الاتفاقية السرية قبل دخول السجن

الاتفاقية السرية قبل دخول السجن

0 المراجعات

يـــوم ....... الموافق  18 شهر .... سنة .....  الساعة 11 مساءا

 

ربما تكون هذه الليلة هى آخر مرة أكتب فيها يومياتى ... وربما كان أخطر يوم أسجلها فيه ... لأننى سأصبح متزوجا فى تمام الساعة التاسعة من يوم 21 الجارى .. أى بعد يومين سأدخل القفص .. وسأتحول إلى شخص عائلى للأسف .. وربما حينها لن أملك الوقت ولا صفاء الذهن الذى يسمح لى بتدوين مذكراتى .. إلا إذا كانت المشاحنات الزوجية والمشاكل اليومية ستكون مسلية ومتجددة بما يستدعى تسجيلها بدقة .. للتــاريخ .. ولا أظن.

إننى حقا أتعجب من نفسى ! .. فقد كان رأيى دائما أن الزواج مرادف لكلمة مشاكل .. وما زال هذا رأيى .. ولن أغيره .. ومع ذلك أشتاق لكى أدخل فى سجنه بعد يومين .. بل إننى أسعى كى أكون جديرا بأن أسكنه.

وهذا ما يجعلنى اليوم أكتب وأسجل خواطرى .. وأنا لا أفعل ذلك إلا إذا واجهتنى مشكلة صعبة أو حدث مهم ، وأنا أعترف أننى فى موقف محير حقا .. وعلى أن أتناقش مع نفسى بوضوح شديد وأنا لا أفعل دائما .. لكن الوقت ضيق .. والأمر لا يحتمل التأجيل ولا التجاهل .. فقد وعدت أن ينتهى كل شئ اليوم .. اليوم .. الكارثة أننى لست نادما على وعدى .. ولكن هل أستطيع أن أفعل ؟ .. أنا فى قمة الحيرة .. فأنا كمن يحلم أن يطير وقد ثبتت قدماه في الأرض .. فتعلق في حلم دائم لا ينتهى .. فلا هو حلق فى السماء ولا هو على الأرض إستقر.

المطلوب باختصار أن أتخلص من الماضى تماما كى أستطيع شراء الحاضر والمستقبل .. ليتنى لم أفتح الموضوع بالأمس مع لبنى .. ليتها لم تجذبنى إلى الحديث عن الإخلاص .. والحب الأول والماضى والمضارع وكل أزمنة الـ ( Grammer ) .. وعن بدايات الصفحات الجديدة .. أعجبنى ذكائها فى الحوار ولقد أنصفت عندما قالت أنها لا تتمنى إلا أن أحبها .. وأن أسعدها قدر استطاعتى .. هل هي طلبت شيئا بسيطا ؟ إننى فعلا أحبها .. وأرجو أن أجعلها أيضا تحبنى .. ليتها تستطيع أن تفهمنى حقا .. أظن أنها تحاول !

لا أدرى ما الذى جعلنا في حديثنا بالأمس نصنع معا هذا القرار الغريب ؟ هل كانت هي صاحبة الفكرة ؟ هل طرحته كمجرد إقتراح .. ثم ناقشته بشفافية غير معتادة ؟ .. لقد قالت أن من حق كل منا أن يتأكد من صدق شعوره .. ومن إخلاص الطرف الآخر و دون كلمات كثيرة أو إعلانات .. والإختبار ممكن وبسيط ... على كل منا أن يتخلص من الذكريات المتعلقة بماضيه .. يفعل ذلك بنفسه في لحظة كى ينهى تعلقه وتفكيره فيه.

لا أعرف كيف إقتنعت .. بل وشاركتها فى صنع القرار .. فسيرجع كل منا إلى بيته .. ويستمتع بذكرياته أيا كانت .. لمدة ساعة .. ثم سيقوم بحرقها وتمزيقها مهما كانت .. تحرق جميعا دفعة واحدة .. ولكل منا – إذا أراد – أن يختار شيئا واحدا فقط يستبقيه .. سيتركه ولا يتخلص منه إلا عندما يشعر أنه قد نسى ماضيه تماما .. وأن حبه القديم قد تلاشى.

وأضفت أنا أن من يتخاذل عن تنفيذ هذا الإتفاق سيكون قد خدع نفسه قبل أن يخدع الآخر .. فإما أن يقدر على التنفيذ وإما أن يعجز ويتراجع .. وعليه إذن أن يصارح الآخر بعجزه .. وعندها سيؤجل مشروع الزواج أو ربما نلغيه لأى عذر لن يصعب تأليفه .. قرار صعب !

لن أتراجع .. ولا أريد أن أذكر ما أحمله في نفسى من حنين وإعتزاز بالقصة التي إنتهى عمرها من أربعة سنوات .. ولن تكفى ألف صفحة كى أكتب وأصف كيف كان هذا الحب .. لا يهم .. أمامى الآن تل صغير من رماد صور وخطابات كنت أعتبرها ثروتى ..وكانت ملاذى فى أوقات ضيقى واختناقى .. وسعادتى .. أنا حزين لأننى مزقتها ومسحت من هاتفى كل الصور التي جمعتنى بها حتى الصور الجماعية التي تحمل أصدقاءا آخرين .. كدت أن أبكى وأنا أمزق الصورة الأخيرة .. إنه أسى الفراق عندما تنظر إلى وجه سيدفن بعد نظرتك الأخيرة.

إحتفظت وهذا حقى .. بأجمل ما في ذكرياتى وهو آخر خطاب لها .. هذا الخطاب ليس فى قمة الرقة فقط .. ولكنه يحمل جملة تهز كيانى كلما قرأتها .. كانت نهايتها تقول ( فأرجو ألا تنسانى ) ..  أى إهانة لها .. ولكل المشاعر الانسانية إذا أنا أحرقت خطابا يحوى هذه الكلمة ؟   

معذرة يا لبنى .. سأبعث لك رسالة قصيرة بأننى قد أنجزت ما وعدتك به .. لكن هذا الخطاب لا أملك إلا أن أحتفظ به .. وأن أخفيه الآن.

الليل قد انتصف .. لقد تعبت .. وإنتهيت من يومياتى أخيرا .. كرجل أعزب على الأقل !   

 

يـــوم ....... الموافق  19 شهر .... سنة .....  الساعة 2 صباحا

 

منذ أكثر من أسبوع وأنا لا أنام كل ليلة أكثر من أربع ساعات .. لا أدرى هل من القلق أم من السعادة .. أم أنه ضيق الوقت ؟ ورغم أن هناك سبعين ألف شئ يجب أن أفكر فيه أو أفعله خلال الساعات القادمة  إلا أننى إستطعت كمعجزة أن أخلو بنفسى هذه الساعة .. وأن أجد الفرصة والقدرة على أن أسجل هذه السطور .. هذه اللحظة الغريبة التى أنا فيها الآن .. أنا لا أشعر داخلى إلا بالتناقض .. هل حدث خلل فى قواى العقلية أم صرت على وشك الجنون ؟ .. لقد فقدت القدرة على الحكم على تصرفاتى  أهى صواب أم خطأ .. وفقدت القدرة على تصديق الآخرين أو تكذيبهم .. أحس أنهم يخدعوننى .. وأعجز عن إثبات ذلك ! أشعر بقلق ورهبة .. وخوف شديد من أن أندم .. أندم على ما سأقوله أو أفعله .. أو حتى أراه أمامى .. هل أصدقه ؟ هل أشك فيه ؟ رأسى تكاد تطير من هذا التخبط .. هل هذا وضع طبيعى ؟ 

بالأمس كنت فى منتهى السعادة .. وفرحت كثيرا بالقرار الذى إتخذته أنا و مراد  .. كم كنت سعيدة عندما وافق عليه فورا .. إنه لم يتردد فى أن يمحو قصصه القديمة .. كم كانت تؤلمنى إشاراته أو حكاياته القصيرة عن حبه القديم. 

ورغم سعادتى بما قلناه إلا أننى أظن أن هذا الحكم على الماضى .. حكم الإعدام .. أمر فى منتهى القسوة .. طيلة أمس تمنيت أن يأتى مراد أو يكلمنى ويقول معتذرا أنه لم يحرق ذكرياته .. وأن يطلب منى أن يحتفظ كل منا بما يريده طالما لن يظهرها للطرف الآخر .. لكنه أرسل لى من ساعتين أنه قد نفذ وعده .. وأحرق كل شئ يذكره بتلك التى أحبها يوما .. والتي فشلت تماما رغم إلحاحى أن أستنتج منه من تكون.  
ولما سألته إن كان قد إحتفظ بشئ كما إتفقنا أجابنى يأنه لم يكن في الإتفاق أن نخبر بعضنا بذلك إذا فعلنا … هذا صحيح للأسف .. كم هو ماكر ومراوغ .. لكنه إلتزم بما قاله وهذا يعجبنى فى مراد .. ومع ذلك فإننى أشعر أنه لم يكن هناك داع لهذا الاتفاق .. أنا لا أحاول أن أتهرب مما ألزمت نفسى به .. لكننى حقا لا أدرى .. هل من الضرورى أن تموت قصة الحب القديمة بالكامل ؟ هل قتلها وليس مجرد تناسيها رأى سليم ؟ .. أنا لا أريد أن أخدع مرادا ولكننى أتساءل هل هذا هو الطريق الحقيقى للإخلاص ؟ عموما لقد وضعنا الوسيلة التي تبعث فى نفوسنا بعض الإطمئنان قبل أن نبدأ حياتنا معا ... سأكون شجاعة وأنفذ ما إلتزمت به. 

المؤلم أننى عندما بحثت عما يجب أن أحرقه وأتخلص منه وجدت صورا فيها كثير من زملاء وزميلات سأضطر إلى تمزيقهم بيدى .. كذلك بعض الكروت والرسائل والهدايا الصغيرة .. كل هذا أحرقته أو رميته وشعرت بإنقباض شديد وأنا أشعل فيه النار .. كأننى أحرق صاحب هذه الذكريات الجميلة وهو لا ذنب له .. ولكن لا فائدة .. ربما سأشعر بالراحة عندما أهزم الماضى بمساعدة مراد .. شجعتنى سرعته فى التفكير وفى تنفيذ الاتفاق .. رغم علمى وإحساسى بالمكانة الكبيرة التى يحملها فى قلبه لهذا الحب الغامض البعيد الذى لا أعلمه.

إحترمت مرادا عندما أخبرته أننى قد أحببت رجلا قبله وأنه أحبنى .. فلم يسألنى عن التفاصيل وقال إذا أردت أن تحكى فسوف يسمعنى لكنه لن يهتم أن يعرف كيف كانت البداية أو النهاية .. ربما لا يريد أن يحرجنى .. أو ربما عرف بعض الأخبار من مصدر ما .. أو لا يريد أن يسمع .. وأنا لا أريد أن أقول.

إننى أذكر جيدا كل شيء في هذه القصة التي دامت شهورا .. ولا أعلم هل أريد حقا أن أنسى ؟ 

المهم أننا إتفقنا أن من حق كل واحد منا أن يحتفظ بشئ واحد من ذكريات ماضيه إذا هو رغب فى ذلك .. ليتها كانت ثلاثة أشياء يا مراد ! ... سوف أحتفظ بشئ لا أظن مراد سيعرف أنه هو التذكار إذا رآه .. وإن كنت أنوى ألا أجعله يراه .. إنها سلسلة صغيرة رقيقة من الفضة .. كان قد أحضرها لى يوم عيد ميلادى أول رجل أحببته ... ولم تكن سعادتى توصف يومها .. هذه السلسلة عزيزة جدا على .. لن أقدر على أن أحرقها .. أقصد أن أرميها أو أتخلص منها .. عموما هى ليست خارج الإتفاق .. ومن حقى الإحتفاظ بها ... إن مراد له قلبى .. وهذه السلسلة هى شهادة ميلاد قلبى .. ومراد لا يمكن أن يملك قلبا لم يولد .. قلبا ليس له شهادة ميلاد .. وإذا كان مراد يملك المفتاح الحقيقى لقلبى .. المفتاح الصحيح .. فليس شرطا أن يكون هو المفتاح الأول أو الوحيد.

لست معتادة على كتابة مذكراتى مثلما يفعل مراد ... كم أتعبنى أن أخرج كل هذه الأحاسيس .. وأن أكتب كل هذا بعد إرهاق يوم طويل مشحون بإستعدادات يوم العمر .. أو كما يسميه مراد .. يوم بداية التاريخ !

لكننى سعيدة لأننى واجهت نفسى . وأراحنى أننى جديرة بمراد .. ولست أقل منه شجاعة ووضوحا .. سأرسل له أننى نفذت المطلوب .. ثم أتمنى أن أنام .. هذا إذا جاء النوم بسهولة !             

 

يقـــــول الـــراوى :

 

تزوج مراد ولبنى يوم 21 ........ 

 

وتعتبر حياتهما الزوجية ناجحة وهذا يشهد به الجميع .. ومع ذلك ففى بعض الأوقات المتباعدة من أعوام زواجهما العشرة ينفرد أحدهما أحيانا عن الآخر .. ليكتب أو يقرأ مذكراته .. وإن كانا يكتبانها نادرا.

وربما يقرأ أحدهما رسالته إلى نفسه قبل ليلة الزفاف .. وترتسم إبتسامة غامضة خفية على وجه لم تهزمه التجاعيد .. وقد تمتد يده إلى ورقة مطوية كالخطاب .. أو قد تلهو يدها بسلسلة صغيرة من فضة.

.. لكن زواجهما لم يصدأ. 

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

4

متابعين

6

متابعهم

1

مقالات مشابة