
قصة عودة الفاتح
عودة الفاتح

البداية في الجنوب
كَانَ الْجَنُوبُ سَاكِنًا لَكِنَّهُ لَا يَنَامُ. فِي قُرًى الطَّمْيِ وَالنِّيلِ، حَيْثُ يَطْوِي النَّاسُ أَيَّامَهُمْ عَلَى صَبْرٍ قَدِيمٍ، وُلِدَ مُصْطَفَى... لَا يُشْبِهُ غَيْرَهُ مِنْ أَبْنَاءِ جِيلِهِ، لَمْ يَكُنْ مَفْتُونًا بِالْمُسْتَقْبَلِ، بَلْ كَانَ مَشْدُودًا إِلَى الْوَرَاءِ، إِلَى حَيْثُ تَنْبُعُ الْحَكَايَاتُ مِنْ فَمِ الزَّمَانِ.
كَانَ إِذَا قَرَأَ عَنْ عُمَرَ، أَوْ سَمِعَ خُطْبَةَ عَلِيٍّ، أَوْ تَخَيَّلَ صَوْتَ بِلَالٍ، يَسْرِي شَيْءٌ فِي جَسَدِهِ... كَأَنَّ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ لَمْ تَرْحَلْ، وَكَأَنَّ فِي دَاخِلِهِ بَابًا مَفْتُوحًا عَلَى عَصْرٍ آخَرَ.
وَقَدْ كَانَتِ الْبِدَايَةُ... مِنْ كِتَابٍ غَرِيبٍ، وَصَفْحَةٍ لَمْ تَكُنْ كَبَاقِي الصَّفَحَاتِ.
---
مصطفى وأحلامه
فِي قَلْبِ صَعِيدِ مِصْرَ، وَتَحْدِيدًا فِي قَرْيَةٍ مَنْسِيَّةٍ بَيْنَ الْجِبَالِ وَالنِّيلِ بِمُحَافَظَةِ قِنَا، كَانَ مُصْطَفَى يَعِيشُ بَيْنَ أُسْرَتِهِ الْبَسِيطَةِ. بَيْتُهُمْ قَدِيمٌ، جُدْرَانُهُ تَتَنَفَّسُ مِنْ حَرَارَةِ الشَّمْسِ، وَسَقْفُهُ لَا يَصُدُّ الْمَطَرَ، لَكِنَّهُ مَلِيءٌ بِالْحُبِّ.
مُصْطَفَى لَمْ يَكُنْ كَكُلِّ أَقْرَانِهِ، كَانَ فِي السَّابِعَةِ عَشَرَةَ، طَالِبًا بِالصَّفِّ الثَّالِثِ الثَّانَوِيِّ، يُذَاكِرُ بِاجْتِهَادٍ حَتَّى يَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِامْتِحَانَاتِ الثَّانَوِيَّةِ الْعَامَّةِ، كَانَ يَحْلُمُ بِمَا وَرَاءَ الْوَرَقِ.. يُحِبُّ التَّارِيخَ، يَقْرَأُ عَنِ الصَّحَابَةِ كَأَنَّهُمْ أَصْدِقَاءُ لَهُ، وَيَتَأَمَّلُ اللَّيْلَ الطَّوِيلَ كَأَنَّهُ يَنْتَظِرُ شَيْئًا لَا يَعْرِفُهُ.
حوار مع الأسرة
والده (فِي صَبَاحِ يَوْمِ جُمُعَةٍ وَهُوَ يَشْرَبُ الشَّايَ عَلَى الْمِصْطَبَةِ):
> “يَا بُنَيَّ، ذَاكِرْ! مَعَاكَ امْتِحَانَاتْ، سِيبْكَ مِنِ الْكَلَامِ الْفَاضِي دَه! عَشَانْ تِطْلَعْ دُكْتُور!”
أُمُّهُ (مِنَ الدَّاخِلِ):
> “دُكْتُور إِيه! أَنَا ابْنِي هَيْطْلَعْ مُهَنْدِس قَدِّ الدُّنْيَا!”
مصطفى (ضَاحِكًا):
> “دُكْتُور وَمُهَنْدِس إِيه! أَنَا أَدَبِيٌّ أَصْلًا.”
الْوَالِدُ وَالْوَالِدَةُ:
> “يَعْنِي إِزَّاي أَدَبِي؟!”
مُصْطَفَى:
> “بِهَزَّرْ! بَسَّ أَنَا مِشْ هَطْلَعْ دُكْتُور وَلَا مُهَنْدِس، أَنَا هَخْتَارْ بِنَفْسِي اللِّي عَايِزُه.”
مع الأصدقاء
فِي الْمَسَاءِ، يَجْتَمِعُ مُصْطَفَى مَعَ أَصْدِقَائِهِ تَحْتَ شَجَرَةِ الْجُمَّيْزَةِ، بَعْضُهُمْ يَتَحَدَّثُ عَنِ الْمَاتْشِ، وَآخَرُونَ عَنْ امْتِحَانِ الْفِيزْيَاءِ، أَمَّا مُصْطَفَى، فَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَكَأَنَّهُمْ سَمِعُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى الرَّادْيُو.
---
الكتاب الغامض
فِي إِحْدَى اللَّيَالِي، بَيْنَ دَفَاتِرَ قَدِيمَةٍ وَرِوَايَاتٍ مَرْمِيَّةٍ فِي خِزَانَةِ جَدِّهِ، وَجَدَ مُصْطَفَى كِتَابًا غَيْرَ مَعْلُومِ الْمَصْدَرِ.
عَلَى صَفْحَتِهِ الْأُولَى كُتِبَ:
> “مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرَى النُّورَ... فَلْيَقْرَأْ هَذَا السِّفْرَ.”
تَمْتَمَ مُصْطَفَى:
> “شَكْلُهَا لَيْلَة غَرِيبَة... نُشُوف.”
مَا إِنْ فَتَحَ الصَّفْحَةَ حَتَّى بَدَأَ كُلُّ شَيْءٍ يَتَغَيَّرُ…
---
العودة إلى زمن الفاروق
اسْتَفَاقَ مُصْطَفَى وَهُوَ مُلْقًى فِي زُقَاقٍ ضَيِّقٍ، وَالسُّوقُ يَعُجُّ بِالنَّاسِ وَالْخُيُولِ وَالْجِمَالِ.
اقْتَرَبَ مِنْهُ شَيْخٌ وَقُورٌ وَقَالَ:
> “هَذِهِ الْمَدِينَةُ الْمُنَوَّرَةُ، فِي زَمَنِ خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.”
شَهِقَ مُصْطَفَى:
> “يَا نَهَارْ أَبْيَض! أَنَا رَجَعْتُ بِالزَّمَن؟!”
أَخَذَهُ الشَّيْخُ إِلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، فَرَأَى رَجُلًا مَهِيبًا، صَمْتُهُ يُهَابُ.
قَالَ الشَّيْخُ هَامِسًا:
> “هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.”
وَقَفَ مُصْطَفَى مُنْبَهِرًا:
> “هُوَ دَه... الْفَارُوق!”
---
بين الصحابة
جَلَسَ مُصْطَفَى فِي مَجَالِسِ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَتَعَلَّمَ الْحِكْمَةَ وَالْفِقْهَ.
رَافَقَ بِلَالًا عِنْدَ الْأَذَانِ، فَشَعَرَ بِرَجْفَةٍ فِي قَلْبِهِ.
سَمِعَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ يَسْرُدُ عَنْ الْيَرْمُوكِ، فَجَرَتْ دُمُوعُهُ.
وَحِينَ نَاوَلَهُ خَالِدٌ سَيْفَهُ، وَقَعَ مُصْطَفَى مِنْ ثِقَلِ السِّلَاحِ، ثُمَّ قَالَ مَازِحًا:
> “السَّيْفُ دَه مِشْ سَيْف... دَه عِمَارَة!”
كَانَ يَعِيشُ بَيْنَهُمْ، لَكِنَّهُ يَدْرِي أَنَّ رِحْلَتَهُ مُؤَقَّتَةٌ، وَأَنَّ لَهُ مَهمةً سَتَتَّضِحُ فِي الْوَقْتِ الْمُقْبِلِ.
---
فتح القدس
سَارَ مُصْطَفَى مَعَ الْجَيْشِ الْإِسْلَامِيِّ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَرَأَى الْفَارُوقَ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ مُتَوَاضِعًا، رَافِضًا أَنْ يُصَلِّيَ فِي كَنِيسَةِ الْقِيَامَةِ كَيْ لَا يَتَّخِذَهَا الْمُسْلِمُونَ مَسْجِدًا بَعْدَهُ.
وَقَفَ مُصْطَفَى وَالدُّمُوعُ تَسِيلُ:
> “كَيْفَ تَغَيَّرَ الْحَالُ؟ كَيْفَ صَارَتِ الْقُدْسُ مُحْتَلَّةً، وَالْمُسْلِمُونَ مُتَفَرِّقِينَ؟!”
---
العودة إلى قنا
اسْتَيْقَظَ فَجْأَةً، لِيَجِدَ نَفْسَهُ فِي غُرْفَتِهِ، وَالْكِتَابُ أَمَامَهُ قَدْ أُغْلِقَ.
نَظَرَ مِنْ نَافِذَتِهِ وَالشَّمْسُ تَمِيلُ لِلْغُرُوبِ، ثُمَّ أَمْسَكَ قَلَمَهُ وَكَتَبَ:
> “لَقَدْ رَأَيْتُ مَا كَانَ، وَأَتَمَنَّى أَنْ أَرَى مَا سَيَكُونُ.”
---
الخاتمة
القِصَّةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ حُلْمٍ، بَلْ رِسَالَةٌ:
الأُمَّةُ لَنْ تَمُوتَ مَا دَامَ فِيهَا قَلْبٌ يَنْبِضُ بِالْعَدْلِ وَالْإِيمَانِ، وَمَا دَامَ هُنَاكَ جِيلٌ يَحْمِلُ هَمَّهَا كَمَا حَمَلَهُ مُصْطَفَى.