
صلاح الدين الأيوبي: فارس الإسلام وموحد الأمة محرر القدس
عندما يذكر التاريخ قادةً جمعوا بين الحكمة والشجاعة، والرحمة والقوة، يقف اسم صلاح الدين الأيوبي في الصفوف الأولى. إنه القائد الذي وحّد صفوف المسلمين، وكسر شوكة الصليبيين، واستعاد القدس بعد احتلال دام قرابة تسعين عاماً. لكن وراء هذا المجد العسكري والبطولات المهيبة، قصة إنسانية ملهمة، تبدأ من نشأة متواضعة وتربية صالحة، وتنتهي بمجد خالد يخلده التاريخ.
النشأة والبدايات
ولد يوسف بن أيوب، الملقب بـصلاح الدين الأيوبي، في مدينة تكريت شمال العراق، عام 532هـ. كان والده نجم الدين أيوب وأخوه أسد الدين شيركوه من قادة جيش الدولة الزنكية. نشأ صلاح الدين في بيئة عسكرية، لكنه لم يكن منذ صغره ميالاً للحرب بقدر ما كان مولعاً بالعلم والفقه، حيث درس القرآن الكريم والحديث الشريف، وتعلم الفقه الشافعي.
انتقلت الأسرة إلى حلب ثم إلى دمشق بعد أن عُيّن والده حاكماً للبعلبك. في دمشق، تعمقت ثقافة صلاح الدين الدينية والعسكرية، وتعلم الفروسية وفنون القتال، لكنه احتفظ بروح متواضعة ونفس محبة للخير.
في خدمة نور الدين زنكي
التحق صلاح الدين بخدمة نور الدين محمود زنكي، حاكم الشام وأحد أبرز القادة المسلمين في ذلك العصر، والذي كان يهدف لتوحيد صفوف المسلمين لمواجهة الصليبيين. لفت صلاح الدين الأنظار بذكائه وولائه، وشارك في حملات عديدة تحت راية نور الدين، ما أكسبه خبرة عسكرية وإدارية كبيرة.
رحلته إلى مصر وبداية الصعود
عام 564هـ/1169م، أرسل نور الدين جيشاً بقيادة أسد الدين شيركوه إلى مصر لمواجهة النفوذ الصليبي والفاطمي، وكان صلاح الدين أحد قادة هذا الجيش. وبعد وفاة شيركوه، عُيّن صلاح الدين وزيراً للخليفة الفاطمي العاضد لدين الله، لكنه بدأ يعمل على إعادة مصر إلى الخلافة العباسية وتطبيق منهج أهل السنة.
في غضون سنوات قليلة، تمكن صلاح الدين من توطيد سلطته في مصر، وأعاد تنظيم جيشها، وأسس أسطولاً بحرياً قوياً، مما جعله قوة يحسب لها حساب في المنطقة.
توحيد مصر والشام تحت راية واحدة
بعد وفاة نور الدين زنكي عام 569هـ/1174م، واجه صلاح الدين تحديات كبيرة في توحيد مصر والشام، لكنه تمكن بحنكة سياسية وبسالة عسكرية من ضم دمشق وحلب وحمص وحماة إلى سلطته، لتصبح جبهته قوية ومهيأة لمواجهة الصليبيين.
الصدام مع الصليبيين
كانت الحملات الصليبية قد أقامت ممالك وإمارات في الشام وفلسطين منذ أواخر القرن الحادي عشر، وكان الصليبيون يسيطرون على القدس منذ عام 492هـ/1099م. بدأ صلاح الدين سلسلة من الحملات ضدهم، فاستعاد عدة مدن وحصون استراتيجية، وأضعف قوتهم العسكرية تدريجياً.
معركة حطين: الانتصار الحاسم
بلغ الصراع ذروته في معركة حطين عام 583هـ/1187م، حيث تمكن صلاح الدين من إلحاق هزيمة ساحقة بالصليبيين بقيادة ملك بيت المقدس غي دي لوزينيان. أسفرت المعركة عن أسر عدد كبير من قادة الصليبيين، واستعادة السيطرة على معظم فلسطين.
تحرير القدس
بعد انتصار حطين، توجه صلاح الدين إلى القدس، فحاصرها في سبتمبر 1187م. وبعد قتال قصير ومفاوضات، دخل المدينة في 27 رجب 583هـ، وأمر برفع الأذان في المسجد الأقصى للمرة الأولى منذ تسعين عاماً. أظهر صلاح الدين تسامحاً عظيماً مع سكان القدس المسيحيين، حيث سمح لهم بمغادرة المدينة بأمان مقابل فدية رمزية، مخالفاً بذلك ما فعله الصليبيون حين دخلوا القدس وقتلوا أهلها.
الفتوحات الأخرى
لم يقتصر جهاد صلاح الدين على القدس، بل واصل تحرير المدن الساحلية والحصون مثل عكا ويافا وبيروت وصفد. كما عمل على تحصين دمشق والقاهرة وبناء القلاع والاستحكامات لمواجهة أي هجوم صليبي جديد.
الصفات الشخصية والقيادية
كان صلاح الدين نموذجاً للقائد المسلم الذي يجمع بين الإيمان العميق والقدرة العسكرية الفذة. تميز بـ:
التواضع: عاش حياة بسيطة رغم سلطانه الواسع.
الكرم: أنفق أمواله في سبيل الله وأعمال البر.
الرحمة: حتى مع أعدائه، كان يعامل الأسرى والجرحى معاملة إنسانية.
العدل: أقام العدل بين رعيته دون تفرقة بين مسلم أو غير مسلم.
وفاته وإرثه
توفي صلاح الدين الأيوبي في دمشق عام 589هـ/1193م عن عمر ناهز 56 عاماً، بعد حياة حافلة بالجهاد والبناء. ترك إرثاً عظيماً من القيم والمبادئ، وظل اسمه خالداً في ذاكرة الأمة الإسلامية والعالم أجمع.
التأثير في التاريخ والذاكرة
أصبح صلاح الدين رمزاً للوحدة الإسلامية والتحرر، وتغنى ببطولاته الشعراء ودوّن المؤرخون مآثره. كما ظل مثالاً يحتذى به في القيادة الحكيمة والأخلاق الرفيعة حتى بين خصومه من الصليبيين.
خاتمة
صلاح الدين الأيوبي لم يكن مجرد قائد عسكري، بل كان مشروعاً حضارياً متكاملاً، أعاد للأمة الإسلامية هيبتها ووحدتها، وكتب صفحة مضيئة في تاريخ القدس وفلسطين. سيرته درس خالد في أن النصر لا يتحقق إلا بالوحدة، وأن المجد يصنعه الإيمان والعمل معاً.