رحلة فاليري بوليكوف الفضائية: أطول مهمة في التاريخ وتأثيرها الجسدي والنفسي على الإنسان

رحلة فاليري بوليكوف الفضائية: أطول مهمة في التاريخ وتأثيرها الجسدي والنفسي على الإنسان

0 المراجعات

رحلة فاليري بوليكوف الفضائية: أطول مهمة في التاريخ وتأثيرها الجسدي والنفسي على الإنسان

تخيل أن تغادر كوكب الأرض لمدة 437 يومًا متواصلة، وتعيش في عزلة تامة داخل محطة فضائية صغيرة تدور حول الأرض بسرعة تقارب 28,000 كم/ساعة. في هذا العالم الغريب، لا توجد جاذبية، لا توجد حياة اجتماعية، لا يوجد ضوء شمس طبيعي، ولا حتى رائحة طبيعة. هذا بالضبط ما عاشه الدكتور الروسي فاليري بوليكوف، رائد الفضاء والطبيب الذي أجرى أطول مهمة فضائية فردية في التاريخ. لكنّ ما هو أبعد من الرقم القياسي هو السؤال الأهم: كيف أثّر هذا كله على جسده… وعلى نفسه؟


من هو فاليري بوليكوف؟

د. بوليكوف لم يكن مجرد رائد فضاء، بل طبيب نفسي مختص بالطب الفضائي، كرّس حياته لفهم تأثير بيئة الفضاء القاسية على جسم الإنسان وعقله. ولأنه كان يؤمن بأن أول رحلة إلى المريخ يجب أن تستند إلى أدلة طبية واضحة، قرر أن يكون هو نفسه التجربة.

انطلق في مهمته الثانية والأهم في يناير 1994، واستمرت حتى مارس 1995، قاطعًا خلالها أكثر من 300 مليون كيلومتر، ومحاكيًا المدة الزمنية التي قد تستغرقها رحلة ذهاب وإياب إلى المريخ.


التحديات الجسدية: ماذا حدث لجسد بوليكوف؟

كما ذكرنا سابقًا، واجه الدكتور بوليكوف:

ضمور العضلات وفقدان كثافة العظام رغم التمارين اليومية.

ارتفاع السوائل إلى الرأس ما أدى إلى انتفاخ الوجه ومشاكل مؤقتة في الرؤية.

اضطرابات في جهاز التوازن في بداية المهمة.

تغيرات في القلب وشكله ووظيفته تحت تأثير انعدام الجاذبية.

انخفاض في كفاءة الجهاز المناعي مما جعله أكثر عرضة للعدوى.

كل هذه التغيرات الجسدية كانت متوقعة ومدروسة بدقة، وهو تعامل معها بخطة يومية صارمة، لكن ما لا يقل أهمية عنها هو ما حدث داخله… في أعماقه النفسية.


التأثير النفسي: حياة في عزلة خارج الأرض

رغم أن بوليكوف كان متخصصًا في الطب النفسي، إلا أن البيئة الفضائية وضعت قدراته الذهنية على المحك. فهناك في الأعلى، لا يوجد ليل أو نهار كما نعرفه. تدور المحطة حول الأرض مرة كل 90 دقيقة، فيتناوب الضوء والظلام عشرات المرات في اليوم الواحد، ما يسبب اختلالًا في الساعة البيولوجية.

1. العزلة الطويلة

أكبر تحدٍ نفسي واجهه بوليكوف كان العزلة الاجتماعية. فعلى مدار 14 شهرًا، لم يكن له سوى رفيق أو اثنين لفترات، ثم بقي وحده. لم يكن هناك وجوه جديدة، لا زيارات مفاجئة، لا أحاديث غير مخططة. هذه العزلة المزمنة قد تؤدي، حسب الدراسات، إلى القلق، الاكتئاب، انخفاض الدافع، وأحيانًا اضطرابات في الإدراك.

لكن بوليكوف تجاوز هذه المحنة الذهنية من خلال:

إنشاء روتين يومي صارم يمنحه شعورًا بالتحكم والهدف.

تدوين المشاعر والملاحظات في سجل شخصي.

التواصل مع العائلة عبر الراديو – وإن كان محدودًا.

متابعة الأحداث العالمية بشكل منتظم لإبقاء نفسه متصلًا بالحياة على الأرض.

2. ضغط المهمة نفسها

كونه مسؤولًا عن تجربة علمية ضخمة، وكان هو العينة والطبيب والمراقب، شكّل هذا عبئًا نفسيًا هائلًا. فقد شعر أحيانًا أنه إذا أخطأ في نظامه الصحي أو انهار نفسيًا، فإن ذلك يعني فشل مهمة علمية تخصّ مستقبل البشرية في استكشاف المريخ. هذه المسؤولية الشخصية الثقيلة جعلته في حالة توتر مستمر، حتى مع ابتسامته أمام الكاميرات.

3. اضطراب في الإيقاع اليومي

العيش في بيئة حيث يتبدل الليل والنهار كل ساعة ونصف، أثر على نومه. في بعض الأحيان، كان يعاني من الأرق، أو النوم المتقطع. ومع اضطراب دورة الميلاتونين، أصبح من الضروري برمجة ساعات الضوء والظلام داخل المحطة اصطناعيًا، وهي مهمة لم تكن آنذاك متطورة كما اليوم.

4. أحلام غريبة وتصورات عقلية غير معتادة

وفقًا لتقارير روسية غير منشورة بالكامل، دوّن بوليكوف خلال الرحلة أنه بدأ يرى أحلامًا أكثر واقعية وأطول من المعتاد، كما راوده شعور غريب بانفصال عن الزمن. هذا يتوافق مع حالات تشبه "العزلة الحسية الطويلة"، حيث يُفرز الدماغ محتوى بصري وذهني لتعويض غياب التنبيه الخارجي.


بعد العودة… صدمة العودة إلى الأرض

في 22 مارس 1995، عاد بوليكوف إلى الأرض. جسديًا، كان متعبًا لكنه سليم. نفسيًا، كانت الصدمة أكبر:

ازدحام الأصوات: صرّح لاحقًا أنه شعر بانزعاج من الأصوات الكثيرة عند عودته – المراوح، السيارات، الضجيج – بعدما اعتاد على السكون الفضائي شبه الكامل.

أعراض ما بعد العزلة: شعر لأسابيع بحاجة للانفراد، وواجه صعوبة في النوم وسط الضوضاء الطبيعية للأرض.

تغير النظرة للحياة: قال إن التجربة جعلته يقدّر بساطة الحياة اليومية، الضوء الطبيعي، رائحة الخبز، والهواء النقي – أشياء كان يراها عادية قبل رحلته.

لكن في النهاية، تعافى نفسيًا بالكامل، بل كتب لاحقًا: "في الفضاء وجدت هدوءًا داخليًا لم أجده على الأرض."


إرث بوليكوف: الإنسان يمكنه أن يصمد… في الفضاء

لم تكن تجربة بوليكوف مجرد إنجاز شخصي أو رقم قياسي، بل كانت مفتاحًا لفهم العوامل النفسية والجسدية للرحلات الطويلة. لقد ساهم في تطوير:

أنظمة الدعم النفسي لرواد الفضاء.

تقنيات العزل والإضاءة للتحكم في الإيقاع اليومي.

برامج تمارين تعزز الصحة النفسية والجسدية.

استراتيجيات التأقلم للعزلة والمراقبة الذاتية.


خاتمة

رحلة الدكتور فاليري بوليكوف كشفت لنا أن التحدي في الفضاء ليس فقط عضليًا أو قلبيًا، بل أيضًا عقليًا ونفسيًا. فالجسد يمكن تدريبه، لكن النفس تحتاج إلى رعاية أعمق. تجربته الملحمية لم تثبت فقط أن الإنسان قادر على البقاء في الفضاء لفترة طويلة، بل أثبتت أن الصبر، الانضباط، والهدف الواضح يمكن أن يمنحنا القدرة على الصمود حتى في أقسى الظروف الكونية.


المصادر:

NASA – Human Research Program: Muscle and Bone Loss in Space

ESA – Valery Polyakov: The Man Who Lived in Space for 437 Days

Smithsonian Magazine – The Longest Time Anyone Has Spent in Space

Journal of Physiology – Cardiovascular Effects of Microgravity

NASA Science – Vision Changes and Intracranial Pressure in Space

NIH – Effects of Long-Duration Spaceflight on Immune Function

Roscosmos – Medical and Psychological Reports from the Mir Program

The Psychologist – Coping with Isolation and Confinement in Space Missions

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

4

متابعهم

0

متابعهم

3

مقالات مشابة