نبض ركام الظلام

نبض ركام الظلام

0 reviews

نبض في ركام الظلام

في مدينة كانت تنام على وسادة الأمن، تهتز أحلامها بسلام كذب. لم يكن أحد ليتخيل أن وشاح الليل القاتم سيتحول إلى كفن، وأن الساعة الثانية بعد منتصف الليل ستحمل معها موعداً مع الجحيم.

استيقظت المدينة بأكملها على صراخ السماء، على دويّ اهتزازات عنيفة كأن الأرض تمور من تحت أقدامهم. تدافع الجميع خارج منازلهم، يقتلون بعضهم البعض في محاولات بائسة للفوز بفرصة لمشاهدة ما يحدث، ولكن ما رأوه كان كابوساً يفوق كل تصور. أشلاء بشرية متناثرة على الطرقات، بيوت ابتلعتها النيران وكأنها لم تكن، انفجارات لا تتوقف تمزق أوصال المدينة في كل زاوية. صفارات الإنذار كانت تصرخ في جنون، تغطي على صرخات الرعب والهلاك. نعم، كانت هذه أصوات الحرب، كأن موعد فناء العالم قد حان.

هرول الجميع في الشوارع، لا وقت لالتقاط الأنفاس، لا وقت للتشبث بمن يحبون. كانت الفوضى هي القانون الوحيد، والنجاة هي العملة الوحيدة. لا يعلمون إلى أين يذهبون، ولكنهم يركضون، يركضون فقط. انتهت تلك الليلة، تاركة خلفها أثراً لا يمحى: الموت والفراق. أصبح الجميع سواسية في الفقر، في الجوع، في الألم، في فقدان الأحبة، في التشرد، في كل أنواع البؤس. هذا ما جنته أيدي البشر بسبب طمعهم الأعمى، الذي لم يتورع عن سلب الحقوق، ولو كان الثمن أرواح الأبرياء ودماءهم. تحولت المدينة الجميلة إلى مستنقع من الخراب.


همسة حياة في قلب الجحيم

مرت الأيام ببطء مؤلم، والألم لا يفارق الوجوه. ذات ليلة، بينما كان رجل يمشي وحيدًا في الطرقات المظلمة، اخترق سكون الليل صوتٌ خافت، صراخ رضيع. توقف الرجل، يبحث عن مصدر الصوت في الظلام الدامس. صاح: "هل من أحد هنا؟" لم يجب أحد، فمن يجيب نداءً في قلب الحرب؟

عثر الرجل على باب بيت محطم، فدخل بحذر. كان المنزل شبه مدمر، لكن صوت الصراخ ما زال ينبعث من بين الركام. بدأ الرجل في البحث بعصبية، يزيح الأنقاض بيديه، حتى لمح امرأة تنزف، تشير إليه من بعيد بوهن. أسرع إليها، فوجد بين يديها طفلاً رضيعاً يصرخ بشدة. حاول مساعدتها، إخراجها من هذا الجحيم، لكن كلماتها كانت تتصارع مع الموت لتخرج بصعوبة: "أخرج... ولدي... من هنا..." ثم، فاضت روحها، تاركة آخر الدموع على وجهها مودعة عالماً قاسياً.

انهارت دموع الرجل، حاملاً الطفل الرضيع، ينظر إلى الأم الميتة: "هل تقصدين أن أخرجه من حطام المنزل أم من حطام العالم القاسي؟" نظر إلى الطفل بحزن: "قدر لك أن تأتي إلى هذا العالم، إلى هذه المدينة، في خضم هذه الحرب. لعل في ذلك حكمة ستكشفها الأيام."

عاد الرجل إلى بيته، حاملاً آدم الصغير بين ذراعيه. نظرت زوجته إليه بذهول: "ما هذا؟ من أين أتيت بهذا الطفل؟" حكى لها ما حدث. احتضنت المرأة الطفل بحنان، ودموعها تمتزج بابتسامة: "إنه عوض لنا عن طفلنا الذي مات! سنربيه ونعتني به." ثم نظرت إليه وقالت: "سوف ندعوه آدم."


قمر في ليل العزلة

مرت السنوات سريعة على آدم، وعمره يزداد، والمدينة لا تزداد إلا سوءًا وفقراً. عندما بلغ السابعة، كان كلما حاول اللعب مع الأطفال، ابتعدوا عنه ورفضوا مشاركته، فبشرته كانت تميل إلى السواد قليلاً. عاد إلى أبويه يبكي: "هل فيّ عيب؟ لماذا يبتعد عني الجميع ويتجاهلونني؟ أليس الخالق واحداً، فلماذا يراني المخلوقون غريباً؟" كانت هذه الأسئلة تتكرر في ذهن الطفل. عاش طفولته وحيداً، منزوياً، مرفوضاً من الجميع دون سبب، يراقب الأطفال من بعيد وهم يلعبون ويمرحون، لا يملك سوى أبويه اللذين ربياه.

كبر آدم، وأصبح شاباً في العشرين. مرض والده فجأة، وكان الدواء باهظ الثمن، لا يُمنح إلا لمن يملك ثمنه. عمل آدم ليل نهار بلا توقف لتوفير ثمن العلاج. في اليوم الذي حصل فيه على المال، دخل على والده ليخبره، فوجده يقف ينظر إلى السماء في الليل. اقترب آدم، فقال الأب: "اقترب أكثر يا آدم، تعال وانظر إلى هذا القمر." قال آدم بتعجب: "إني أراه كل يوم يا أبي." قال الأب: "صف لي القمر بوصف، فإني أعلم أنك مبدع في التعبير والكتابة، وإني أتوقع لك مستقبلاً عظيماً كأحد الأدباء. صف لي القمر يا آدم." قال آدم كلمة واحدة ثم صمت: "إنه أنا." قال الأب: "كيف؟ هل تقصد الجمال أم ارتفاعه عن الجميع؟" قال آدم: "بل لأنه وحيد منذ خلقه إلى الآن. لا تغرنك كثرة النجوم من حوله يا أبي، فإنها منشغلة عنه بما يشبهها، وهو ينظر إليها بحزن من بعيد."

نظر الأب إلى آدم نظرة حزن وألم، أدرك ما عاناه هذا الشاب منذ صغره بسبب التفرقة العنصرية بين جهلاء البشر. فقال الأب: "أريدك مثل هذا القمر من جانبه الآخر، ينير العالم في وسط الظلام المخيف. لا تدع شيئاً يقيد كلماتك، وكلما حطمك البشر من حولك، اصنع من الحطام سلماً واصعد به فوق الجميع. اعلم يا آدم، أني سأظل أنظر إليك نظرة فخر، ولو غبت يوماً عنك فانظر إلى السماء، فإني أنظر إليك مثل هذا القمر الجميل."

مرت تلك الليلة بألم، وفي الصباح انطلق آدم ليشتري الدواء لوالده. أسرع إلى المنزل، فوجد جمعاً غفيراً من الناس يقفون عند الباب. اقترب منهم، وقال: "ما الأمر؟ لماذا أنتم مجتمعون هكذا؟" لم يجب أحد، الجميع ينظر بحزن فقط. دخل آدم إلى البيت مسرعاً، فوجد أمه أمامه تبكي بشدة. قالت له: "والدك يخبرك بأن القمر جميل حتى لو كان وحيد، وأنه سوف ينظر إليك دائماً من السماء بفخر." تلقى آدم تلك الكلمات بانهيار شديد. كانت تلك الكلمات أكبر من حطام العالم وأصوات الحروب، كأنها الطلقات التي صوبت على قلبه بلا رحمة. دخل الغرفة على والده، فوجده مغطى بقماش. اقترب منه بخطوات ثقيلة جداً، كان القلب يكذب العين، وكأن هذا ليس إلا كابوساً سيخرج منه الآن. وقف عند رأس والده، كشف القماش عن وجهه، والدموع تتساقط. قال: "أهكذا يودع الحبيب حبيبه؟ انظر يا أبي، لقد اشتريت لك الدواء. ها هو، قم يا أبي لتأخذ الدواء. هيا يا أبي... لمن سوف تتركني؟ هل لي من أحد آخر كنت أتكلم معه كل يوم؟ من سوف آخذ رأيه في كل شيء؟ هل لي من صديق غيرك!؟ لا تودعني هكذا..." ظل يصرخ حتى انقطع صوته وجفت عيناه من الدموع، ولكن دموع القلب لم تجف.


قلم يُنير العتمة

مرت الأيام على آدم، فازداد وحدة وعزلة. قرر أن يصادق قلمه، ويحكي للعالم من خلال كلماته. ذات يوم، كتب أول رواية له، ثم ذهب إلى أحد النقاد وأهداه نسخة ليأخذ رأيه. نظر إليه الناقد باشمئزاز، قائلاً: "وهل يعرف أمثالك فن الكتابة والإبداع حتى يكتبوا الروايات العظيمة؟" نظر إليه آدم وابتسم: "ومتى كان كبار النقاد يحكمون على الكتاب من الغلاف؟ اقرأها يا سيدي، وإذا أعجبتك أعني على نشرها." ألقى الناقد النسخة في وجهه، وقال بغضب: "وهل عندي وقت لأمثالك حتى أقرأ لهم؟"

أخذ آدم النسخة من الأرض، والدموع تتساقط عليها. ثم قال له: "اليوم ألقيت كلماتي أرضاً، وتلك الدموع سقتها. فانظر غداً إلى حصادها وهي تحتل عالمك." غادر آدم إلى بيته مسرعاً. جلس يحدث نفسه بحزن: "أخاف أن أكون في الحياة عابراً، لا ذكرى لي تبقى ولا أحد لي ذاكراً. ولكن إن استسلمت اليوم، فإني أخاف على من هو مثلي في الأجيال القادمة."

مرت الأيام سريعة، حتى سمع عن وجود أحد الكُتاب يساعد الموهوبين. ذهب آدم إلى بيته لعرض روايته عليه. عند وصوله، وجد رجلاً عجوزاً جالساً خارج البيت على كرسي خشبي. قال له آدم: "إذا سمحت يا سيدي، هل هذا هو بيت الكاتب إدريس خليل؟" قال له الرجل: "نعم، ولكن من أنت؟" قال آدم: "أنا كاتب، وعندي رواية أريد أن أعرضها عليه." نظر الرجل العجوز إليه وضحك: "وهل أصبح الجميع كُتاباً تلك الأيام؟ إذا كنت كاتباً حقاً، سأسألك عدة أسئلة. هل أنت موافق؟" قال آدم: "ولما لا، اسأل ما تريد."

قال العجوز: "صف لي الحياة." نظر إليه آدم وقال: "هي العزلة التي حطمتني في صغري دون أسباب. هي الحرب التي دمرتنا. هي الفقر الذي أصابنا. هي الألم الذي قتل والدي بلا رحمة. هي القسوة التي ألقت بكلماتي على الأرض. هي التي تعلم من أكون، فتحاربني حتى لا أغيرها." نظر إليه الرجل بإعجاب: "ما اسمك أيها الكاتب؟" قال: "آدم."

قال له: "وما هو أصعب شيء في الحياة؟ هل عندما تموت وحيداً؟ أم عندما تموت منسياً؟" قال آدم: "لقد عشت وحيداً، وأخاف أن تموت كلماتي من بعدي فأصبح منسياً." قال العجوز: "ولماذا أنت وحيد؟ أليس عندك من يعتني بك؟" قال آدم: "أحدث نفسي في جوف كل ليلة قائلاً: اعتني بنفسك تلك الأيام جيداً، فالحياة لن تعتني بأحد."

أُعجب العجوز بتعبيرات هذا الشاب ووصفه لكل سؤال. فقال له: "أنا إدريس خليل الذي جئت لتراه." قال آدم: "نعم، علمت من تكون منذ جئت." قال: "وكيف عرفت؟" قال آدم: "لم تجمعنا الحياة من قبل، ولكن جمعتنا الكلمات. عرفتك من أسئلتك كما عرفتني من إجاباتي." وقف العجوز واقترب من آدم، ثم وضع يده على كتفه وقال: "إني أرى فيك كاتباً لا بد من الوقوف احتراماً له. سأقرأ روايتك وسأساعدك." فرح آدم بتلك الكلمات، وكأن بعض السعادة هربت من سجن الحياة وجاءت إليه اليوم.

أصبح آدم يزور الكاتب إدريس كثيراً. ساعده إدريس في نشر روايته، حتى اشتهرت في أرجاء المدينة. أصبح له أعمال كثيرة، وجمهور من القراء يتابعه، حتى لقب بـ "طاوس الأدب" من جمال كلماته وإبداعه.


حفل لم يشهده أحد

ذات يوم، ذهب أحد النقاد للقاء آدم. سأل عن بيته حتى وصفوه له، وكان في تعجب عندما رأى البيت؛ ما هو إلا بيت عادي جداً، يستحيل أن يكون كاتب عظيم ومشهور جداً يعيش فيه. دق الباب، ففتح له رجل يبدو عليه البؤس والحزن. قال له: "من أنت؟" قال الناقد: "أنا الناقد جبريال روس. هل هذا بيت الكاتب آدم؟" نظر إليه بتعجب وقال له الرجل: "نعم هو. تفضل بالدخول."

دخل الناقد، وعندما جلس، بدأ ينظر إلى حال البيت من الداخل، كانت أسوأ من الخارج. فقال له الناقد: "اعذرني أيها السيد، هل حقاً الكاتب الشهير آدم يعيش هنا؟" قال له مبتسماً: "نعم، وما الغريب في ذلك؟" قال: "لا شيء، ولكن كاتباً مثله أعتقد أنه أصبح يملك من المال ما يجعله يسكن في مكان أجمل." قال الرجل: "أفلا نكتب عن الفقراء ولا نتبرع لهم؟ أفلا يصف الكُتاب قسوة الحياة من أجل معالجتها أم لتكون قلوبهم مثلها؟" قال الناقد: "أنت هو آدم حقاً؟" قال آدم: "وما زالت كلماتي تعرفني قبل أن تعرفني الأسماء. اسمع يا سيد جبريال، لو كان كل البشر يقدرون قيمة الناس بالمظاهر فقط، لكنت أنا اليوم منسياً بين جموع الفقراء. إن الجمال دائماً ينبع من داخل الخراب أو الظلام. ألم تنظر إلى القمر يوماً؟ إن جماله ونوره ينبع من داخل الظلام الدامس. لو استمع لكلماتي وجاء لينير في النهار، لاختفى نوره وضاعت قيمة الجمال فيه."

نظر إليه الناقد بتأثر وقال: "قل لي، لمَ يظهر عليك البؤس والحزن هكذا؟" قال آدم: "ومن أين تأتي السعادة وأنا أصف كل يوم أحوال الناس من حولي؟" قال الناقد: "صف لي الوحدة." قال آدم: "الوحدة أن يصادق الكل كلماتي، وأظل أنا بلا صديق." تأثر الناقد وقال بحزن: "كيف لشخص مثلك أن يكون وحيداً؟" قال آدم: "الحب هو أن تريد إنساناً دون انتظار شيء منه. تريده هو فقط، وتحبه هو فقط، وتستأنس به وحده. أما الجميع، فأحبوا كلماتي وأحبوني لأني كاتبها، وأرادوني لوصفي لحالهم فيها. أما أنا، فقد رأيتهم يتجاهلون وجودي وعزلوني قبلها عنهم بقسوة. فعتبت الحياة فيهم، فنال عتابي للحياة إعجاب الجميع."

قال الناقد بحزن شديد: "أنت فخر للعالم يا سيد آدم. يجب أن يعرف العالم قصتك ويعرفوا من هو آدم الإنسان، وليس آدم الكاتب فقط. سوف أقيم أكبر حفل شرفاً لك ليجتمع الجميع للاحتفال بك وبآخر أعمالك القادمة. استعد يا سيد آدم، اليوم هو السابع عشر من الشهر. سأجعل الحفل في نهاية هذا الشهر." ثم ودع الناقد آدم ورحل.

بعد مرور 11 يوماً، وقبل الحفل بيومين، دق باب آدم الكاتب إدريس. استقبله آدم. قال له إدريس: "أصبح الجميع يستعد للحفل، وناس ستأتي من كل مكان. إنه يوم مهم لك يا آدم، سيعرف العالم من أنت حقاً." قال آدم: "اسمعني يا سيد إدريس، بعد موت أبي ومن ثم أمي، لم يبق لي أحد بجواري إلا أنت. لقد وقفت بجانبي كثيراً وساعدتني حتى أصبحت ما أنا عليه اليوم. أريد أن أهديك آخر رواياتي وكلماتي. لا تفتحها إلا يوم الحفل في الصباح أمام الجميع إذا تأخرت. عدني بذلك." تعجب إدريس من كلمات آدم التي لم يفهم منها شيئاً، لكنه وعده ألا يقرأها إلا يوم الحفل في الصباح.

جاء يوم الحفل في الصباح. اجتمع الناس من مختلف الأماكن، حفل ضخم دعوا له الجميع من كل الطبقات. الجميع واقفاً ينتظر لحظة قدوم ذلك الكاتب الذي سمعوا عنه الكثير. ولكن الدقائق تمر مسرعة، ثم من خلفها الساعات. بدأ الناس يسألون عن آدم ومتى يأتي. ذهب الناقد جبريال إلى إدريس الذي كان واقفاً في الحفل ينتظر آدم ممسكاً بروايته الجديدة. قال له: "أين آدم؟ ولماذا تأخر هكذا؟" قال إدريس: "قال لي إنه سيأتي في الصباح وحده... ولكني لا أعلم لماذا تأخر هكذا."

ثم تذكر إدريس كلمات آدم: "اقرأ روايتي وكلماتي الأخيرة لو تأخرت." فإذا به يقف أمام الجميع وينادي بصوت عال، يحدثهم عن ما قاله آدم له بأن إذا تأخر في القدوم، فليقرأ عليهم هذا. ثم فتح الرواية وقرأ بصوت عال، ليجد أول الكلمات مكتوبة فيها، وإذا بالدموع تنهمر منه. كُتب:

"وإن تغلّب عليّ المرض وكان اليوم آخر يوم لي بينكم، فقد أهديكم كلماتي. أردتم أن تعرفوا من أنا، فها هي كلماتي تخبركم عني. عشت في مستنقع يملؤه الفقر والعنصرية والحروب. قادتني الحياة إلى العزلة والوحدة. ولكني أحببتها، وجدت فيها نفسي، وصفت فيها كل شيء، اكتشفت فيها النفس والحياة. واكتشفت أنه عندما ينعزل الإنسان عن الجميع، تبدأ الراحة. يبدأ العقل في التأمل والتفكر، وسؤال دائماً يطرحه عليّ... هل جئنا إلى الدنيا عبثاً، نحسب من ضمن الخلق فقط؟ أم لكل واحد منا دور في الحياة؟ ولو كان صغيراً جداً، فإنه جاء إلى الدنيا ليكون في هذا الدور. وها أنا أحدثكم من داخل وحدتي وعزلة العالم، من شخص مرّ بكل شيء قاسٍ. كتبت عن الوحدة مئات الكلمات، بل الآلاف، لم أجد كلمة تصف ما أشعر به أكثر من (إني وحيد). أحدثكم من داخل الوحدة القاسية التي لا ترحم، من وسط الأفكار المتجادلة والمحادثات الدائرة بيني وبين نفسي طوال تلك السنين. كم تمنيت يوماً أن يكون هناك أحد بجواري يهتم بوجودي، ويفتقد غيابي، يحدثني كل يوم لا ينتظر حتى أحدثه أنا ليطمئن عليّ.

وفي اليوم الذي أخبرتموني فيه أنكم ستجتمعون لتعرفوا من أنا، لم يكن أنا ما جمعكم. بل ما جمعكم اليوم إلا كلماتي. لم يأتِ أحد ليعرف من أنا حقاً، بل جاء الجميع إعجاباً في كلماتي. عندما لا أكون معكم، فإن كلماتي عني تحدثكم كمعانٍ لصاحب الكلمات حتى تصل الكلمات لكم..."


اعتراف أخير

تغيرت ملامح الجميع إلى الحزن، والدموع تتساقط من البعض. وكيف لا تحزن تلك القلوب وهي تسمع كلمات خرجت من إنسان عانى اضطهاد البشر والسخرية منه حتى جعلوه منعزلاً؟ أسرع الجميع إلى بيت آدم، حتى وجدوه ميتاً بين أوراقه، ممسكاً بورقة مكتوب فيها:

"لم أكن سيئاً يا وحدتي. كل ما في الأمر أني تمنيت أن يكون هناك من يهتم بأمري، فابتعد الجميع عني. لم أكن أريد دموعهم يوم رحيلي، بل كنت أريد احتضانهم لي في حياتي. لا تقسوا على أولئك الذين يكونون مثلي في الأجيال القادمة، فما مررت به كان قاسياً جداً، فلا تعيدوا التجربة المؤلمة لهم أيضاً."


النهاية.

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

1

followings

0

followings

1

similar articles