بذلة الغوص و الفراشة: الجزء التاسع و العشرون

بذلة الغوص و الفراشة: الجزء التاسع و العشرون

0 reviews

داخل متحف غريفان 


هذه الليلة زرت متحف غريفان في المنام. لقد تغير كثيرا.

صحيح أن المدخل هناك ما يزال طراز الحقبة الجميلة، بمراياه المحرفة للصور و خزانته المدهشة، لكنهم ألغوا قاعات عرض الشخصيات المعاصرة.

في حجرة أولى، لم يكن تعرفي على التماثيل المعروضة حينيًا.


فيها أن مصمم الأزياء كان قد ألبسها ثيابا عادية، توجب علي أن أفحصها واحدا واحدا، وأن أحيطها ذهنيا بالميدعة البيضاء قبل أن أعي أن هؤلاء المتسكعين بأقمصتهم القطنية، وتلك الفتيات ذوات التنانير القصيرة، ومدبرة المنزل المنتصبة بعربتها الصغيرة، و هذا الشاب صاحب الخوذة، ليسوا في الحقيقة سوى الممرضين و مساعدي التمريض -من الجنسين- المتعاقبين على سريري صباح مساء.
جميعهم كانوا هنا، مجمدين في الشمع؛ اللطفاء والشرسون و الحسّاسون واللامبالون والنشيطون والكسولون. أولئك الذين تربطني بهم علاقة وثيقة وهؤلاء الذين لا أكون بين أيديهم سوى مريض عادي.


في البداية أجفلني بعضهم، فلم أر فيهم إلا سجانين شرسين وأضلاع مؤامرة كريهة.

بعد ذلك كرهت آخرين لما لووا لي ذراعي واضعين إياي على الأريكة منسيا لليلة بأكملها أمام التلفزيون، متروكا في وضعية مؤلمة برغم إنكاري لذلك.

لبضع دقائق، أو ربما لبضع ساعات كان من الممكن أن أقتلهم. ثم ابتلع الوقت نوبات
الغضب الأكثر فتورا، فصاروا أشخاصا مألوفين، يلتزمون إلى حد ما بمهمتهم الجسيمة: أن يعدلوا صلباننا قليلاً عندما تتعاظم تقرحات أكتافنا، سميتهم بكنيات لا يعرفها غيري، كي أتمكن، إذا ما دخلوا
غرفتي، من مناداتهم بصوتي الداخلي المدوي «مرحبا، بالعيون الزرق!
سلاما، دودوش الكبير» هم لا يعلمون من الأمر شيئا بطبيعة الحال.
هذا الذي يرقص حول سريري ويأخذ أوضاع مغني روك كي يسأل
«كيف حالك؟» هو دافيد بوي، أما الـ«أستاذ» فمثير لضحكي، برأس الطفل ذي الشعر الرمادي الذي يملك والجدية التي يتصنع
ليلطمني في كل مرة بالحكم نفسه: «شرط ألا يحدث شيء». 

في ما يخص «رمبو» و «ترمیناتور» فلن يكونا -بلا أدنى شك- مثالين للحنان!! أفضل عليها «ميزان الحرارة» ويمكن اعتبار تفانيها نموذجيا، لو لم تكن تنسى أداة القيس بانتظام في طيتي إبطي.
متفاوتة هي نسب نجاح نحات الشمع لغريفان في التقاط الملامح والأسارير المميزة لهؤلاء الأشخاص الشماليين، الساكنين منذ
أجيال بين رياح ساحل «أوبال» والأراضي الخصبة لـ«بيكاردي»، المستعملين طواعية للهجة الشتيمي فور التقاء أحدهم بالآخر.

بعض المنحوتات ضئيلة الشبه بالأصل.

يتطلب الأمر موهبة واحد من رسامي المنمنمات في العصر الوسيط، أولئك الذين أحيت فرشهم بما يشبه السحر الحشود العابرة لطريق الـ«فلاندر».

ليست لدى فناننا هذه الملكة، غير أنه تمكن وإن بسذاجة من وضع يده على العذوبة
الصبيانية لتلميذات التمريض، بنظارة أذرعهن المميزة للفتيات الخام والمسحة القرمزية المخضبة لخدودهن الممتلئة. قلت لنفسي، عند
مغادرتي للقاعة : أحب جلادي جميعا.
في الحجرة التالية، فوجئت بوجود غرفتي بالمستشفى البحري مستنسخة بتطابق تام، على ما بدا لي، ففي الحقيقة حالما نقترب
تنكشف لنا الصور والرسومات والملصقات فإذا هي مزيج من ألوان
غير دقيقة، ديكور معد للخداع من على بعد مسافة محددة، مثلما هو
حال التفاصيل في لوحة رسم انطباعي. لم يكن أحد على السرير،
فقط تجويف وسط الشراشف الصفراء، مكلّل بهالة من ضوء باهت.
هنا، لم أجد صعوبة في التعرف على الشخصيات المتفرقة في الزقاقين
المحاذيين لذاك السرير المهمل. كانوا بعضا من فرقة الحرس الشخصي،
التي فرخت حولي، دون سابق إنذار، في اليوم الموالي للكارثة.
جالسا على مقعد صغير، يعمر ميشال بأمانة الكراس المخصص
لأن يسجل فيه زواري كامل أحاديثي. ترتب آن ماري باقة من
أربعين وردة. ويمسك برنار بيد واحدة كتاب «يوميات ملحق
بالسفارة» لبول موراند، مفتوحا، آتيا باليد الأخرى حركة اشتهر
بها المحامون، وقد منحته عدستا نظارته الموضوعتان على طرف أنفه
والمطوقتان بالحديد، سحنة خطيب محترف. بينها تعلق فلورانس بالدبابيس رسومات أطفال على لوحة من الفلين، وشعرها الأسود
يحيط بابتسامتها الحزينة، أما باتريك المتكئ على الحائط فيبدو هائها في
أفكاره. تنبجس رقة كبرى من هذه اللوحة، الجديرة بأن نقول عنها إنها حقيقية تقريبا.

حزن مشترك و تكثيف لتلك الجدية المحببة التي أحس بها عند كل مرور لهؤلاء الأصدقاء.
 

أردتُ متابعة رحلتي لأرى إن كان المتحف ما يزال يحتفظ لي بمفاجآت أخرى، لكن حارسًا، في الرواق المظلم، أشرع مصباحه ملء وجهي. فكان علي أن أغمز بعيني.

عند الاستيقاظ، مالت نحوي ممرضة صغيرة حقيقية ذات ذراع مدورة، ومصباحها اليدوي في يدها: «هل أعطيك قرص دوائك
المنوم الآن؟ أم بعد ساعة؟».

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
اسلام ابراهيم
user hide earnings

articles

460

followers

610

followings

115

similar articles