الهوس والتقمص، ومع الوقت استهوتها الفكرة حتى أقدمت على تنفيذها!

  - "وجدنا صفحته من بين الصفحات التي تتابعها على حسابها بفيسبوك! وتفاعلت مع قصصه الأخيرة جميعها!"

    تبًا للأثرياء! بدلًا من أن تقتني كلبًا، أو تصادق فتى غريرًا، أقبلت على قصص الانتحار، أية هواية هذه! الآن يجب علينا أن نتوصل إلى هوية هذا الكاتب بسرعة، قبل أن يتسبب في انتحار آخرين، ولا نلاحق على جثث الشباب!

    قال (عادل) معترضًا:-

  - "لكن يا سيدي ما تهمته؟ إنه مجرد كاتب قصص!"

    تبًا لك أنت أيضًا! وهل هذا أمر يتطلب التمسك بالقانون حرفيًا؟ المهم أن نقبض عليه ونوجه إليه أية تهمة من أي نوع، أنا عن نفسي على أتم استعداد لتهشيم أصابع يديه، وفقء عينيه، إن كان لا سبيل يضمن لنا عدم عودته لهذه الكتابات سوى هذا، هناك حيوات على المحك يا فتى، وهذه حقيقة عملنا: إنقاذ حياة الناس، وردع أي خطر يتهددها!

  - "لكن يا سيدي.......!"

  - "اخرس.. لا نقاش في هذا!"

    أنا رجل شرطة، مهمتي الحفاظ على حياة الناس، ولن أكون غير ذلك.. كن أنت ما تشاء!

    ابتعدت عنه في ضجر، يجب أن أتصرف، أول شيء لا بد أن أعرف من هو، ثم أغلق صفحته أو أية صفحة أخرى يمكن أن ينشئها مستقبلًا..

  - "مساء الخير سيادة العقيد!"

   إنه الرائد (مجدي) من مباحث الإنترنت، أكيد لديه شيء بخصوص ذلك الكاتب!

  - "لقد توصلنا إلى هويته من خلال الآي بي الخاص بمتصفحه.. اسمه (محمود محمد عبد الباري) عمره خمسة وعشرون سنة فقط، خريج كلية الآداب، وعاطل عن العمل.."

  - "أعطني عنوانه بسرعة، يجب أن أقبض عليه قبل أن ينتبه ويفر!"

  - "للأسف سيدي.. لقد انتحر منذ أيام قليلة!"

    ماذا؟!!

  - "وجدوه في الصباح يتدلى من السقف بحبل من عنقه، ترك رسالة غريبة!"

  - "ماذا تقول الرسالة؟"

  - "لحظة أقرأها لك.. نعم ها هي.. يقول: (إلى هؤلاء الذين ينتظرونني على الضفة الأخرى، أعرف أني أبطأت عليكم، وآسف لذلك، كنت أحاول تنبيه الآخرين، بعضهم تنبّه بالفعل، وسبقني إلى الضفة الأخرى، آمل أن يلحق بي المزيد، وأشفق كثيرًا على أولئك الغافلين.. أنا قادم إليكم بالأشواق!).. انتهت.. سيادة العقيد أما زلت معي؟ سيادة العقيد؟"

  - ".............!!"

***

(5)

   كم هو مثير ضعف الإنسان أمام المؤثرات الخارجية، والأشياء التي تدفعه للموت، حين بحثت في الأمر على الإنترنت طالعتني أشياء غريبة جدًا كانت سببًا في انتحار كثير من الشباب: أغنية تركية تسببت في مقتل أربعين شخصًا خلال ثلاث سنوات، اسمها: (هذا المساء أموت) لمطرب لم أتمكن حتى من قراءة اسمه!

                             سأموت هذه الليلة ولن يستطيع أحد منعي

                             أنت لا يمكنك منعي، والنجوم لا تستطيع منعي

                             سأسقط من عينيك كأني أسقط من هاوية

                             عيناك لن تستطيعا منعي

    كلمات مقبضة، ولحن مقبض، وصوت المطرب ذاته مقبض، لكني لا أتخيل أن يموت شخص لمجرد سماعه هذا! هل هناك فعلاً بشر بهذا الضعف والخواء؟!

    قال لي (عادل):-

  - "في الستينات ظهرت أغنية أجنبية اسمها (جولة منتصف الليل)، تسببت في موت العشرات، ثمة أغانٍ أخرى أحدثت نفس التأثير في مناطق أخرى بالعالم!"

    يا للسخف! ما كنت لأنتحر بسبب أغنية على الإطلاق، لطالما سمعت في طفولتي وصباي وشبابي (عبد الحليم حافظ) وهو يغني (جبار) بحرقة شديدة، تراني لِمَ لمْ أنتحر؟! كما أني لم أسمع عن أحد من الأجيال التي عايشتها في صغري وشبابي انتحر بسبب أغنية!

    الآن ينتحرون بسبب أغنية.. بسبب لعبة على الإنترنت.. بسبب أي شيء سخيف! من المتهم في الحقيقي، من يغني ويكتب، أم من يتأثر وينتحر؟ أم الأسر التي تهمل في رقابة أبنائها؟! أم كل ذلك معًا؟!

    أنا لديّ أربعة أبناء لا أتحمل أن تصيبهم شوكة، فما ظنك بالانتحار؟ وكيف أضمن ألا يصيبهم ذلك؟

***

    أعود إلى البيت منهكًا، اعتدت هذا لدرجة أني لم أعد أعرف هل أكون منهكًا بسبب العمل أم بسبب العودة إلى البيت! تستقبلني زوجتي كالعادة بوفاء الزوجة القديمة التي لم يعد لها وجود هذه الأيام! وكالعادة أسألها بينما هي تجلب لي ثياب المنزل عن الأولاد.

  - "(مروان) بالخارج كعادته، يأتي إلى البيت متأخرًا، (أسامة) خرج يجلب شيئًا من الخارج منذ قليل وسيعود في أية لحظة، الصغيرة عند جدتها منذ الصباح!"

  - "و(نوال)؟!"

    طفلتي المراهقة، لقد طرقت عامها الرابع عشر منذ أيام، ومتفوقة في دراستها، ليست البكر، ولا آخر العنقود، ومع ذلك أحبها أكثر من إخوتها، وأشعر أنها أقربهم شبهًا لي!

    نفخت في ضيق وقالت:-

  - "هذه هي التي ستقتلني غيظًا.. لا أدري ماذا دهاها هذه الأيام!!"

  - "ما بها؟!"

  - "لا تغادر حجرتها، وأغلقت هاتفها، وصديقاتها يتصلن بي يسألنني عنها وعن انقطاعها عنهن، وكلما سألتها عما يحدث، تقول لي: لا شيء.. أشعر ببعض الملل!!"

    يا إلهي! ماذا تقولين؟

    لم أكن قد انتهيت من استبدال ثيابي بعد، لا ريب أني ركضت إلى حجرة ابنتي بالملابس الداخلية وحدها، ومن المؤكد أني لم أطرق باب الحجرة قبل اقتحامها، لأجدها منكفئة على اللاب توب في انهماك كامل..

    لا ريب أنها فزعت بشدة، وأنا اقتحم حجرتها بهذا الشكل..

  - "أبي؟! ماذا هنالك؟!"

    ماذا أقول لها؟ الموقف كله مرعب..

  - "ماذا تفعلين عندك؟ ولماذا تحبسين نفسك في غرفتك وتغلقين هاتفك؟"

    كانت تنظر إليّ بدهشة ممزوجة بالفزع.. لكنها قالت بتماسك:-

  - "وما الضير من ذلك؟"

    حاولت أن أتماسك، لأخفف من توتر الموقف، لأقترب منها بحذر وأظهر الحنوّ بدلًا من الحزم، أجلس بجوارها على الفراش، وأربت على كتفها برفق..

  - "لا شيء.. فقط أشعر – كأي أب يحب ابنته – بشيء من القلق!"

    بدا عليها الارتياح، واعتدلت جالسة وهي تقول:-

  - "لا تقلق يا أبي.. أنا بخير.. فقط أشعر بشيء من الملل!"

    تبًا! كأنه مشهد معاد رأيته من قبل.. ابتلعت ريقي بصعوبة، وأنا أسألها:-

  - "وماذا تطالعين الآن؟!"

    أجابت ببساطة:-

  - "فيلمًا أجنبيًا مثيرًا، هلم شاهده معي، البطل ضابط شرطة ذكي ومخلص مثلك يا أبي.."

    لا أطيق الأفلام الأجنبية، لكن لا بأس أن أشاركها قليلًا لأطمئنها وأكسب ثقتها، وأفكر في الخطوة التالية.

  - "ما اسم الفيلم؟"

    أجابت بنفس طريقة النقيب (عادل):-

  - "(ديجافو).. من بطولة ممثل اسمه (دينزل واشنطن).. هذا من أروع أفلام المخرج (توني سكوت)!"

    يا إلهي! هذه الأسماء ......!

    تابعت بتأثر:-

  - "للأسف لقد انتحر هذا المخرج منذ فترة  قريبة.. ألقى نفسه من فوق جسر معلق، له شقيق أكبر يعمل بالإخراج كذلك، اسمه (ريدلي سكوت)، كلاهما قدم أفلامًا رائعة جدًا ........!!"

    تبًا!! تبًا لكل شيء!!

 

***

 

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by

articles

4

followers

0

followings

1

similar articles