ثمن الريش الأسود

ثمن الريش الأسود

Rating 0 out of 5.
0 reviews

 في زقاق ضيق خلف شارع التسوق الصاخب، عاشت فوميكو في غرفة صغيرة، باردة كقبر. كانت جدرانها رقيقة تتخللها نسمات الشتاء، وأرضيتها من التاتامي البالي تنضح برائحة العفن والفقر.

كانت فوميكو خياطة، تمزق عيناها تحت الضوء الخافت لإصلاح ثياب الأثرياء، أولئك الذين لا يعرفون إلا القشدة المخفوقة وحفلات الكوكتيل. في العشرين من عمرها، كانت عيناها تحملان عمقاً أكبر من عمرها بكثير، عمقاً تشكل من الجوع – ليس جوع المعدة فحسب، بل جوع الروح للجمال في عالم قبيح.
 

بينما كانت في طريقها إلى البيت، حاملةً قطعة الخبز الوحيدة التي ستشكل عشاءها، رأته.

كان مُلقىً على رصيف أبيض، كخرم فاحم في ثوب حريري. غراب. لم يكن طائراً عادياً؛ كان ضخمَ الحجم، ريشه الأسود يتموج تحت ضوء المصباح الخافت بتألق معدني أزرق وبنفسجي، كالزيت على الماء. لكن هذه العظمة كانت مكسورة. جناحه الأيسر ممدد بشكل غير طبيعي، وعينه السوداء اللامعة تحدق في السماء بعزة وجمود، وكأنه يرفض الاعتراف بالألم، بل يرفض الاعتراف بموته الوشيك.

 

image about ثمن الريش الأسود

ركعت فوميكو أمامه. لم تتردد. نزعت وشاحها الرثّ – وهو أغلى ما تملك لتدفئة عنقها – ولفت به الطائر بحركة غريزية رقيقة. لم يقاوم. شعرت بنبضات قلبه السريعة والضعيفة تحت ريشه، كآلة صغيرة على وشك التوقف. حملته إلى غرفتها، متجاهلةً برد الرياح الذي كان يلسع وجهها.

في غرفتها، وضعته بجانب المدفئة الخزفية المتواضعة. أمضت الساعات التالية وهي تعتني به. غسلت جرحه بماء دافئ، ثبت جناحه المكسور بعصاتين صغيرتين وخيط قوي من صندوق خياطتها. سقته قطرات الماء من راحة يدها. رأت في عينيه ذاك النظرة التي رأتها في عينيها كل صباح في المرآة: نظرة كبرياء في مواجهة الانهيار.
 

من ذلك اليوم، أصبح الغراب رفيقها. أسمته "كورو" – الأسود. لم يحاول الطيران، بل كان يتحرك في الغرفة بوقار ملكي مكسور. كانت تتحدث إليه أثناء عملها، فيحني رأسه وكأنه يفهم، تنعكس ألوان ريشه الأسود تحت الضوء الخافت كأحلام لم تعشها فوميكو أبداً.

 

ذات ليلة، بينما كانت نائمة على حصيرها الرقيق، هزها صوت حفيف. فتحت عينيها لترى كورو واقفاً بجانب وسادتها. في منقاره، كان هناك ريشة.
 

لم تكن ريشة عادية. كانت كبيرة، سوداء تماماً، لكنها كانت تشع بلمعة داخلية، كأنها مصنوعة من سماء ليلية سائلة. أسقطها بجانب خدها ثم تراجع بخطواته المتثاقلة المهيبة إلى زاويته.

أمسكت فوميكو بالريشة. كان ملمسها غريباً، دافئاً وكأنه حي. لمسة منها على خدها شعرت بموجة من الدفء والطمأنينة تغمرها، دفء لم تشعر به منذ أن تيتمت. علقت الريشة على الحائط فوق وسادتها، كتميمة.
 

في صباح اليوم التالي، حدث شيء غريب. جاءها عميل غاضب بثوب حريري باهظ الثمن، ممزق من جانب. الصنبعة كانت معقدة، مستحيلة الإصلاح كما قال لها. لكن يداها تحركتا وكأنهما تقودان من قوة خفية. أصلحته ببراعة غير مألوفة، بغرزات كانت تبدو وكأنها جزء من نسيج الثوب الأصلي. دفع لها الرجل ضعف المبلغ دون تذمر، منبهراً.

 

بدأت الأمور تتغير. أصبحت أياديها لا تخطئ. كانت تقلد أرقى التصاميم التي تراها في المجلات بمجرد النظر إليها. بدأ العملاء يتوافدون عليها، ليس من الفقراء، بل من سيدات المجتمع الراقي. غرفتها الباردة أصبحت مليئة بأقمشة الحرير والساتان الغالية، أصبحت رائحة العفن تختفي تحت رائحة القماش الجديد والعطر الثمين الذي كانت تشتريه الآن.

كانت الريشة تتغير أيضاً. في الليالي المقمرة، كانت تومض بضوء بارد. كانت تنمو، أو هكذا بدا لها، ويصبح لونها أعمق. وكان كورو يشيح بنظره عنها دوماً، وكأنه يخجل من عطيته، أو كأنه يعرف ثمنها.

لم تعد فوميكو الفتاة الفقيرة الخائفة. ملابسها أصبحت أفضل، وجباتها أصبحت دسمة، والدفء عاد إلى غرفتها. لكن مع كل غرزة تخطها، مع كل قطعة ذهبية تدخرها، كانت تشعر بشيء يغادرها. لم يكن مجرد براءة، بل كان شيئاً أكثر جوهرية. أحلامها أصبحت غريبة: كانت تحلم بأنها تطير فوق مدينة طوكيو المغطاة بالثلج، تنظر إلى الأسفل إلى غرفتها الصغيرة، وترى نفسها هناك، نائمة، بينما تذوب صورة جسدها النائم ببطء في الظلام.

ذات مساء، بينما كانت تخيط فستان زفاف لابنة أحد السياسيين الكبار، دخل عليها رجل. كان يرتدي بدلة غربية مكوية بإتقان، لكن عينيه كانتا قديمتين، عميقتين، تحملان معرفة لا تنتمي إلى هذا العصر. لم يكن يحمل أي قماش للإصلاح.

"أتيت لأرى الطائر"، قال بصوته الذي اهتزت له أضواء المصباح.

ارتعدت فوميكو. “أي طائر؟”

ابتسم الرجل ابتسامة لا تصل إلى عينيه. “لا تحاولي إخفاءه. رائحته تفوح من كل مكان هنا.

كشف عن رسغه. كان هناك وشم لغراب ذي ثلاثة أرجل، مطابق تماماً لشكل كورو عندما كان يمد رجليه أحياناً. لم تكن قد لاحظت ذلك من قبل.

 

"إنه ليس ملككِ"، قال الرجل بهدوء خطر. “لقد ضل طريقه في معركته. أنتِ من أنقذته، وهذا يمنحكِ حقاً، لكن ليس حق الاحتفاظ به. لقد أخذتِ ريشته، واستفدتِ من بركته. لكن البركات لها ثمن، والعقود مع مخلوقات العالم الآخر يجب أن تُوفى.”

أخبرها أنه من عائلة قديمة كانت تعبد وتحمي هذه المخلوقات الروحية. لم يكن كورو مجرد طائر، بل كان رسولًا بين العوالم. ريشته كانت جزءًا من قوته، مُعارة لها، وليست مُوهبة.

"الريشة تعطيكِ الحظ والمهارة، لكنها تأخذ منكِ في المقابل"، قال الرجل، عيناه تثبتان على الريشة المتلألئة على الحائط. “تأخذ من ذاكرتكِ، من مشاعركِ، من كل ما يجعلُكِ بشرية. ستستمرين في الازدهار، لكنكِ ستصبحين باردة كالثلج خارج هذا الباب، جميلة ومثالية وكالتمثال الذي تخيطينه. هل هذا ما تريدينه؟”

نظرت فوميكو إلى كورو. نظر إليها للمرة الأولى منذ وقت طويل. في عينيه السوداوين، رأت صدى لعينها وهي تحدق فيه في تلك الليلة الثلجية. رأت الشفقة، والخيار.

صعدت إلى الريشة، نزعتها من الحائط. كانت ثقيلة بشكل غير متوقع، وكأنها مصنوعة من حديد أسود مظلم. مشت نحو الرجل وسلمتها إياه.

في اللحظة التي غادر فيها الرجل بالريشة، سمعت صوت حفيف أجنحة خلفها. التفتت لترى كورو واقفاً في منتصف الغرفة، جناحاه ممدودان وكاملان. لم يعد ذلك المخلوق المكسور. كان الآن كائناً أسطورياً، مليئاً بقوة صامتة هائلة. حلق في دائرة واحدة فوق رأسها، ناظراً إليها نظرة فيها امتنان أبدي، وحكمة حزينة. ثم طار من النافذة الصغيرة، مختفياً في سماء الليل المليئة بالنجوم.

سقط صمت ثقيل في الغرفة. لم يكن صمت الوحدة القديم، بل كان صمتاً مختلفاً. نظفت فوميكو مكانه. وجدت ريشة سوداء صغيرة عادية على الأرض، واحتفظت بها.

في الأيام التي تلت، لم تعد مهارتها خارقة. عادت إليها براعتها البشرية، الماهرة لكن غير المعصومة. بعض العملاء الغنيين توقفوا عن المجيء. لكنها استمرت في العمل.

في بعض الأمسيات، خاصة عندما يكون الجو بارداً وثلجياً، كانت تنظر من نافذتها إلى السماء. كانت تعلم أنه في مكان ما، يحلق مخلوق جميل ومكسور ساعدها كما ساعدته، وأن عقود العالم الآخر قد تكون مروعة، لكن أحياناً، الوفاء لها هو ما يجعلنا بشراً، حتى لو كان الثمن دفئاً لم نعد نشعر به. وكانت تلك الريشة الصغيرة العادية تذكرها بأن بعض الجروح تشفى، تاركةً ندبة جميلة، كالتي على جناح غراب، أو على روح إنسان.

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

3

followings

3

followings

0

similar articles
-