
عشق الطفولة: الجزء الاول

الفصل الأول: لقاء الطفولة
في ذلك اليوم الصيفي الدافئ، حيث كانت الشمس تلعب بخيوطها الذهبية على أوراق الأشجار، وقفت سلمى على أطراف الرصيف تراقب الأطفال وهم يلعبون في الحديقة العامة. كان الهواء يملأ رئتيها بنسماته العذبة، وكانت تقف هناك كأنها جزء من المنظر، متأملة، لكن قلبها كان يخبئ مشاعر لا تستطيع فهمها بعد. لم تكن كعادتها، لم تكن تذهب إلى الحديقة إلا مع أصدقائها أو مع والدتها، لكن اليوم كان مختلفاً.
أين هو؟ هذا هو السؤال الذي يراود عقلها بشكل مستمر. لم يكن يخطئ عادة، بل كان يظهر دوماً في نفس الساعة، ويجلس تحت شجرة التوت الكبيرة حيث كانا يلتقيان عادة في أيام الصيف البعيدة، أيام الطفولة التي لم تزل ذكرياتها عالقة في ذهنها كلوحة قديمة، مرت عليهما كلحظات بريئة. كانت سلمى تراقب كل شيء حولها بعينين شغوفين، وكأنها تنتظر أن يحدث شيئاً ما، شيئاً غريباً، شيئاً كأنه حلم.
ثم ظهرت صورته، تلك الصورة التي لطالما ظلت في مخيلتها لسنوات طويلة. كان يقترب منها بخطواته الهادئة، ممسكاً بكتاب تحت ذراعه، كما كان يفعل دائماً. ابتسمت سلمى ببطء، ذلك الابتسام الذي لطالما حمل في طياته العديد من المشاعر التي لم تجد بعد الكلمات المناسبة للتعبير عنها. عندما رآها، توقف عن المشي للحظة، ثم أكمل خطواته نحوها وكأن لا شيء تغير بينهما، وكأن السنين لم تمضِ.
"أهلاً، سلمى." قالها بصوته المألوف، الذي كانت تفتقده طيلة هذه السنوات.
"أهلاً بك، عماد." أجابت، لكن كلماتها كانت تخرج بصوت خافت، مليء بالذكريات التي كانت تتصارع في صدرها.
لم يعرفا بعد كيف بدأ ذلك، ولم يدركا مدى تأثير تلك اللحظة البسيطة في حياتهما. لكن الحب بينهما، الذي بدأ في أيام الطفولة، كان له وقع مختلف الآن. كانت سلمى تشعر بأن كل شيء حولها قد تغير، وأن عيونها التي كانت تراه فيها منذ سنوات قد بدأت تلمع بحنين غريب، حنين لذكريات ماضية كانت قد اعتقدت أنها انتهت مع مرور الزمن.
مرت لحظات من الصمت بينهما، كما لو كانا يتأملان الزمن الذي مر، ثم بدأت سلمى في الحديث. “أتذكر حين كنا نلعب هنا طوال الوقت؟ كنت دائماً تحمل الكتاب في يدك.”
"أذكر جيداً، كنتِ تلاحقينني دائماً لتقرأين معي. كنتِ تقولين لي إنك لا تحبين القراءة، لكنك كنتِ تفعلين ذلك فقط لأنني أحبها." أجاب عماد وهو يضحك بصوت خفيف، ويكمل: “لقد كنتِ تخافين من أن تتركني وحدي، أليس كذلك؟”
ابتسمت سلمى بخجل. "ربما." قالتها بنبرة تكاد تكون غير واضحة، لكنها كانت تعرف أنه كان على صواب. لطالما خافت من أن يفقدها شيئاً ما، أو أن يذهب بعيداً كما يفعل الآخرون. كان عماد بالنسبة لها أكثر من مجرد صديق، كان الشخص الذي تشعر بالأمان معه، رغم صغر سنهما. الحب، في تلك الأيام، كان شيئاً بسيطاً وعفوياً، ولكنه عميق في أعماق القلب.
عماد، الذي لم يتغير شكله كثيراً منذ تلك الأيام، كان قد أصبح شاباً، وها هو يعود الآن إلى نفس المكان الذي شهد على ذكريات طفولتهما معاً. كانت سلمى تراقب وجهه عن كثب، تجد فيه ملامح الطفولة التي كانت قد اختفت في وجهها هي، لكنها كانت تشعر أن شيئاً ما قد تغير.
"أتعلم؟ كنتِ أول شخص أحببته في حياتي، حتى لو لم أخبرك بذلك حينها." قال عماد، وعيناه مليئة بالشوق الذي كان يخبئه على مر السنين.
سلمى تراجعت خطوة إلى الوراء، كما لو كانت المفاجأة قد أصابتها. كانت الكلمات تنساب من شفتيه كما لو كانت تحمل أسراراً دفنتها السنوات، وكأنها تفتح أبواباً لم تُفتح بعد. كان الحب الذي كان بينهما في الطفولة يتجدد الآن، ولكنه كان مختلفاً، وكان مليئاً بالأسئلة التي تحتاج إلى إجابات.
"وأنت؟ هل كنت تظنني أفكر فيك بالطريقة نفسها؟" سألته، وعينها لا تتركه للحظة.
توقف عماد للحظة، ثم قال: “لم أكن أعرف كيف أقولها حينها، ولكن نعم، كنت أفكر فيك طوال الوقت. كنا فقط أطفال، ولا ندرك مدى تأثير هذا الحب في حياتنا، ولكنني الآن أعلم، أعلم تماماً.”
كان الكلام بينهما بسيطاً، لكنه كان يحمل الكثير من المعاني التي لا يُمكن تفسيرها بسهولة. كانت سلمى تشعر أن هناك شيئاً مفقوداً، شيئاً كان يجب أن يحدث في تلك الأيام الطفولية، لكن الوقت أخذ منهما الكثير. ومع ذلك، كان الوعي الآن يدفعهما للبحث عن لحظات أخرى، لحظات قد تظل ذكرى جميلة في قلب كل منهما، لحظات قد تكون بداية لشيء أكبر، شيء لم يكن بالإمكان تخيله في الماضي.

الفصل الثاني: العودة إلى البدايه
مرت الأيام وكأنها أسابيع، وكأن الزمن توقف ليروي لهما قصة جديدة، قصة ربما لم يكن ليكتشفها إلا بعد هذه اللقاءات المفاجئة. في البداية، كانت اللقاءات قليلة ومتباعدة، لكن مع مرور الوقت، بدأت سلمى وعماد يشعران بأن هناك شيئاً ما يجذبهما نحو بعضهما البعض، وكأن الحب القديم الذي كان بينهما في الطفولة بدأ ينهض من جديد.
ذات يوم، قررت سلمى أن تلتقي بعماد مرة أخرى في الحديقة التي كانت شاهدة على طفولتهما. كانت الشمس قد بدأت تغيب، والأجواء في المساء كانت هادئة، تماماً مثلما كانت قبل سنوات، عندما كانا يتشاركان الحديث عن أحلامهم الصغيرة والطموحات التي لم يكتمل بعضها. كانت سلمى تعلم أن هذا اللقاء سيكون مختلفاً، فهي الآن لم تعد تلك الطفلة التي تلهو في الحديقة، ولا هو ذلك الشاب الذي يحمل الكتاب تحت ذراعه. بل أصبحا شخصين يسيران في الحياة بطرق متباينة، ورغم ذلك، شعرا بأنهما لا يزالان يحملان نفس الذكريات التي ربطتهما معاً.
وصل عماد قبل أن تصل سلمى، وكان يجلس تحت شجرة التوت القديمة نفسها. كانت الشجرة كما هي، ضخمة وظليلة، جذورها عميقة في الأرض، مثل ذكرياتهم. كان عماد يحمل بين يديه الكتاب نفسه، وكأن شيئاً لم يتغير.
"هل تتذكرين هذه الشجرة؟" قال عماد عندما رآها تقترب منه.
ابتسمت سلمى، وأجابته: “كيف لي أن أنسى؟ لقد كانت الشاهد الوحيد على الكثير من لحظاتنا. هل تذكر عندما كنت أركض حولها وأنت تراقبني بعينيك الضاحكتين؟”
ضحك عماد وقال: “أذكر جيداً. كنتِ تضحكين وتختفين خلف الشجرة ثم تعودين مرة أخرى كأنك أظهرتِ لي سراً ثم تختفين مجدداً.”
كانت تلك الأيام مليئة بالبراءة، ولا شيء في العالم كان يشغل تفكيرهم سوى اللحظات التي يقضونها معاً. أما اليوم، فكل شيء اختلف. كان عماد ينظر إلى سلمى نظرة عميقة، وكأنّه يحاول أن يقرأ ما في أعماقها، بينما كانت هي تحاول أن تكتشف ما الذي تغير بينهما.
"سلمى، هل تعتقدين أننا يمكن أن نعود إلى تلك الأيام؟" سأل عماد بعد لحظة من الصمت.
توقفت سلمى عن السير للحظة، وأخذت نفساً عميقاً. كان السؤال يبدو بسيطاً، ولكن الجواب كان أكثر تعقيداً مما يمكن أن تتوقعه. كيف يمكن أن تعود الأشياء كما كانت؟ وكيف يمكن أن تعود الأيام الطفولية بعد أن مرّ الزمن وأصبح كل شيء ملبداً بالأحلام والإحباطات؟
"لا أظن أن العودة إلى الماضي ممكنة. لكن يمكننا أن نبدأ من جديد، أن نعيش لحظاتنا هذه دون أن ننتظر أن نعيد ما كان." قالت سلمى بصوت هادئ، ولكن كلماتها كانت تحمل بداخلها الكثير من المعاني.
عماد نظر إليها للحظة، وكأن كلماتها كانت تحمل مفتاحاً لفهم ما كان يجري بينهما. كانت الكلمات التي لم يتحدثا عنها طوال سنوات من الصمت قد أصبحت الآن واضحة أمامهما.
"أعتقد أنك محقة. لا يمكننا أن نعيد ما مضى، لكن يمكننا أن نعيش الآن. أن نصنع ذكريات جديدة." قال عماد، ثم أضاف مبتسماً: “أنتِ دائمًا تعلمين كيف تجعلين الأمور تبدو بسيطة.”
سلمى ابتسمت، لكنها كانت تشعر بشيء غريب، شيء يختلط بين الفرح والحيرة. كانت تعرف أن ما يقوله عماد صحيح، لكن فكرة بناء علاقة جديدة بعد كل هذه السنوات كانت تثير في قلبها تساؤلات كثيرة. هل سيبقى ما بينهما كما كان في الماضي؟ أم أن هذا اللقاء سيكون مجرد فقاعة تختفي مع مرور الوقت؟
"لكن عماد، هل تعتقد أننا قادرين على أن نكون كما كنا؟" سألته بصوت مليء بالقلق.
عماد فكر للحظة، ثم قال: “لا أعرف، ولكنني أريد أن أحاول. أريد أن أعرفك أكثر الآن، وأريد أن أكتشف كيف يمكننا أن نكون معاً في هذه اللحظة.”
كانت كلمات عماد تحمل لهجة من الجدية والصدق، وكأنها تطمئن قلبها على الرغم من شكوكها. ومع ذلك، كانت سلمى تشعر بأن هناك شيئاً غير واضح بعد، شيء تحتاج إلى وقت لفهمه.
مرت ساعات قليلة، وتحدثا عن الكثير من الأشياء التي حدثت في حياتهما منذ آخر مرة التقيا فيها. كانت حكايات عماد عن مغامراته في الدراسة والسفر تثير فضول سلمى، بينما كانت هي تشاركه قصصاً عن عملها وأصدقائها الجدد. لكنها كانت تعرف أن كل حديث عن الماضي لا يعني شيئاً إذا لم تكن مستعدة للعيش في الحاضر. كان قلبها لا يزال يحمل أثر الحب الذي كان بينهما في الماضي، لكنها لم تكن متأكدة ما إذا كان هذا الحب سيستمر الآن.
"أعتقد أننا بحاجة إلى وقت لنفهم بعضنا البعض مجدداً. أريد أن أعرف ما الذي يجعل قلبك ينبض، وما الذي يزعجك، وما الذي يجعل عينيك تلمع." قالت سلمى، وكان كلامها يحمل رغبة في إعادة بناء العلاقة بينهما بشكل جديد، ولكن بحذر.
عماد نظر إليها بتمعن، ثم قال: “سأنتظر، سلمى. سأنتظر حتى تكوني مستعدة.”
وعندما نظر كل منهما في عيني الآخر، شعرا بأنهما قد اقتربا من بداية جديدة. كانت الذكريات جزءاً من حياتهما، ولكن المستقبل كان ينتظر أن يصنع لهما ذكريات جديدة.

الفصل الثالث: خطوات نحو المستقبل
مرت أسابيع على اللقاء الأخير بين سلمى وعماد. ورغم أن كل منهما كان يحاول أن يعيش يومه بكل تفاصيله، إلا أن هناك شيئاً ما غير مرئي كان يربط بينهما، شيء يجعلهما يعودان دائماً إلى تلك اللحظة تحت شجرة التوت في الحديقة. كانا يتواصلان أكثر فأكثر، ومع كل لقاء كان قلب سلمى ينبض بسرعة أكبر، وكأنها تحاول أن تستعيد شيئاً ما ضاع منها، لكن دون أن تجرؤ على أن تسميه.
كان عماد لا يزال يذكر كلمات سلمى جيداً: "نحتاج إلى وقت لنعرف بعضنا البعض مجدداً." وها هو يحاول أن يمنحها هذا الوقت، لكنه لم يكن يستطيع أن يخفي مشاعره بعد كل هذه السنوات. كان يعلم أن الحب بينهما لا يزال حياً، رغم مرور الوقت، وأن ذلك الشعور الذي كان يربطهما في الطفولة قد تطور ليصبح شيئاً أكبر، لكنه لم يكن يعلم ما إذا كان هذا التغيير سيجعلهما ينجحان في بناء شيء حقيقي.
وفي إحدى الأمسيات، بينما كانا يتجولان في شارع صغير هادئ في المدينة، توقفا أمام مقهى قديم كانا يزورانه سوياً في أيام الطفولة. كان المقهى يبدو كما هو، بسيطاً، لا يتغير، مثل ذكرياتهم. دخلت سلمى إلى المقهى، بينما كان عماد يتبعها بهدوء، ووجدوا طاولة بالقرب من النافذة.
"أتذكرين هنا؟" قال عماد وهو يشير إلى الطاولة التي كانت مكاناً لحديثهم الطويل في الماضي. “كنتِ تجلسين هنا، وأنا كنت أحاول أن أشرح لك كل شيء عن الكتب، وأنتِ تضحكين وتقولين لي: 'عماد، الكتب لا تهمني، أنا أريد أن أعيش القصة في الحياة، لا في الورق.'”
ضحكت سلمى وتذكرت تلك الأيام البسيطة. “نعم، أذكر ذلك تماماً. كنت دائمًا تحاول أن تقنعني بحب القراءة، ولكنني كنت دائمًا أميل إلى الحياة العملية أكثر. كنت أريد أن أعيش اللحظة، لا أن أعيش في الخيال.”
"ولكنك الآن تعيشين لحظتك بطريقة أخرى، أليس كذلك؟" قال عماد بنبرة متمعنة، بينما كانت عينيه تراقبانها بعناية.
أحست سلمى ببعض التوتر في قلبها. “نعم، ربما. لكن الحياة لم تعد كما كانت، والخيال لم يعد كما في الماضي. كل شيء تغير، وعلينا أن نواجه الواقع.”
قال عماد بحكمة: “لكن الواقع يمكن أن يكون أجمل إذا اخترنا أن نعيشه معاً. أنا أريد أن أعيش هذا الواقع معك، سلمى. أريد أن نخلق معاً ذكريات جديدة.”
نظرت إليه سلمى بصمت لبرهة. كان كلامه عميقاً، وكان صوته يحمل معاني لم تكن قد سمعتها منه من قبل. كانت مشاعرها تتضارب، لكنها كانت تعرف في أعماق قلبها أن هناك شيئاً حقيقياً في كلماته، شيئاً يستحق التجربة.
"لكن ماذا عن الماضي؟ عن تلك الأيام التي مررنا بها؟" قالت سلمى، مشيرة إلى الفجوة الزمنية التي كانت بينهما.
عماد ابتسم بابتسامة هادئة. “الماضي هو جزء من هويتنا، ولكنه ليس كل شيء. نحن من نصنع حاضرنا ومستقبلنا. الماضي لا يستطيع أن يأخذ منا تلك الفرصة التي أمامنا.”
كانت كلمات عماد تحمل قوة غير متوقعة، وكان يبدو أنه فهم تماماً ما كانت تشعر به سلمى. لم يكن يقصد أن ينسيا الماضي تماماً، بل كان يريد أن يعملا معاً على بناء شيء جديد.
بعد لحظات من الصمت، قالت سلمى: “أنت محق. ربما تكون هذه هي الفرصة التي نحتاجها. أعتقد أننا بحاجة أن نمنح أنفسنا فرصة أخرى، لكن هذه المرة، نعيش الحاضر بكل تفاصيله.”
تغيرت ملامح وجه عماد عندما سمع كلماتها. كانت هذه اللحظة بالنسبة له، لحظة لم يكن يتوقعها. لم يكن يريد سوى أن يمنح نفسه الفرصة لأن يبدأ مع سلمى من جديد، لكن هذه المرة بحذر، وبقلب صادق.
"إذن، كيف نبدأ؟" سأل عماد وهو يتطلع إلى عينيها بعينين مليئتين بالأمل.
سلمى ابتسمت وقالت: “نبدأ بأن نعيش كل لحظة كما هي، أن نكون صادقين مع بعضنا البعض. لا نعيد ما مضى، بل نبني شيئاً جديداً على أساس ما تعلمناه.”
وفي تلك اللحظة، شعر كل منهما أنه لا يمكن العودة إلى الوراء، وأن ما كان بينهما في الماضي كان مجرد بداية لشيء أعظم. كان لديهما الكثير ليتعلما من بعضهما البعض، والكثير ليكتشفا معاً.
مرت الأيام بسرعة، وبدأ عماد وسلما في بناء علاقة جديدة، مليئة بالتفاهم والاحترام. كانا يلتقيان يومياً، يتناولان القهوة معاً، ويتحدثان عن أحلامهما وما يتمنى كل منهما في المستقبل. كانت هذه اللحظات التي مر بها كل منهما، مليئة بالكثير من العواطف التي لم يكن من السهل التعبير عنها بالكلمات. ولكن كل لحظة كانت تدل على شيء أكبر، على اتصال عميق لا يمكن لأي من الأيام أو السنين أن يغيره.
لكن الحياة، كما هي، لا تأتي دوماً بالسهولة التي نتوقعها. كانت هناك أوقات يمران فيها بتحديات صغيرة، شكوك قد تظهر بين الحين والآخر، لكنهما كانا يعلمون أن الحب الذي نشأ بينهما منذ الطفولة، رغم كل التغيرات، كان هو الأساس الذي يمكنهما البناء عليه.
في النهاية، أدرك كل من عماد وسلما أنه لا يوجد شيء مستحيل عندما يكونان معاً، وأن الحياة مليئة بالفرص التي تنتظر من يقرر أن يعيشها بشجاعة.

الفصل الرابع: اختبار الزمن
مرّت الأشهر بسرعة، ولكن العلاقة بين سلمى وعماد كانت تنمو بشكل مطرد. كانا يقضيان وقتاً أطول معاً، يتشاركان كل لحظة من لحظات الحياة، ويعيدان اكتشاف بعضهما البعض في كل لقاء. ومع مرور الوقت، أصبحا أكثر قرباً من بعضهما، لكن كل منهما كان يدرك أن الحب ليس مجرد شعور عابر، بل هو التزام، وهو أمر يتطلب الكثير من الجهد والصبر.
لكن الحياة لم تكن دائماً تسير بسلاسة. كانت هناك لحظات من الشك، كانت هناك أمواج من التوتر بين الحين والآخر. وعندما ظهرت بعض التحديات التي فرضتها الحياة اليومية، بدأ كل منهما يواجه أسئلة جديدة.
في إحدى الأمسيات، كان عماد يجلس مع سلمى في المقهى الذي اعتادوا زيارته منذ طفولتهم. الجو كان هادئاً، والهواء المنعش يملأ المكان، لكن على وجه سلمى كانت هناك تعابير توحي بشيء مقلق. كانت تراقب فنجان قهوتها بصمت، وعينيها تبتعدان عن عماد كلما نظر إليها. لم يكن عماد غافلاً عن هذا التغيير في سلوكها.
"سلمى، هل كل شيء على ما يرام؟" سأل عماد بصوت هادئ، محاولاً أن يكسر الصمت الذي طال بينهما.
رفعت سلمى عينيها أخيرًا، ونظرت إليه بنظرة حائرة. كان واضحاً أن هناك شيئاً يشغل ذهنها، ولكنها كانت تتردد في التحدث عنه. "أعتقد أنني بحاجة للتفكير قليلاً، عماد. لقد أصبحت الأمور أكثر تعقيداً مما كنت أتوقع." قالت كلماتها ببطء، وكأنها تبحث عن أفضل طريقة لشرح مشاعرها.
عماد شعر بالقلق، لكنه قرر أن يبقى هادئًا. "هل يمكنني أن أساعدك في شيء؟" سألها، متحسّسًا أن هناك مشكلة أعمق من مجرد حديث عابر.
تنهدت سلمى وأخذت نفساً عميقاً. "لا أعرف. ربما تكون المشكلة في أنني لا أستطيع أن أفرّق بين ما أريد وما أحتاجه. لدينا علاقة جميلة، نعم، ولكنني في نفس الوقت أشعر أنني لا أستطيع التقدم بالشكل الذي أريد." توقفت قليلاً ثم تابعت: “أنت تعرف كيف كنتِ أنا في الماضي. كنت دائمًا أعيش اللحظة، أرفض التقيّد، أبحث عن الحرية في كل شيء. وعندما عدنا إلى بعضنا، بدأت أشعر وكأنني أحاول أن أجد توازناً بين ما أريده من حياتي وما أحتاجه من علاقتنا.”
سكتت سلمى للحظة، وكأن كلماتها كانت تفرغ كل ما في قلبها. عماد كان يستمع إليها بصمت، عينيه مليئتين بالاهتمام والقلق. لم يكن يعلم ما الذي يمكن أن يقوله في تلك اللحظة، لكنه كان يعرف أن الصمت في بعض الأحيان هو السبيل الوحيد لفهم ما يجري في قلب الآخر.
"أفهم ما تعنين، سلمى." قال عماد أخيرًا. “أنا لا أريد أن أضغط عليكِ، ولا أريدك أن تشعري بأي نوع من القيود. لكنني فقط أريدك أن تعرفي أنني هنا، وأنني مستعد أن أواجه أي شيء معك.”
سلمى ابتسمت بحزن، ثم قالت: “أنت طيب جداً، عماد. ولكن هل تعتقد أنه من السهل أن نجد التوازن بين الحرية التي أبحث عنها والمستقبل الذي نريد بناءه معاً؟”
كان عماد يعرف أن الإجابة على هذا السؤال ليست بسيطة. لكن بصدق قلبه، قال: “لا شيء في الحياة يأتي بسهولة. لكننا نستطيع أن نجد الطريقة إذا كنا صادقين مع أنفسنا ومع بعضنا البعض. أعتقد أننا بحاجة للوقت. الوقت كي نعرف ماذا نريد، ولنعرف كيف نكون معًا دون أن نفقد أنفسنا في العملية.”
سلمى كانت تشعر براحة عميقة في كلمات عماد، لكنها كانت لا تزال تشعر بشيء من التردد. “أنت محق، عماد. ولكنني أخاف. أخاف من أن نتسرع، وأن نجد أنفسنا في مواقف صعبة حيث يصعب إيجاد حل.”
عماد فكر في كلامها، ثم قال: “لا أحد يعرف ما الذي يحمله المستقبل. لكننا نستطيع أن نبدأ اليوم. يمكننا أن نأخذ الأمور خطوة بخطوة. فقط لا تتراجعي عن قلبك، سلمى. ولا تجعلي الخوف يسيطر عليكِ.”
حست سلمى بشيء من الطمأنينة وهي تستمع إلى كلامه، لكنها كانت تحتاج إلى وقت لتفكر أكثر في كل ما دار بينهما. "ربما، ربما أحتاج إلى بعض الوقت لأفهم ما أريد حقًا." قالتها بصوت منخفض، وهي تنظر إلى فنجان قهوتها.
مرت الأيام، وكان عماد يحترم رغبتها في أخذ وقتها. لم يكن يسعى إلى الضغط عليها، بل كان يترك لها المساحة التي تحتاجها. ومع كل يوم يمر، كان يشعر بتعقيد أكثر في مشاعره، لكنه كان يعرف أنه لا يستطيع أن يفرض على سلمى شيئاً. كانت هي الوحيدة التي يمكنها اتخاذ القرار بشأن ما إذا كانت ستواصل المضي في هذه العلاقة أم لا.
وفي يومٍ آخر، بينما كانا يتجولان في أحد شوارع المدينة، توقفت سلمى فجأة، وكأنها اتخذت قراراً كبيراً. “عماد، لقد فكرت كثيراً. وأعتقد أنني بحاجة للتحدث معك عن شيء مهم.”
عماد توقف ونظر إليها، وكانت نبرته مليئة بالقلق. “ماذا يحدث؟ هل كل شيء بخير؟”
سلمى ابتسمت ببطء، وقالت: “نعم، كل شيء بخير. في الحقيقة، كنت أخشى أن أقول هذا، لكنني الآن أعلم ماذا أريد. أعلم أنه لا يمكنني أن أعيش دونك. أريد أن أكون معك، ولكنني أحتاج إلى بعض الوقت لنتعلم كيف نعيش معًا بسلام، بلا خوف أو قيود.”
عماد شعر بسعادة عارمة، لكنه أيضاً شعر بأنهما على أعتاب اختبار جديد. “وأنا هنا من أجلك، سلمى. نحن معًا في هذا، مهما كان الطريق الذي نحتاج للسير فيه.”
في تلك اللحظة، شعر كل منهما أن التحديات التي كانت تلوح في الأفق قد أصبحت أكثر وضوحاً. لم يكن الطريق سهلاً، ولكنه كان مليئاً بالأمل، والفرص، والتفاهم.








