
شقه ١٣ : (قصه رعب)
(الهدوء المزيف لعمارة قديمه)
كانت شقة 13 في قلب المدينة الصاخبة، عمارة عمرها عقود، بمصعدها النحاسي البطيء وممراتها المظلمة. بالنسبة لصديقين مثل عمر وخالد، طالبين جامعيين يسعيان للاستقلال بتكلفة معقولة، كانت الشقة صفقة لا تعوَّض. إيجارها المنخفض، مقارنة بشقق المنطقة، كان مبرراً كافياً لتجاهل الشائعات الباهتة التي تحيط بها. لم يكن خالد يكترث لقصص الرعب الحضري التي تتناقلها الألسن عن سكانها السابقين الذين "اختفوا" أو "جنّوا". كان يراها مجرد خرافات، بينما كان عمر يجد في تاريخها الغامض إثارة مبهجة في البداية.
قضى الصديقان الأشهر الأولى في سلام نسبي، متأقلمين مع ضوضاء الشارع البعيدة وصرير الأبواب القديمة. كانت حياتهما مزيجاً من الدراسة الطويلة، وجلسات الألعاب الإلكترونية، وطلبات التوصيل السريعة لوجباتهم المفضلة في المدينة. كان كل شيء طبيعياً حتى بدأت التصدعات تظهر، ليس في الجدران، بل في إحساس عمر بالواقع
ا(البداية الصامتة: الظلال والبرودة)
بدأت الأمور بغرابة هادئة. لاحظ عمر برودة غير مبررة في زاوية معينة من الصالة، تحديداً قرب خزانة الكتب القديمة التي ورثتها الشقة. هذه البرودة لم تكن طبيعية؛ كانت عميقة ومخيفة، كأنما نافذة مفتوحة على مكان آخر. تلا ذلك سماعه لـ همسات خافتة بعد منتصف الليل، أصوات تشبه نداء باسمه، أو ربما تنهيدة عميقة. في البداية، نسبها إلى الإرهاق أو جيران الطابق العلوي، لكن الهمسات كانت تأتي بوضوح من داخل الجدران.

ذات ليلة، بينما كان خالد غارقاً في النوم، استيقظ عمر على صوت سقوط كتاب من الرف. كان كتاباً سميكاً، سقط من الأعلى دون أي سبب واضح. نهض عمر، وقلبه يخفق بعنف. ما إن التقط الكتاب حتى شعر بـ طاقة سلبية قوية تجتاح المكان. الأغرب من ذلك، رأى ظلاً أسود انزلق بسرعة من زاوية الصالة نحو ممر الغرف، كان شبحاً بلا ملامح، مجرد كتلة من العتمة.
في الصباح التالي، حاول عمر أن يحكي لخالد ما حدث، وهو يحاول جاهداً أن يبدو متماسكاً: “خالد، أنا جدي، شفت حاجة في الصالة، ظل، وسمعت صوت.”
ضحك خالد، وهو يرتشف قهوته: “يا عمور، شكل أفلام الرعب اللي بتتفرج عليها بدأت تأثر على عقلك الباطن. ظل!؟ أكيد كان انعكاس ضوء العربية اللي معدية من الشارع. اهتم بمحاضرتك الجاية أحسن ما تجيب لنفسك أشباح وهمية.”
التجربة القاسية: اليد الباردة والإنكار
لم يكن إنكار خالد شيئاً جديداً، فقد كان دائماً الرجل المنطقي، الرافض لأي تفسير يتجاوز العلم. لكن الأحداث تصاعدت. بدأ عمر يشعر بوجود دائم يراقبه، حتى في وضح النهار. بدأ يجد الأبواب المغلقة مفتوحة، وأشياءه الشخصية، مثل مفاتيحه أو هاتفه، تتحرك من مكانها.
الذروة كانت في ليلة الأربعاء الأخيرة. عاد عمر من الجامعة متأخراً، ووجد خالد في غرفته يستعد للنوم. دخل عمر غرفته وأغلق الباب خلفه. بعد دقائق، شعر بـ لمسة على كتفه. كانت لمسة باردة، كأنها قطعة ثلج ذابت فجأة. التفت بسرعة، لكن لم يكن هناك أحد.
شعر بالخوف يخنقه، ركض إلى غرفة خالد وفتحه بقوة.
"خالد! قوم!" صرخ عمر، وهو يلهث، وقد كان وجهه شاحباً.
فتح خالد عينيه بكسل: “إيه يا ابني؟ حصل إيه؟ شايف جن جديد؟”
تجاهل عمر سخريته وتحدث بسرعة: “لمسني! حسيت بإيد باردة جداً على كتفي. مش تخيلات يا خالد، أنا متأكد. فيه حاجة هنا، في الشقة دي، مسكونة!”
نظر إليه خالد بنظرة مزيج من الشفقة والضجر. جلس على سريره، يدلك عينيه: “اسمعني كويس يا عمر. أنت مضغوط من الدراسة وبتنام قليل. جسمك بيتفاعل مع التوتر. اللي حسيت بيه ده كابوس يقظة، أو مجرد تشنج عضلي.”
أشار خالد إلى جهاز تكييف الهواء الصغير: “والبرودة دي عشان التكييف شغال طول الليل. مفيش أشباح ولا أي حاجة. لو فيه حاجة، كنا أنا كمان حسيت بيها.”
الهاوية بين التصديق والواقع
لم يكن إنكار خالد ليطمئن عمر. بل زاد من عزلته وخوفه. بدأ عمر يتجنب البقاء وحيداً في الشقة، يطيل البقاء في المقاهي أو مكتبة الجامعة. بينما كان خالد يعيش حياته بشكل طبيعي، ينام بعمق، ويأكل بشهية، وكأنه يعيش في شقة عادية تماماً. هذه المفارقة جعلت عمر يشك في سلامة عقله. هل جنّ فعلاً؟ هل كل هذا من نسج خياله؟
في أحد الأيام، وجد عمر مذكرة قديمة مدسوسة خلف الخزانة الباردة. كانت صفحاتها صفراء، ومكتوبة بخط متوتر. قرأ فيها عن سيدة عجوز كانت تسكن الشقة، سيدة كانت تشتكي لابنها في المذكرة عن "الهمس الذي لا يتوقف" و"الظل الذي يراقبها". العجوز كانت تكتب عن ابنها الذي "لا يصدقها" ويعتبرها "مريضة". انتهت المذكرة بعبارة مخيفة: “لقد أخذوا شيئاً مني... والآن يريدون الباقي.”
أمسك عمر بالمذكرة وركض إلى خالد. هذه المرة لم يصرخ، بل وضع المذكرة أمامه بصمت. نظر خالد في الكلمات العتيقة، ثم رفع عينيه إلى عمر، وعلى وجهه ابتسامة هادئة.
"حلوة أوي يا عمر، مين كتب القصة دي؟ واضح إنها كانت هنا من زمان، يمكن ورثتها مع الشقة." قال خالد ببساطة، وكأنه يتحدث عن قطعة أثاث قديمة. “يا صديقي، لو كل شائعة عن شقة في وسط البلد صدقناها، كنا نمنا في الشارع. بطل تهيؤات. ركّز في حياتك، وإلا الأشباح الوحيدة اللي هتشوفها هتكون في الامتحانات.”
تنهد عمر بيأس. كان يدرك الآن أن خالد لن يصدقه أبداً. لكن المذكرة لم تكن القشة الأخيرة. ففي تلك الليلة، بينما كان عمر ينام بضوء خافت، شعر بـ ثقل هائل على صدره. فتح عينيه بصعوبة ليرى الظل نفسه، كثيفاً وأسود، يجثم فوقه. سمع صوتاً، هذه المرة لم يكن همساً، بل صرخة مكتومة حادة، تردد صداها في أذنه. وفي اللحظة الأخيرة، قبل أن يفقد وعيه، رأى زاوية عينيه باب غرفة خالد، وكان مغلقاً، لكن شيئاً كان يحكه من الداخل بأظافر طويلة.
في الصباح، استيقظ عمر وحده على الأرض. كانت المذكرة القديمة ممزقة إلى أجزاء صغيرة ومبعثرة في أنحاء الغرفة. سكت عمر. لم يعد يشتكي لخالد. لكنه لم يعد يرى الأشياء بنفس الطريقة أيضاً. كانت شقة 13 قد وضعت فاصلة بينه وبين صديقه، وجعلته وحيداً تماماً في رعبه الخاص. إنه يعلم الآن أن الأمر ليس مجرد شائعات، لكن كيف يهرب من شيء لا يراه إلا هو، ولا يصدقه سواه؟