الجاسوس سمير وليم باسيلي: ج٢
أما التقارير فلها مقابل أيضاً, وتسلم وليم خمسة آلاف أخرى فانكمش في مقعهده بعدما أدرك حقيقة موقفه ووضعه.
طمأنه هانز بأن علاقتهما لن تكشفها المخابرات المصرية، لأن هذه التقارير ليست مادة سرية فهي موجودة في الصحف القاهرية. وشيئاً فشيئاً, تطورت العلاقة بين هانز ووليم، تحددت بدورات تدريبية خاضها الأب على يد ضباط فنيين، وانتفخت جيوبه بآلاف من الماركات بعدما كثرت تقاريره التي كان يجيد كتابتها بعد تحليلها, وتعمده مصادقة ضباط القوات المسلحة والعسكريين المسرحين من المحيطين به.
وفي كل زيارة لميونيخ كان هانز يحذره من قراءة قضايا التجسس في الصحف المصرية حتى لا يرتبك ويقع في قبضة المخابرات المصرية التي لا ترحم الخونة. وطمأنه على أسلوب عملهم الذي لا تستطيع المخابرات العربية كشفه. وحتى وإن حدث, فهم سيتولون رعاية أبنائه والإنفاق عليهم من بعده ".
أما الابن سمير فقد اتسعت دائرة نشاطه في التعرف على المصريين الوافدين وتصيد الأخبار منهم من خلال الدردشة العادية, وهؤلاء الذين فشلوا في الحصول على عمل. وشرع بالفعل في تجنيد ثلاثة من المصريين. لكنهم استطاعوا الرجوع إلى مصر وأخبروا جهاز المخابرات المصرية بتصرفات سمير, ودوره في محاولات الإيقاع بهم لصالح المخابرات الإسرائيلية.
لقد جاءت البلاغات الثلاثة في فترة قصيرة ومن أشخاص لا يعرفون بعضهم، وكانت خطة المخابرات المصرية لاصطياد سمير وأبيه محسوبة بدقة بالغة وإحكام.
كان وليم قد افتتح مكتباً كبيراً للمقاولات في القاهرة استطاع من خلاله أن يمارس عمله في التجسس, وجعل منه مقراً للقاءاته بالأشخاص الذين يستمد منهم معلوماته, خاصة من العسكريين الذين أنهوا خدمتهم . حيث إنهم في الغالب يتفاخرون دائماً بدورهم وبعملهم السابق بصراحة مطلقة, أمام الأشخاص الذين يبدون انبهاراً بما يقولونه ويسردونه من أسرار عسكرية وتفاصيل دقيقة.
وفي أحد الأيام, فوجئ وليم برجل مصري ثري عائد من الخليج, يريد الاستفسار عن إمكانية فتح مشاريع استثمارية وعمرانية كبيرة.
كان الرجل قد أمضى في الخليج سنوات طويلة ويجهل حاجة السوق المصرية للمشروعات, وتباهى وليم في سرد خبراته مستعيناً بإحصائيات تؤكد صدق حديثه, واستطاع إقناع المصري الثري بقدرته على اكتشاف حاجات السوق وإدارة المشاريع. وبدا أن الرجل قد استشعر ذلك بالفعل إلا أن حجم ثروته ورغبته في عمل مشاريع عملاقةمما استدعى من وليم الاستعانة بخبرة سمير فكتب له يطلب مجيئه وألح عليه في ذلك, وجاءه الرد من ابنه يخبره بميعاد قدومه.
بمجرد ما أرسل في طلب إبنه إلى القاهرة, تم القبض عليه, واكتشف وليم أن المصري الثري القادم من الخليج ما هو إلا ضابط من المخابرات المصرية, واكتشف أيضاً أن تقاريره التي كان يرسلها إلى الخارج تملأ ملفاً كبيراً.
وما هي إلا أيام حتى جاء الابن إلى القاهرة, بصحبته شاب ألماني وصديقته أرادا التعرف على الآثار الفرعونية, فصحبهما سمير إلى الأقصر حيث نزلوا بفندق سافوي الشهير على النيل, ثم مكثوا يومين في أسوان وعادوا إلى القاهرة.
كان سمير طوال رحلته مع صديقيه يقوم باستعمال كاميرا حديثة ذات عدسة زووم في تصوير المصانع والمنشآت العسكرية طوال رحلة الذهاب والعودة, وفي محطة باب الحديد حيث الزحام وامتزاج البشر من جميع الجنسيات , وقف سمير امام كشك الصحف واشترى عدة جرائد. وبعدما هموا بالانصراف, استوقفه شاب انيق يرتدي نظارة سوداء برفقته أربعة آخرين وطلب منه أن يسير بجانبه في هدوء.
ارتسمت على وجه سمير علامات الرعب, وحاول أن يغلفها ببعض علامات الدهشة والاستفهام لكنه كان بالفعل يرتجف.
اعتذر الرجل الأنيق للضيف الألماني وصديقته, وودعهما سمير بلطف ومشى باتجاه البوابة إلى ميدان رمسيس يجر ساقيه جراً محاولاً أن يتماسك, لكن الموقف كان صعب وعسير.
وعندما ركب إلى داخل السيارة سأله الرجل الأنيق ذو النظارة:
أتريد أن تعرف إلى أين تذهب؟
أجاب بصوت مخنوق:
أعرف !!
وعندما فكر في مصيره المحتوم, أجهش بالبكاء, ثم أغمى عليه بعدما تملكه الرعب وأصابه الهلع, وحملوه منهاراً إلى مبنى المخابرات العامة ليجد والده هناك, نظراته أكثر هلعاً وصراخه لا يتوقف وهو يردد: سمير هو السبب !!
ولم يستغرق الأمر كثيراً. فالأدلة دامغة والاعتراف صريح. وكان الحكم في مايو ١٩٧١ بالإعدام للإبن و ١٥ عاماً أشغال شاقة للأب.