قصة فتاة الياسمين

قصة فتاة الياسمين

0 reviews

*****فتاة الياسمين*****

من أجل عينيك عشقت الهوى
في زمان صرت فيه الخليّ


انسابت الأغنية عبر مسامعي و تداخلت بنبضات قلبي و داعبت مخيلتي لتعيد إلي أحاسيس شعرت بها منذ سنوات طويلة لتعيد إلى ذاكرتي أبيات شعر كتبتها لفتاة الياسمين التي ستعرفون قصتها إن تحليتم بالصبر و كففتم فضولكم..


هات فنجان القهوة أيها الشاب الفتي و اجلس في مكانك لتكمل الحلقة و أنصتوا و كفوا عن الوشوشة أيها الأشقياء..أعرف أنكم تتشوقون لسماع قصصي المعتادة،لذا دعوني أرشف رشفة طويلة من فنجاني و أتربع بمجلسي و كفوا عن الابتسام فصحيح أنني عجوز بالسبعين من عمري،لكنني مازلت قادرا على ثني ركبتيّ و لم ينل مني الروماتيزم بعد..كيف يفعل برجل عاش حياته يتسلق الجبال و يخوض أهوالا بمستنقعات سكوتلندا و غابات الأمازون و صحارى ناميبيا و المكسيك و أحراش الهند و باكستان..هل أثرت فضولكم أكثر ؟ حسنا اليوم لن أحدثكم عن مغامرة قابلت فيها وحوشا و تنانين مرعبة...لتكن ليلتنا شاعرية بعض الشيء فأنا أرى بينكم شبانا مفتولي العضلات يبتسمون بثقة و غرور شأن المراهقين الذين يوقعون الحسناوات في شراكهم و أرى آنسات تضعن في شعورهن زهورا و تبتسمن برقة حالمة..


يا جارتي 
لا تشيحي ببصرك عني
و أطيلي النظر في عينيّ
فخجلك ليس له داعي و لا محلّ
أراك بعين قلبي
و أسمع همسك بالليالي
فأطير كعصفور إليك بروحي
و أبثك شوقي و غرامي و الأملُ
صغيران نحن يا مهجتي
على الحب و الألم
لكننا به احترقنا و ما لنا 
مراد إلا أن يلتئم الشملُ
لم ينل منا الحب 
و لكن الزمن سيفعل 
فعشقك محرم 
و لن يرحمك الأهلُ
فقد أحببت فتى
لا يملك من الدنيا الا قلبه
و لن يعطيك الا الحب
و ليس لديه مع القول فعلُ

قلت هذا الكلام الفارغ منذ خمسين عاما خلت أو أكثر ..أعرف أنه يبدو سخيفا عندما أقوله و رأسي يشتعل شيبا لكنه بدا لي ساحرا مبتكرا في سني تلك و أنا أتلمس الزغب فوق شفتيّ و أحلم أن يصبح يوما شاربا كثيفا أمشطه كل خمس دقائق ..
أين فتاة الياسمين ؟؟
سبحان الله...أنتم شباب هذا الجيل لا تتحلون بالصبر...
إنها هي فتاة الياسمين...لا زالت القصة طويلة...
كانت فتاة ذات خمسة عشر ربيعا زرقاء العينين شقراء..كأنها ملاك يطل علي من سطح منزلها كل مساء و أنا أمارس الرياضة خلف بيتنا القديم..كنت أشعر بالسرور و الفخر و التيه كلما ابتسمت لي لتشجعني كلما تعبت،فتبعث في عروقي طاقة هائلة لمواصلة الاستعراض و إثارة إعجابها..كان ممنوعا إظهار أي ضعف أمام الفتيات في سننا ذاك..
توالت اللقاءات عن بعد و تبادل الابتسامات و الاشارات دون كلام..و لم يكن وقتها هناك هواتف او علاقات سهلة مثل اليوم..كنا نلاحق الفتاة لأيام طويلة لنظفر بابتسامة فحسب و لو جادت بكلمات معدودة يكون هذا كجائزة نوبل في الحب لو وجدت..و لم يكن لدينا من وسيلة للتواصل الا الرسائل المكتوبة على اوراق صغيرة تلقى خلسة في طريق من تحب..


مرت الشهور طويلة على هذه الحال و الحب البريء يكبر يوما بعد يوم و ينمو راسخا كشجرة زيتون عروقها ممتدة في التربة و تتشبث بها بإحكام..
ذات يوم عدت إلى البيت فوجدتها تدرس مع أختي و تستعدان لإمتحانات آخر السنة..كنت قد استسلمت لعدم قدرتي على وصلها كما أشتهي و بدأت أضع الخطط لأنتقل من معهدي إلى المعهد الذي تدرس به فقط لمجرد رؤيتها أكثر و بشكل أقرب.. لذا كانت المفاجأة كافية لتشلّ حركتي و تفكيري و أنا أراها أمامي دون حواجز في بيتنا و في نفس الغرفة معنا..حتى أن أمي ضحكت كثيرا لمرأى البلاهة و هي ترتسم على وجهي و أنا متسمر في مكاني و قد انقطع نفسي و لمرأى الحياء على محياها و قد احمرت وجنتاها خجلا و طأطأت رأسها و غطت وجهها خفرا..
طبعا لست دون جوان عصري و لا قاهر قلوب العذارى كما يقولون،لذلك لم أستطع النطق بحرف واحد و اكتفيت بمراقبتها طوال المساء و أحيانا تلتقي عيوننا فتتبادل رسائل أبلغ من كل كلام قد يقال..
مرت أسابيع عديدة و نحن نرى بعضنا من بعيد دون أن يجرؤ أي منا على اتخاذ خطوة واحدة قد تكون سببا للندامة..فعاقبة الحب في مجتمعنا كانت وخيمة و عقابها قاس جدا بالنسبة للفتيات في مثل ذلك السن..
ذات ليلة ممطرة غاب فيها القمر ..خرجت متسللا على أطراف اصابعي حتى لا أوقظ أبي فأنال ما نال الطبل يوم العيد،و اتجهت نحو شجرة الياسمين لأقطف زهرات ندية فواحة..كانت لدينا شجرة ورد ابيض و شجرة ياسمين و شجرة برتقال ..و كانت أحبهم إلى قلبي شجرة الياسمين..كان عطرها يأسرني و جمالها يصور لي وجوها و أشكالا محببة تختفي بين فروعها المتداخلة و زهورها..و لأنني اعتدت دائما الاستلقاء تحتها،وجدت نفسي أصنع أطواقا من الياسمين تعجب كل من يراها..و لأنني أهدي الياسمين لمن أحبه،خصصت واحدا لحبيبتي خولة كل يومين أو ثلاثة أيام..فأصنعه بإتقان و أختار زهوره بعناية ثم أضعه في مكان سري اعتدنا وضع الرسائل فيه، و أضع معه ورقة كتب فيها إلى حبيبتي فتاة الياسمين..و كانت تأخذه و تترك لي رسالة معطرة و مكتوبة بأقلام ملونة و تزينها زهور و قلوب حمراء صغيرة..و بضع كلمات حب بريئة تكشف مكنونات صدرها النقي..
و عند كل مساء،أخرج كالعادة لممارسة التمارين و أرفع رأسي لأجدها على السطح تنتظر و قد لبست الطوق في رقبتها..فتلوح لي بيدها و تلقي إلي بقبلة و تنفخ عليها برقة ثم تحتضن الطوق بسعادة و تبتسم لي تلك الابتسامة التي لو رآها دافنشي لعدل عن رسم الموناليزا بكل تأكيد..
و تمر الأيام و الأسابيع و الشهور مسرعة و الحب يكبر يوما بعد يوم و ازداد قربنا و وجدنا طرقا لنلتقي أثناء اليوم بعيدا عن أعين الرقباء لنجلس في حديقة نأكل لمجة خفيفة و نشرب مياها غازية..أو ندخل إلى السينما لنشاهد فيلما أو آخذها إلى الشاطئ عند الصخور فتتشابك أصابعنا و نحن نرنو إلى الأمواج المتكسرة و نحلم ببراءة بأحلام مستحيلة بدت في حينها ممكنة...


سنوات مرت و لم يكدر صفونا اي شيء و لم نتخاصم ولو لمرة واحدة..و كان طوق الياسمين شاهدا على حب أزعم أنه لا مثيل لنقاءه و صدقه و براءته..لكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه..
كانت تلك السنة قد وصلت الى نهاية التعليم الثانوي و ساعدتها للنجاح بمناظرة البكالوريا على الرغم من أنني في تلك الفترة مررت بظروف عائلية مؤسفة..و كنت غادرت مقاعد الدراسة منذ سنة لأعمل و أساعد أسرتي في توفير لقمة العيش الكريم..
المهم أنها نجحت و جاءت لتزف لي البشرى و هي تكاد تطير من الفرحة..و كانت تلك أسعد لحظات حياتي حتى تلك اللحظة..كنت أعرف حلمها بدراسة الطب و توقها للدخول الى الجامعة و مواصلة تعليمها و نيل شهادة الدكتوراة..و لم أتوانى لحظة واحدة عن تشجيعها و دعمها كلما أحسست منها  يأسا أو تراخيا..و تحقق حلمها و تم توجيهها للدراسة في ولاية أخرى و بدأت تستعد للابتعاد عن عائلتها و عني لأول مرة في حياتها...
كنت أشعر بالضيق لذلك،لكنني لم أظهر إلا فرحا و سعادة حتى لا يشغلها حزني عن أولوياتها..
و يوم الرحيل..وضعت لها طوقا في مخبئنا السري وخطابا مغلقا و ورقة صغيرة كتبت فيها كلمات وداع و رجوتها أن لا تفتح الخطاب إلا إذا استقرت في المبيت..
كانت رسالة ضمنتها كل مخاوفي و مشاعري بالانزعاج من بعدها عني و أيضا سعادتي لأنها تصنع لنفسها غدا مشرقا كما تصورت..
حبيبتي خولة..
لن أضيف جديدا إن أخبرتك بمدى عشقي و حبي،فأنت أول حب اقتحم قلبي و دكّ حصوني و رفع راياته فوق قلاعي..
و تعرفين بكل تأكيد مدى سعادتي بدخولك معترك الحياة الجامعية و سعادتي بكونك بصدد تحقيق حلمك أن تصبحي طبيبة و باحثة و عالمة..أعرف كل أحلامك التي تشاركناها و بدأنا في تحقيقها معا..لكنني وسط كل هذا أخفي بداخلي ضيقا و حزنا لابتعادك كل هذه المسافة دون أن يكون بإمكاني رؤيتك إلا في المناسبات و العطل الجامعية..و أنت تدركين جيدا كم كنت أشتاق لرؤيتك سويعات بعد كل فراق مؤقت بيننا..فكيف سأصبر لأسابيع و شهور طويلة دون أن أرى عينيك الزرقاوين الحالمتين و شعرك الذهبي اللامع كأشعة الشمس و دون أن أضع في رقبتك طوقا من الياسمين ككل لقاء بيننا؟ هل ستصبرين أنت؟ما يقلقني أنني لم ألمح في عينيك أي قلق لاضطرارك الى السفر و البعد عن حبيبك..كأن أحلامك فقط هي المهمة في حياتك..ربما لديك كل الحق أن تضعي مستقبلك فوق كل اعتبار..لكن ما حزّ في نفسي أنك لم تتكبدي اي مجهود لوداعي و لم تظهري أسفا و لو بقدر ضئيل ..
أما خوفي الأعظم فهو أن تأخذك مغريات الحياة الجديدة و الأشخاص الجدد الذين ستتعرفين عليهم من بين طلاب الجامعة فتنسين حبيبك ..كما يقولون ..البعيد عن العين بعيد عن القلب..
أرجو أن تقدري مخاوفي هذه و في النهاية أوصيك أن تنتبهي جيدا لنفسك و أن تجتهدي في دراستك و لا تجعلي أي شيء يحول بينك و بين حلمك..
                              حبيبك الى اخر العمر سامي

 

لم يمرّ شهر واحد على سفرها حتى حلّت مناسبة دينية و عادت لتقضيها بين أفراد عائلتها..و سمعت بعودتها فغمرتني سعادة قصوى ظنا مني أنني سأنعم بأيام جميلة مع حبيبتي،و نصنع ذكريات جديدة تنسينا مرارة البعد عندما يحين موعد عودتها إلى الجامعة..و لكنني كنت ساذجا و غبيا..و لم أفهم لمَ لمْ تحاول التواصل معي فور وصولها لو كانت اشتاقت لرؤيتي كما اشتقت للقاءها...
و بعد يوم واحد حل العيد و ذهب أفراد عائلتها لزيارة قريب لهم و كنت أرتب بعض الأغراض على سطح المنزل عندما أقبلت تتهادى لتجلس في مكانها المعتاد..و كان اللقاء بعد شهر كامل كما لم اتوقعه أبدا..باردا خاليا من المشاعر ..ترتسم اللامبالاة على ملامحها على نحو جعل قلبي ينتفض بين ضلوعي فرقا..
هممت بمعانقتها كما اعتدنا في كل لقاء،لكنها مدت يدها من بعيد مصافحة إياي و أنا مذهول من ردة فعلها تلك..
-ما بك خولة؟ألم تشتاقي لسامي حبيبك؟
-مطت شفتيها بلامبالاة و قالت:
-أخاف أن يرانا أحد..
-لا أحد هنا سوانا..نحن محجوبون إلا عن السماء فوقنا !! على كل حال..كيف حالك ؟
-أنا بخير..كنت سأطلب مقابلتك لو لم أرك بالصدفة هنا..لدي ما أريد اخبارك به..
توجست خيفة من حديثها و انفعالاتها و قلت بتردد:
-هل هو أمر مهم ؟
-بالتأكيد..هو أمر يخص مستقبلي فكرت فيه كثيرا و اتخذت قراري ..
-لم تقرري يوما أمرا هاما دون الرجوع إلي ..هل صرت الان تقررين بمفردك ؟..
-إنه أمر يتعلق بك بالنهاية..أو بنا بالأحرى..
أخذتها من يدها و أجلستها على مقعد قريب و جلست على الأرض بقربها و قلت:
-حسنا..كلي آذان صاغية..
ترددت قليلا،ثم حسمت أمرها و قالت بسرعة كأنها تخشى التراجع..
-قررت أنني سأنفصل عنك و أركز كل جهدي في دراستي..
صدمتني العبارة التي لم أكن أتوقعها بتاتا بالرغم من كل هواجسي و مخاوفي..و ضللت صامتا لبرهة دون أن يهتز لي جفن..
-أنت قابلت شخصا آخر.. أليس كذلك ؟
-أنا فقط فكرت جيدا في علاقتنا ..أعرف أنك قوي و ستتجاوز الأمر بسهولة لكن علي أن أخبرك و بكل صراحة و صدق..أنا في طريقي لأن أصبح دكتورة و عالمة إن شاء الله و لن أرتبط بشخص لا يحمل شهادة جامعية..لن نكون من نفس المستوى بعد سنوات قليلة..ستشعر بالغيرة من تفوقي و نجاحي في حين انقطعت أنت عن دراستك و رضيت أن تكون مجرد عامل يكدح ليلا نهارا لتوفير لقمة العيش..لن يمكنني احتمال هذا..
-هذا الذي تتحدثين عنه هو نفسه من كان يطبع لك المذكرات العلمية و يكتب لك النصوص بيده و ساعدك لفهم كل ما استغلق عليك و بات ليالي طويلة يلخص لك الدروس ليسهل عليك حفظها و عدم نسيانها..هو نفسه من ساعدك لتصلي إلى ما وصلت إليه و شجعك عندما تملكك اليأس و كدت تتخلين عن حلمك..أنت فقط رأيت أنني لا أناسبك لمجرد أنني فقير.. و لم تؤمني بقدرتي على النجاح كما آمنت بك ..
-لا أنكر أنك ساعدتني كثيرا و ضحيت بوقتك لهذا..لكنني أيضا في فترة غيابي بردت مشاعري و لم أعد أشعر بذلك الحب بداخلي..عليك تقبل أنك فقدت مكانك في قلبي..هذا قولي الأخير..و إن كنت تريد الصدق فهناك شخص آخر حقا..شخص من مستواي الاجتماعي و أرفع،و مستقبله مضمون ..كما أن أبي منذ علم بعلاقتنا و أثار تلك المشكلة مع والدك و هو يراقبني عن قرب و يرفض مجرد التفكير أنك ستكون على علاقة مصاهرة بعائلتنا....آسفة ..لا يمكنني المخاطرة معك..
-أنت تدركين أنك إذا رحلت فلن يعود هناك مجال للتراجع..و أن ما قلتيه لتوك من القسوة لدرجة أنه لا يغتفر ؟
-آسفة لهذا لكنني سبق أن اتخذت قراري..أنا راحلة..
و كانت تلك آخر كلمات قالتها و تركتني جالسا و كل هموم الدنيا تضطرم بداخلي..و شعور بالخيبة يجتاحني و حزن عميق جدا ارتسم على وجهي و أنا اراقبها و هي تنزل الدرج لآخر مرة...


تململ الشبان في جلستهم و تهامسوا فيما بينهم فقلت لهم متسائلا و أنا اتناول رشفة من قهوتي:
-هل هناك شيء لم تفهموه او نقطة لم أوضحها جيدا؟
قالت شهرزاد صاحبة العوينات:
-فقط كنا نشعر بالخيبة لنهاية القصة على هذا النحو المؤسف..لم نتوقع أن تكافئ حبك لها بكل هذا الجفاء..
ابتسمت قائلا:
-لكن القصة لم تنتهي عند هذا الحد..يا عزيزتي..مازال فيها فصل أخير..
اعتدلوا جميعا و هتف أحدهم:
-نحن نصغي يا سيد سامي..
شردت ببصري لوهلة و سرحت بأفكاري إلى ذلك الزمان البعيد مسترجعا ذكريات مدفونة في أعماق ذاكرتي..ثم واصلت الكلام..
مرت أسابيع ضللت أعاني فيها وجع الفراق و الام خيبتي و مرارة الهجر..و أصبحت انطوائيا جدا أرفض الحديث مع أي شخص و أكتفي بالإيماء و الإجابة باختصار بنعم أو لا..و صارت العزلة ملجئي و الروايات و الكتب أصدقائي الوحيدين و اصبحت الوحدة أحب إلي من الرفقة و العائلة..
حتى أن العائلة جربوا حملي عنوة إلى طبيب نفسي حاول عبثا مرارا جعلي أبوح له بمكنوناتي لكنني كنت أكتفي بالنظر إليه و بتأمل اللوحات التي يعلقها على الجدار و بتأمل المكتبة التي تزين مكتبه و تحتل جدارا كاملا..حتى أنه يئس في الأخير و أخبر أمي أنني ربما كنت أتعرض للتنمر في الحي و أنه من الأفضل الانتقال إلى بيت اخر في حي هادئ..و قد كان..انتقلنا إلى بيت آخر و فعلا بدأت أنشغل قليلا بتزيين البيت و عدت إلى العمل و ممارسة الرياضة و خصصت ساعة للقراءة و ساعة للكتابة..و بدأت أفكر أنني لازلت صغيرا و أن الدنيا لن تنتهي لمجرد رحيل أحدهم عن حياتي..رحل الكثيرون قبلها و لم أمت و لم تتوقف الأرض عن الدوران و بقيت الشمس تطلع من الشرق كعادتها...أثلج هذا التفكير صدري و جعلني أقبل مجددا على الحياة..و لكنني و إن تناسيت حبي المغدور ، فإنني لم أنس لحظة واحدة احتقارها لي لمجرد أنني فقير و أنني لا أحمل شهادة مثلها..و جعلني هذا أسعى بكل ما أوتيت من جهد لتثقيف نفسي بنفسي و بدأت بتعلم اللغة الانجليزية و صرت أقرأ كل ما يقع تحت يدي من روايات و كتب تاريخ و فلسفة و كتب العلوم و حتي المجلات الفرنسية في مجالات العلوم التجريبية و علوم الفضاء و كل ما يخطر ببالك..أردت أن أثبت لنفسي قبل أي شخص آخر أن الثقافة لا علاقة لها بالمستوى التعليمي..و بالتوازي مع ذلك اجتهدت في عملي و أتقنت صنعتي لأقترب من الكمال فيها و انتقلت لمهنة أخرى أجدتها و صرت خبيرا فيها..و ذهل كل أفراد عائلتي و هم يقرؤون دفاتري و القصص التي كنت أكتبها و ظن بعضهم أنني إنما أنقلها من الكتب العديدة التي تزين مكتبتي..
المهم أنني طوال سنوات لاحقة استثمرت كل طاقتي و جهدي في تطوير قدراتي الفكرية و الجسدية عن طريق ممارسة الرياضة و أيضا المادية عن طريق ممارسة التجارة كنشاط مواز لعملي الأصلي..لم يعد لدي وقت تقريبا للتفكير في الحب و العواطف..أصبحت انسانا دون مشاعر إلا الحقد على من جعلني أعاني هذا الفقر العاطفي..
كان هدفي أن أصبح شخصية مشهورة في أي مجال لعلني يوما أقابلها و أرد لها الصاع صاعين و أثبت لها أنها كانت مخطئة عندما هجرتني بتلك القسوة التي لا أستحقها..


في أحد الأيام..دعاني صديق لحضور حفل زواجه من إحدى الصديقات المشتركة بيننا..و كنا جميعا أجوارا في حينا القديم..
لبست أفخر و أغلى بدلة لدي و اخترت حذاءا جلديا إيطاليا و ذهبت الى شركة خاصة لتزيين سيارتي بالورود لأنها ستحمل العروسين إلى عشهما السعيد..و بعد أخذ العريس،مررنا لأخذ العروس و الانطلاق نحو قاعة الأفراح و في الطريق مال على أذني و سألني بلهجة فيها من الخبث ما فيها:
-هل عرفت تلك الشابة التي ترافق عروستي ..تلك التي ترتدي فستانا ذهبيا ؟
-لم أنتبه جيدا ..لكنني سأعرفها حتما لو مسحت كل تلك الأصباغ عن وجهها..قلت مازحا..
-إنها خولة..
كان الاسم كافيا لجعل يداي ترتجفان على المقود و انا ألقي عليه نظرة متسائلة في المرآة الداخلية للسيارة..
-خولة....خولة؟
-نعم خولة..خولة..رد ضاحكا
انعقد حاجباي بشدة و أفكاري تسرح بعيدا و لم أفق إلا و صديقي يربت على كتفي قائلا..
-أحوالك أفضل من أحوالها كثيرا..لعل في هذا عزاءا لك..
-ماذا تقصد؟؟
-تخرجت طبيبة كما لا بد أنك تعرف..و سافرت للعمل في الخليج و بقيت لسنتين هناك لكنها عندما عادت لم تعد تلك الفتاة البريئة التي عهدناها..أصبحت تسهر في أماكن مشبوهة و تقامر و تعاقر الخمر ..أصبحت فتاة سوء بامتياز..
-لن أصدق حرفا مما تقوله..أنت تهذي بكل تأكيد..أو أننا لا نتحدث عن نفس الشخص..
-صدقني يا سامي أنا ذهلت عندما عرفت هذا أيضا و لم أصدق حتى رأيتها بأم عيني في ملهى رخيص رفقة أشخاص أقل ما يوصفون به أنهم عصابة منحرفين..
-انتهى الموضوع عند هذا الحد..قلتها و أنا ارمقه بنظرة لوم ..اهتم الان بعروسك..لقد اقتربنا..
أوصلته هو و عروسه و كدت أنطلق مبتعدا دون أن أحضر الحفل عندما سمعت أحدهم يناديني ..التفت لأراها تمشي نحوي ..بعد كل تلك السنوات..و لازالت كما عهدتها جميلة أنيقة..صفاء زرقة عينيها و شعرها الذهبي المموج..مدت يدها تصافحني و ارتجفت أصابعي للحظة و هي تلامس يدها الرقيقة قبل أن أتمالك نفسي و أرسم على شفتيّ ابتسامة ديبلوماسية قائلا:
-مرحبا خولة..
-لم تستطع الكلام و هي تمسك بيدي و ترمقني بانكسار..
جذبت يدي برفق و أنا أنظر في عينيها ..أعرف نظرة الإعتذار تلك منذ كنا أطفالا..قالت بعد صمت طويل:
-أنت لا تحقد علي..صحيح؟
-كان في قلبي الكثير منه جراء كلامك المسموم الذي حرصت أن تبلغيني إياه كاملا دون نقصان أو مراعاة لشعوري..هو نفسه ما جعلني ما أنا عليه اليوم..لذا فأنا أشكرك كثيرا لفعلك ذاك...اليوم زال كل حقدي ..
هتفت بلهفة:
-حقا ؟
-بالتأكيد..كل ما أشعر به في هذه اللحظة هو الشفقة..فقط الشفقة..
و استدرت بهدوء و ركبت السيارة دون أن ألقي عليها نظرة واحدة..ابتعدت قليلا و ابتلعت كل انفعالاتي و أنا أتنهد بارتياح و أسترخي على مقعد القيادة و السيارة تنطلق مبتعدة بي أكثر و أكثر عن الماضي الأليم...


و هكذا يا أبنائي الأعزاء،كانت نهاية القصة و كان هذا اخر لقاء بيننا...
أكاد أسمع بعضكم يتساءل عن الحكمة و العبرة من هذه القصة.. يا أعزائي..ليس من الضروري أن تكون في كل قصة عبرة .. فقط هي هلوسات شيخ فان اقترب من الموت و وضع قدما داخل القبر..هلوسات أثقلت كاهله و أراد أن يحكي لكم قصة تسليكم و يشارككم بعض ذكرياته..
قلتها و أنا أرفع عيناي لأتأمل صورة صغيرة في إطار فضي معلقة على الجدار ..صورة فتاة مراهقة زرقاء العينين ..شقراء..فتاة جميلة ترتدي ثوبا ورديا أنيقا و تعلق في رقبتها طوقا..
طوقا من الياسمين..

✍️أنور✍️

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by

articles

1

followers

1

followings

3

similar articles