
🕌 هارون الرشيد: الخليفة الذي أضاء حضارة الإسلام
وُلد هارون الرشيد سنة 149هـ في مدينة الري، ونشأ في كنف الدولة العباسية التي كانت في أوج قوتها بعد نجاحها في تثبيت حكمها. كان والده الخليفة المهدي، ووالدته الخيزران، الجارية اليمنية الذكية ذات التأثير القوي في القصر العباسي.
تلقّى الرشيد تعليمه على يد علماء كبار مثل الكسائي والفضل بن الربيع، وتعلّم فنون القيادة والفقه والأدب. وحين شبّ شابًا قويًا، ولاه أبوه إمارة المناطق الغربية في الدولة، وقاد حملات ناجحة ضد البيزنطيين، مما عزز من مكانته.
خلافته.. بين السيف والقلم
تولّى هارون الرشيد الخلافة سنة 170هـ بعد وفاة أخيه الهادي. وما إن استقر على العرش حتى بدأ في تنظيم شؤون الدولة، فعزل بعض الولاة الظلمة، ورفع من شأن العلماء، وكان يزور الإمام مالك ويستمع إلى آرائه، ويكرم الشافعي، ويستشير العلماء في القضاء والسياسة.
وفي عصره، بلغت الدولة العباسية أقصى اتساعها، من حدود الصين شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، وكانت ترسل الجزية حتى من الإمبراطورية البيزنطية، ويُقال إن الإمبراطورة إيريني أرسلت له الهدايا وتهادت معه الكتب.
وقد كتب المؤرخون عن رهبة الملوك من اسمه، حتى إن الرشيد كان يخاطب السحاب قائلًا:
"امطري حيث شئتِ، فإن خراجكِ عائد إليّ!"
بيت الحكمة ونهضة المعرفة
لكنّ أعظم إنجازات الرشيد لم تكن العسكرية فقط، بل حضارية وعلمية. فقد أسّس بيت الحكمة في بغداد، وهو أشبه بمجمع علمي ضخم يجمع المترجمين والعلماء من كل الأديان، لترجمة العلوم من الفارسية واليونانية والهندية إلى العربية.
جاء إليه العلماء من كل مكان، وتقدّم فيه الطب والهندسة والفلك والفلسفة. وكان الرشيد ينفق ببذخ على العلماء، ويقدّر جهودهم، بل كان يعطي وزن الكتاب ذهبًا لمن يترجمه أو يؤلفه.
حياته الخاصة.. بين الترف والورع
ارتبط اسم الرشيد في كتب الأدب بالترف والقصور، وكان قصره يعج بالجواري والمغنين والشعراء، ومن أشهرهم أبو نواس. لكنه في الوقت ذاته، كان معروفًا بصلاته وعبادته. فقد حج أكثر من مرة، وكان يصلي مئة ركعة في الليل، ويتصدق كثيرًا.
تقول الروايات إنه كان إذا سمع آية فيها وعيد، بكى وتأثر، وكان يقول:
"اللهم لا تجعل نصيبي من هذا الملك عذابًا في الآخرة."
كان صديقًا للأدب والحكمة، ومعجبًا بالبُلغاء، يحب الاستماع للقصص، ويظهر كثيرًا في ألف ليلة وليلة صُوّر فيها بصورة الحاكم الحكيم المتفقد لرعيته ليلًا.
وفاته
توفي هارون الرشيد سنة 193هـ في مدينة طوس بخراسان (إيران حاليًا)، أثناء خروجه لإخماد تمرد. دُفن هناك، وبقي قبره مزارًا حتى اليوم. وقد ودّع الحياة وهو يقول:
"يا مَن لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه."
خاتمة:
كان هارون الرشيد شخصية متكاملة: سياسي محنّك، وقائد عسكري، وراعٍ للعلم، وزاهد في قلب القصور. ترك خلفه دولة واسعة، وحضارة أثّرت في كل من جاء بعده، وصورة مشرقة من صور تاريخ المسلمين.