
🦅 عبد الرحمن الداخل: صقر قريش الذي أنشأ دولة من رماد
السقوط العظيم وبداية الهروب
ولد عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك في الشام سنة 113هـ (731م)، ونشأ في ظل مجد الدولة الأموية. لكن هذا المجد سرعان ما تحوّل إلى دماء، حين سقطت الدولة الأموية على يد العباسيين سنة 132هـ (750م). بدأ العباسيون بملاحقة كل من تبقى من الأمويين، وأبادوا أسرته بالكامل تقريبًا.
هرب عبد الرحمن إلى الصحراء، عابرًا نهري دجلة ثم الفرات، متنكرًا أحيانًا، ومقاتلًا أحيانًا أخرى، حتى وصل إلى شمال أفريقيا. وهناك تنقّل بين قبائل البربر، يقاتل من أجل البقاء، ويجمع حوله أنصارًا من العرب والموالي، ليتحول من لاجئ إلى زعيم.
العبور إلى الأندلس
في سنة 138هـ (756م)، قرر عبد الرحمن أن ينهي رحلته المأساوية ويبدأ فصلاً جديدًا. عبر البحر إلى الأندلس، حيث كانت البلاد تعيش حالة من الفوضى والاقتتال بين القادة الطامعين من العرب والبربر.
لكنّه لم يكن قائدًا عاديًا، بل جمع الذكاء العسكري، والدهاء السياسي، والكاريزما القوية. وفي معركة "المصارة" قرب قرطبة، هزم والي العباسيين، وأعلن نفسه أميرًا مستقلًا على الأندلس، مؤسسًا دولة أموية جديدة على أطراف أوروبا، بعد أن ظن الجميع أن الأمويين قد انتهوا إلى الأبد.
بناء الدولة من الصفر
كان الداخل رجل دولة بكل معنى الكلمة. بدأ بإرساء الأمن، وقام بإعادة تنظيم الإدارة، وضبط النزاعات القبلية، وقام بتطوير الزراعة، وبناء الجسور والقنوات، واهتم بالعلم والعمران.
أنشأ مسجد قرطبة العظيم، الذي أصبح رمزًا للهوية الإسلامية في أوروبا، وبنى حوله مدينة زاهرة أبهرت كل من زارها.
قاتل الخوارج، وقمع التمردات الداخلية، وصدّ الحملات التي أرسلها العباسيون ضده من وراء البحر، وكان يُلقب بين العرب والصليبيين على حدٍ سواء بـصقر قريش — وهو اللقب الذي منحه له العباسي الشهير: الخليفة المنصور نفسه.

التشابه مع نور الدين زنكي
كما مهّد نور الدين زنكي الطريق لصلاح الدين، فإن عبد الرحمن الداخل مهّد الطريق لقيام حضارة أندلسية استمرت أكثر من 700 سنة.
كان كلاهما يملك إيمانًا عميقًا، وعقلاً إداريًا متزنًا، ورؤية بعيدة الأمد.
نور الدين أعاد توحيد الشام ومصر لمواجهة الصليبيين،
والداخل أعاد توحيد الأندلس وأوقف النزاعات القبلية، وبدأ نهضة إسلامية في أوروبا الغربية.
كلا الرجلين كانا زاهدين في الدنيا، أقوياء في الحُكم، لم يركضوا خلف الترف بل خلف الرسالة.
وفاته وإرثه العظيم
توفي عبد الرحمن الداخل سنة 172هـ (788م)، بعد أكثر من 30 عامًا من الحكم، تاركًا خلفه دولة راسخة، وعاصمة ثقافية هي قرطبة، وبذور حضارة أندلسية عظيمة امتدت من بعده عبر أحفاده.
لقد جاء إلى الأندلس وحيدًا، مطاردًا، لا يملك جيشًا ولا دولة… لكنه صنع المجد من العدم.
خلاصة ملهمة
سواءً نظرت إلى نور الدين زنكي في الشام أو عبد الرحمن الداخل في الأندلس، ستجد أن التاريخ لا تصنعه الظروف، بل تصنعه الرجال المؤمنون برؤيتهم. رجال حوّلوا الرماد إلى نار، والشتات إلى حضارة.